تمر أمامنا في مسيرة الحياة وجوه كثيرة، نتواصل معها ردحا من الزمن، ثم لا تلبث تلك العلاقة أن تنقطع تحت تقلبات الزمن، غير أن نمطا من الرجال، أعطاه الله من فضله، مواهب العلم والحنكة والإخلاص وحسن الخلق، فنراه يفرض نفسه ويترك طابعه على جيله، ولا شك أن فقيدنا الأستاذ الفاضل محمد سعيدي، هو واحد من هؤلاء الذين يموتون ولكنهم لا يرحلون. عرفت سي محمد سعيدي، ذلك المثقف المتواضع، دمث الخلق، ذا القلب المفتوح لكل الآراءِ والأفكارِ والملاحظاتِ والإستفساراتِ، يكتب في جميع المواقع بهدوء واتزان، بروية ودراية. لقد كان الفقيد مناضلا صلبا، غيورا على جبهة التحرير الوطني، منافحا عنها بمقالاته ومحاضراته، مستنهضا للهمم الجبهوية، حتى تتحفز في معركة الوطنية والقيم الأصيلة ، وليس ذلك بغريب على محمد سعيدي الذي أبصر نور الحياة سنة.1934في منطقة مجاجة ولاية الشلف، أين تعلم على يد شيوخها، خاصة العلامة الشيخ مجاجي وواصل تعليمه بمعهد بن باديس بقسنطينة ثم جامع الزيتونة، لينخرط بعد ذلك في مدرسة جبهة التحرير الوطني بتونس. كان سي محمد أصيل ذلك المنبت المغموس في تربة الوطن كالوتد الذي يضرب بجذوره في عمق هذه الأرض الطيبة، لا يتزحزح بل يزداد رسوخا وصلابة، مهما اشتدت الصعاب وتنازعت الأهواء، ولذلك كان حب محمد سعيدي للجزائر يسكن وجدانه، كان يتألم لأمراضها، ويأبى فلمه إلا أن ينطق بذلك الألم، حتى يسطر عشقه لوطنه، كانت الكتابة هي البلسم الشافي الذي ينتصر به على وحشة المرض، وكأنه يتحدى بالكتابة والأفكار التي تبقى وتدوم. كان سي محمد سعيدي رجل ثقافة وفكر، كانت الكتابة بالنسبة إليه موقفا وقضية ورسالة ، أليس هو الدكتور المختص في الأدب الروسي، أليس هو أحد أبرز المثقفين في الجزائر، أليس هوالصحفي والكاتب القدير، مدير جريدة الشعب، أليس هو راعي الورشات الثقافية والأدبية في اتحاد الكتاب الجزائريين، حيث احتضن مجموعة كبيرة من الادباء الشباب وأشركهم في الحوار الثقافي. ولأن الكتابة هي مملكته التي يجد فيها راحته، كان دائما يلوذ إلى عالمه الخاص، وهذا ما عهدته في الأستاذ محمد سعيدي، حيث لم ينقطع أبدا عن محاورة الواقع وتحولاته والتفكير في جوهره وأعراضه، وهذا ما تشهد عليه مقالاته ومساهماته الفكرية في أكثر من صحيفة. ظلت أفكار محمد سعبدي تحمل توقيعه الخاص، سواء كان أستاذا في الجامعة أو مسؤولا في جبهة التحرير الوطني أو سفيرا في ليبيا أو مديرا لديوان رئيس المجلس الأعلى للدولة، فالمنصب بالنسبة له ليس عائقا وليس ألقابا تلغي الجوهر، لذلك نجد، أستاذنا محمد سعيدي، يمارس حبه للكتابة. يكتب ما يمليه عليه ضميره وقناعاته الفكرية. لم يستسلم محمد سعيدي للتقاعد ولإكراهات العمر والمرض، بل ظل يقاوم المرض بالكتابة، مرافقا الساحة السياسية والثقافية، مشاركا بآرائه وأفكاره بمقالات قيمة، تحمل وجهة نظره وتدعو إلى إعمال العقل والتحفيز على التفكير بصوت مسموع، لذلك فإن المناصب لم تسرق منه علاقته المتميزة بالمثقفين، حيث كانت تربطه بالكثير منهم صداقة عميقة، ترتكز على الاعتراف بالدور الذي يضطلع به الكاتب والمثقف في ترشيد الممارسة السياسية. لقد رحل الأستاذ سعيدي وقلبه ينبض بحب الجزائر ويهتف بحياة جبهة التحرير الوطني، كما كان يراها ويحلم بها ، فهو مناضل أصيل، مؤمن بالقيم والمبادئ، يرى أن جبهة التحرير الوطني هي الدار الجامعة، بما تمثله من مرجعية في التحرير وفي التعلق بالحرية والعدالة والتقدم. ولا زلت أذكر تلك الجلسات التي جمعتني به، وكان موضوع نقاشنا هو جبهة التحرير الوطني، التي لم يغير انتماءه لها، فلسفة وتنظيما، إلى يوم رحيله، وهي التي شرفته بمسؤوليات قيادية، عضوا للجنة المركزية ومحافظا للحزب بكل من بسكرة وقسنطينة. لم يعزل محمد سعيدي نفسه ولم يركن إلى راحة التقاعد، ظل يقاوم الشيخوخة والمرض في هدوء، وهو الذي كان يقول إن المسؤولية فرصة مؤقتة للخدمة، وإن الاعتزال أو العزل فرصة مؤقتة للنقد والمراجعة. أجد نفسي في هذه الكلمات في نصف الطريق بين الذاتية والموضوعية، إلا أن الحقيقة التي تظل ساطعة هي أنني لم أبد من التنويه إلا القليل مما يستحقه أستاذنا الفاضل، محمد سعيدي، وما أعجزها الكلمات عن الإلمام بمسار هذا المناضل والمثقف والكاتب والصحفي، الذي جمع بين الثقافة والنضال والسياسة، وظل على مدار الأعوام وتغير الأحوال، هو نفسه ، لم يفقد الجوهر والأصل والانتماء. رحمك الله، أستاذنا الفاضل، الدكتور محمد سعيدي، وأفاض على تربة قبرك رحمة ونورا.