حمدا لله على سلامتك، أستاذنا الكبير وصديقنا العزيز، الدكتور محمد العربي ولد خليفة، وشكرا لله على عودتك سالما معافى. فنحن في حاجة إليك أستاذا وأخا وصديقا، في حاجة إلى وطنيتك الصادقة ومشاعرك الإنسانية النبيلة، في حاجة إلى علمك وفكرك، إلى منبتك الأصيل المغموس في تربة وطنك كالوتد الذي يضرب بجذوره في عمق هذه الأرض الطيبة، لا يتزحزح بل يزداد رسوخا وصلابة، مهما تلبدت الأجواء وتكثف الضباب وتنازعت الأهواء. واثق أنا، أنك حتى وأنت بعيد عنا، أن حبك للجزائر يسكن وجدانك وأن قلمك يأبى إلا أن يكون خير رفيق لك، يسطر عشقك لوطنك، تنتصر به على وحشة المرض، وكأني بك تتحدى بالكتابة والإبداع والأفكار التي تبقى وتدوم، وكأني بك تخاطب نفسك دائما: أكتب، لا تتوقف، فهناك قراء ينتظرونك وهناك ما يستحق أن تفكر فيه وتكتب عنه. حمدا لله على سلامتك، أستاذنا الفاضل، لتكمل رحلتك، حاملا لواء الكلمة والمعرفة، لتوثق ما تراه مفيدا لوطنك الجزائر وأمتك الكبيرة، تلك الأمة المنكوبة التي، استباحتها الأهواء ومزقتها الصراعات وعصفت بها أيادي الغرباء. لقد ظلت كتاباتك تحمل توقيعك الخاص النابع من قناعات وطنية، سواء كنت أستاذا في الجامعة أو مسؤولا في الدولة، لم تلهك المناصب ولا الأضواء عن التفكير والكتابة، عشقك الأبدي الذي تؤكد به ذاتيتك ووجودك المؤثر في الحياة، إيمانا منك بأن المناصب تزول وأن الأضواء تغيب، لكن الكلمة المعجونة بالصدق والحب هي التي تبقى. وفي البدء كانت الكلمة. لذلك، ها أنا أخاطب فيك رجل العلم والفكر والثقافة، أنت الذي تفكر وتكتب ليس لغرض الارتزاق أو الإشهار واستعراض العضلات، بل الكتابة بالنسبة إليك موقف وقضية ورسالة، فلقد نشرت عشرات الكتب، يتحدث أغلبها عن الجزائر، وكانت إجابتك عن سؤال يقول: هل هي الوطنية التي تملأ قلبكم أم اعتبارات علمية صرفة؟ ''إن العلم بلا وطنية رهبنة أو ملائكية تقتلع الشخص من مجتمعه وتعزله عن عصره، إلا أن الوطنية لا تغني وحدها عن العلم والتكنولوجيا والثقافة، وقد تصبح مجرد شعارات كالسراب والغيوم الخادعة لا تنبت زرعا ولا تروي ظمأ.إن مستقبل بلادنا هو في الجمع بين المعرفة التي توطن العلم والتكنولوجيا ولا تكتفي باستهلاك الجاهز منها، لا مناص من الجمع بين المعرفة والإبداع والوطنية الغيورة على الجزائر دولة ومجتمعا''. ولأن الكتابة الراقية هي مملكتك التي تجد فيها راحتك، وافيتني في الأسابيع الماضية بدراستين، تحمل الأولى عنوان: ''في مقاييس التدين داخل المجتمعات الاسلامسية والمسيحية'' في حين كان عنوان الدراسة الثانية:'' في أبجديات الديمقراطية.. نظريات وتطبيقات'' وقد تشرفت ''صوت الأحرار'' بنشرهما وحظيتا بمتابعة كبيرة من طرف أساتذة ومختصين وطلبة. لم تمنعك مسؤولياتك الجسيمة من أن تتمرد على واجبات المنصب وطقوسه القاتلة، فتلوذ إلى ''عالمك الخاص'' رافضا أن تعيد سيف كلمتك إلى غمده، وهذا ما عهدناه فيك، حيث لم تنقطع أبدا عن محاورة الواقع وتحولاته والتفكير في جوهره وأعراضه والتعبير عما تستخلصه من تفكير ونظر. كان ذلك ديدنك، حيث يأبى قلبك إلا أن ينبض بحب الجزائر وغيرتك عليها، وها أنا أتذكر جلساتنا الطويلة خلال سنوات الأزمة المهلكة، وكيف كنت تتحسر على ما آلت إليه بلادنا، حينذاك لم تنزو في ركن مع المتفرجين، كما فعل الكثير من المثقفين، بل التزمت موقفا فكريا للمساهمة في تحقيق الانفراج، وصدر لك في عز الأزمة كتاب بعنوان: ''الأزمة المفروضة على الجزائر''، نبهت فيه إلى خطورة التمترس في الخنادق المتقابلة والركض نحو التدويل، وكانت كتاباتك، وهي منشورة ومعلومة، شاهدة على أن صوتك المنادي بالمصالحة لم يكن خافتا أو مبحوحا، وكل ذلك يؤكد إيمانك الراسخ بأن الوحدة هي قدر الجزائر وأن المصالحة ممر حتمي لاستعادة الوفاق الوطني الذي أصيب في مقتل. وليس ذلك بالغريب عنك، فأنت تفضل دائما أن تنسب إلى الجزائر أولا، وإلى عائلة من الشهداء والمجاهدين ثانيا، قناعة منك بأن انتماءك هو للجزائر الواحدة، التي تتمتع بمؤهلات للوحدة الوطنية، لا تتوفر عليها أغلب بلدان العالم. ألست القائل: ''لماذا نبحث عما يفرق بدل أن نعني بالخصوصيات المحلية التي تتدرج شرقا وغربا وجنوبا مما يزيد بلادنا ومجتمعنا ثراء ورونقا. إن الجزائر سيمفونية من إبداع الخالق، لا تقبل الاختزال في مقاطع متناثرة. الوحدة قدرها والمتعة رهانها الأكبر''. أنت العروبي الأصيل، الأمازيغي الصميم، المنافح عن هوية الجزائر، التي اعتنق سكانها الإسلام واندمجوا طوعا في الثقافة العربية الإسلامية وأبدعوا بها، ولولا البذور الكولونيالية الفرنسية لما حدث صراع لساني في بلادنا أصلا. وليس غريبا أن يكون اسمك محمد العربي، ولا غرابة أيضا أن تضع نفسك في الواجهة دفاعا عن اللغة العربية، إيمانا منك بأن العربية لن تخبو شعلتها في هذه البلاد وأن غاية ما تصبو إليه هو أن تفرض اللغة الوطنية والرسمية نفسها بمضامينها العلمية والإبداعية الراقية، ذلك أنه لا توجد لغة متخلفة وأخرى متقدمة، بل إن صفات التخلف والتقدم تصنف بها الأمم والشعوب وليس اللغات. تمضي الأيام سريعا، وها أنا أتذكر أول لقاء لنا منذ سنوات طويلة، جئت إلى العاصمة يسكنني حلم كبير، كنت أنت واحدا من صناعه، وشاءت الأقدار أن أتعرف عليك عن قرب ، كما يعرفك غيري، رجل علم، كاتبا شجاعا، جريئا في الحق، مدافعا عنيدا عما تسميه''مثلث الهوية'' و ''أساس الوحدة الوطنية''، لا تكتب إلا ما تؤمن به، قلمك شريف ولسانك نظيف، أخلاقك رفيعة، ظلت أفكارك تحمل توقيعك الخاص، سواء كنت أستاذا أو وزيرا أو سفيرا أو رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية أو رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، فالمنصب بالنسبة لك ليس عائقا أو حاجزا أو ألقابا وامتيازات، تلغي الجوهر وتسد المنافذ أمام حرية الرأي وتجعل القلم يلوذ بالصمت، لذلك نجدك، أستاذنا، تسرق الدقيقة والساعة لتمارس حبك الأبدي للكتابة. تكتب ما يمليه عليك ضميرك، لا تتحدث باسم غيرك، تعتبر نفسك صوتا وطنيا في وطن ننتمي إليه جميعا ولا يحتكر الإخلاص له فرد أو جماعة. إن كل كتاب من كتبك أخذ منك جهدا شاقا، ولذلك فهي، إلى جانب ما فيها من قدرات تحليلية، تتميز بجانبها المعرفي، وبالتأكيد فإن قدراتك البحثية العلمية لم تكن لتتحقق لولا أنك في الأصل قارئ جيد، لديك ملكة المقارنة والمضاهاة كل كتاباتك هي دعوة لإعمال العقل والتحفيز على التفكير بصوت مسموع، لأن من خصال المثقف أن يكون متحديا ولا يخضع للخوف أو التبرير. رغم المناصب التي تبوأتها وتجربتك الطويلة في النضال والسياسة، إلا أنك ظللت تعتبر نفسك دوما مناضلا لنصرة الجزائر، المتجذرة في هويتها، السيدة بإرادتها المستقلة، والمؤمنة بالمصالحة الوطنية، مصالحة بين الجزائريين وحضارتهم وتراثهم المتنوع. كل ذلك، جعلك المناضل المحلق والمغرد خارج السرب، فأنت الجبهوي الأصيل، المؤمن بالقيم والمبادئ، ترى أن جبهة التحرير الوطني هي الدار الجامعة، بما تمثله من زمرجعية الأمةس في التحرير وفي التعلق بالحرية والعدالة والتقدم، لم تغير انتماءك لجبهة التحرير، فلسفة وتنظيما، إلى يوم الناس هذا، وهي التي كرمتك فشرفتك الجزائر بما يليق بك وبما أنت جدير به، حتى وإن كان معروفا عنك أنك ترى في المسؤولية، مهما كانت، مهمة وطنية صعبة وأنك ملتزم دائما بنمط الحياة القريب جدا من القناعة والتقشف. أجد نفسي في هذه الكلمات في نصف الطريق بين الذاتية والموضوعية، إلا أن الحقيقة التي تظل ساطعة هي أنني لم أبد من التنويه والإعجاب إلا القليل مما يستحقه أستاذنا الفاضل وهو الذي يستحق كل التقدير والاحترام، وما أعجزها الكلمات عن الإلمام بمسار هذه الشخصية الوطنية البارزة، التي جمعت بين العلم والنضال والسياسة، واقترن لديها الطموح بالكفاءة والاجتهاد والإرادة، وظلت على مدار الأعوام وتغير الأحوال، هي نفسها، لم تفقد الجوهر والأصل والانتماء. حمدا لله على سلامتك، أستاذنا الفاضل، الدكتور محمد العربي ولد خليفة، وكان الله في عونك، مع تمنياتنا لك بالتوفيق في الاضطلاع بمهامكم السامية، خدمة لوطننا العزيز.