كان الهجوم على ليبيا، كما قلت، تقليدا هزيلا للهجوم الإسرائيلي صباح 5 يونيو 1967 على القواعد الجوية المصرية، ويقول السفير الأمريكي في القاهرة هرمان آيلتس بأنه ))أطلع على صور استكشافٍ قامت به الأقمار الصناعية فوق منطقة العمليات، واتضح منها أن ناقلات الجنود المصرية إلى الحدود الليبية تعطلت على الطرقات، وبأن عدم نجاح العملية العسكرية قد يؤدي إلى فقدان الجيش المصري ثقته بنفسه )..( والنقطة المركزية هنا هي أن أرض العمليات واسعة جدا، والسيطرة عليها شاقة، خصوصا إذا لجأت ليبيا إلى المقاومة على طريقة حرب العصابات((. وأحدث الهجوم على القاعدة الليبية خسائر كبيرة، ومن المُحزن أن الجرحى نقلوا إلى مستشفى طبرق الذي كان يضم مجموعة من الأطباء المصريين العاملين في إطار القوات الليبية، كان تصرفهم رائعا ونبيلا، ليس فقط من الناحية المهنية بل من الناحية الوطنية، ويقول هيكل )ص 331( أن ))الصورة كانت مأساوية لدرجة أن الجراح المصري الدكتور مصطفي الشربيني بعث ببرقية إلى الرئيس السادات يقول له فيها أنه كان يُجري العمليات للجرحى من الضباط والجنود الليبيين وهو لا يكاد يرى مواقع جراحهم، لأن الدموع كانت تملأ عينيه((. وكان الهجوم المصري صدمة هائلة للرئيس هواري بو مدين، فتوجه فورا، على رأس وفد محدود، إلى طرابلس ثم إلى الإسكندرية، حيث كان السادات يقضي أيام الصيف في أحد القصور الملكية، قد يكون قصر المنتزه )على ما أتذكر (وتوجه الرئيس إثر وصوله لمقابلة السادات مرفوقا بوزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة، بالإضافة إلى الأخ مولود حمروش مدير التشريفات الرئاسية، وقيل لنا آنذاك أن الجانب المصري أصرّ على ضغط العدد، وهكذا ظللنا في الفندق، ورحنا، الأخ عبد الملك كركب مدير الأمن الرئاسي وأنا، نضرب أخماسا في أسداس في مقر إقامتنا، وعرفنا فيما بعد أن اللقاء بين الرئيسين كان بالغ التوتر، وهو ما أكده هيكل (ص 333) وراح السادات يُعدد مبرراته قائلا بأن ))القذافي كان يتحرك بمخطط مرسوم له من موسكو، وهو يقوم ضده بحملة كراهية ويعبئ الشعب الليبي ضده للتغطية على مشاكل ليبيا الداخلية، وهكذا افتعل مشكلة مع مصر ولم يكن أمام السادات إلا الرد عليها، خصوصا عندما بدأ القذافي يستعمل وسائل الحرب البكتيريولوجية ضد القوات المصرية )!!!( وقام بتسميم عدد من الآبار التي تعتمد عليها القوات المصرية للحصول على ماء الشرب((. وراح السادات يُردد أمام بومدين : سيبوني أأدّبه. وفوجئت واشنطون بالتصعيد الخطير الذي حدث، وبينما كان السادات يتصور بأن الولاياتالمتحدة لا تمانع في عمل يقوم به لتأديب الزعيم الليبي، فلم يكن في واشنطون من هو مستعد لفكرة استيلاء مصر على حقول النفط الليبية، ولعل آخر ما كان يتصوره السادات هو أن يتلقى طلبا حازما منها بإيقاف عملياته العسكرية. ودام اجتماع بو مدين مع السادات حوالي ست ساعات، ثم عدنا إلى طرابلس بعد أن بدأت إجراءات وقف إطلاق النار، بينما تقاطر قادة كثيرون على مصر لركوب قاطرة التهدئة التي قادتها الجزائر، وكان من بين القادمين الرئيس أياديما رئيس التوغو، ورئيس منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك، الذي اصطحب معه آدم كوجو الأمين العام للمنظمة. ولم يُعرف دورٌ للجامعة العربية أو للمؤتمر الإسلامي آنذاك، كما حدث في الكثير من المشاكل التي لم يتحرك فيها المهماز، وترددت حول موقفهما النكتة التي تشير إلى تصرف القوات الملكية العراقية خلال حرب فلسطين في 1948، عندما رفضت التحرك للدفاع عن اللد والرملة، والذي لخصته كلمتا : ماكو أوامر. وهكذا فشلت حملة السادات على ليبيا، وأضيفت إلى الضربات الموجعة التي تلقاها في النصف الأول من العام، والتي بدأت بانتفاضة يناير الشعبية، ثم تلاها في مايو نجاح كتلة الليكود بزعامة مناحم بيغين، وسقوط حزب العمل الذي كان يظنه متفهما لمطالبه، وسيكون من الضربات الموجعة التي تلقاها النظام في نفس العام قيام مجموعة الهجرة والتكفير في نفس الشهر باختطاف الشيخ محمد حسين الذهبي وإعدامه، وكان الذهبي وزيرا للأوقاف في حكومة ممدوح سالم وتصدى للفساد في وزارته، ويقال أن ذلك ألب عليه شخصيات نافذة ومستفيدة من أموال الأوقاف، فنُحّي عن منصبه وعُيّن مكانه الشيخ محمد الشعراوي، الذي نسبت له مقولة عن السادات تقول بأنه : لا يُسأل عمّا يفعل، وهو الذي صرح للتلفزة، وسمعت ذلك بنفسي، بأنه ))عندما عرف بهزيمة مصر في حرب 1967، صلّى ركعتين شكرا لله، فلو انتصرنا لنسب النصر للشيوعيين(( وكان معروفا بكرهه الشديد لعبد الناصر، وهو ما لم ينجح مسلسل إمام الدعاة في إخفائه، وإن كان أعطى للشيخ فوق ما يستحقه خلال وجوده في الجزائر، ولم يسأله طارق منيب يومها عن رأيه في السدّ العالي، الذي يعود للسوفييت فضل كبير في بنائه، وعمّا إذا كان لا بد من هدمه. وفي هذا الإطار يقول الدكتور عاصم الدسوقي بأنه : عندما تولى السادات السلطة أراد أن يبرر كل توجهاته المستقبلية، فأتى بعدد من الذين اختلفوا مع عبد الناصر، ومن بينهم الفريق أحمد إسماعيل، الذي عزله عبد الناصر نتيجة أخطاء في حرب يونيو 1967، وكذلك أنيس منصور الذي فُصل من رئاسة تحرير مجلة »الجيل الجديد« )..( وكذلك أثرياء الأسر التي أضيرت من الإصلاح الزراعي )..( وهؤلاء أسندت إليهم مهمة مهاجمة عبد الناصر )..( وقد نجح السادات في استقطاب كل من كان له تحفظ على الرئيس الراحل وكل من أضير من قرارات الثورة وسياساتها بدرجة أو أخرى )..( وفي مرحلة تالية سيبدأ التركيز على العرب في الهجوم. وكان جيمي كارتر قد بدأ اقترابه من أزمة الشرق الأوسط بدعوات وجهها إلى عدد من ساسة المنطقة للقاء به، واعتمد آنذاك مشروع معهد ((بروكينز)) الشهير للأبحاث في واشنطن، والذي كان من بين مستشاريه بريجينسكي ووليم كوانت، ليكون أساس تحركه الذي سوف يعتمد على أربع نقاط محددة. * - انسحاب إسرائيل من ))معظم(( الأراضي التي استولت عليها عام 1967، ويتم الاتفاق على الحدود الجديدة الآمنة بالتفاوض بين الأطراف. * - إقامة علاقات طبيعية تماما بين إسرائيل وجيرانها العرب * - أن يكون للفلسطينيين وطن، وليس دولة، في مكان من فلسطين يتفق عليه بين إسرائيل والمتفاوضين العرب معها (وليست هناك كلمة واحدة عن الفلسطينيين وممثلهم الشرعي الوحيد) * - أن يؤجّل موضوع القدس برمته إلى مرحلة لاحقة. ويجتمع كارتر باللجنة الدائمة لمجلس الأمن القومي قبل نهاية يوليو لتقييم وضعية الرئيس المصري، ويقول وزير الخارجية الجديد سايروس فانس بأن السادات قويّ في العموميات ولكنه ضعيف عندما يصل الأمر إلى مستوى تنفيذها، بينما يقول زينو برجينسكي أن مشكلة السادات هي عجزه عن التفرقة بين الحقيقة والخيال (Facts and fiction) ويرسل كارتر الوزير في أوت 1977 إلى منطقة الشرق الأوسط ليناشد كل الأطراف تقديم اقتراحات سلام مكتوبة، وبدا الرئيس السادات، كما يقول إسماعيل فهمي، سعيدا بهذا التحرك، لكن استقباله لفانس يكشف خلفياته ومعالم شخصيته، فعندما قال هذا بأن القرار 242 في رأيهم لا يفرض الانسحاب الإسرائيلي من ))كلّ(( الأراضي التي احتلت في 1967 )وكنت أشرت إلى صياغة اللورد كارادون للقرار( ولكنه يقتضي من الناحية الأخرى ليس فحسب إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل وإنما أيضا التطبيع الكامل للعلاقات، ردّ السادات أنه على اتفاق كامل مع هذا التفسير. ويقول فهمي تعليقا على ذلك أنه : إما أن الرئيس لم يستمع بعناية لما قاله فانس )بالإنغليزية طبعا( أو أنه لم يفهم المعنى المقصود، لكن المهم أن السادات بدا وكأنه غير معني بتطورات القضية، وبدا أن ذهنه مشغول بقضايا أخرى. ويقول هيكل أن فانس حمل إلى السادات خطابا من كارتر )..( فاقترح الرئيس إنشاء مجموعة عمل يرأسها فانس نفسه، وتضم وزراء خارجية مصر وسوريا والأردن وإسرائيل، وتتولى وضع جدول أعمال لمؤتمر جنيف، لكن الاقتراح سقط لأن سوريا عارضته على الفور. وكانت خلفية السادات،كما تصورها الوزير الأمريكي، أنه لا يريد أن تكون التسوية القادمة من خلال مؤتمر عام تحضره كل الأطراف بوفود منفصلة، أو حتى بوفد واحد كما اقترح عليه فانس، فقد فوجئ بالسادات يقول له : إذا جلسنا في وفد واحد فسوف ننفجر من الداخل، لأن كلا منا سيكون له فيتو على الآخر، وكان الحل الأفضل الذي عبر عنه هو أن تتولى الولاياتالمتحدة دور الشريك الكامل في الاتصالات مع إسرائيل. وعاد فانس إلى رئيسه بتقرير جاء فيه أن الرئيس السادات نافذ الصبر وضيق الصدر، وهو آنذاك لم يكن على علم بأن ما شاهده كان مجرد تمثيلية أخفى بها السادات اتصالاته مع الجانب الإسرائيلي عبر القناة المغربية. وتصدم واشنطون باعتراض بيغين على العودة إلى جنيف وعلى الوفد العربي المُوحّد، وتصدر والاتحاد السوفيتي في أكتوبر 1977 بلاغا مشتركا عرضت فيه شروط إحلال السلام في الشرق الأوسط، وكان محوره تأكيد الاعتقاد بأن الطريق الوحيد والفعال هو التفاوض داخل مؤتمر جنيف للسلام، وكان واضحا أن الأمور كانت تتحرك في الاتجاه الصحيح )فهمي – ص 282( لكن ما كان يحدث في الكواليس كان أمر مختلفا، ولعله هو الذي شتت فكر السادات.