نظمت وزارة التربية مؤخرا يوما دراسيا خصص لنقد محتوى الكتاب المدرسي دعت فيه السيدة الوزيرة بن غبريط رمعون إلى استرجاع الطابع الوطني الجزائري للكتاب المدرسي. وتم الخروج بتوصيات من أبرزها الشروع في تغيير كتب السنوات الأولى في الطورين الابتدائي والمتوسط ابتداء من السنة المقبلة لإخضاعها للطابع الجزائري الذي تحدثت عنه. إن قطاع التربية والتعليم قطاع حساس وقبل التفكير في إحداث أي تغيير على محتوى هذه المنظومة يجب أن تخضع العملية للدراسة والتقييم من طرف كل الأطراف المعنية في المجتمع ولا ترتبط برغبة المسؤول الحكومي المشرف عن القطاع ولا تخضع لتوجهات فكرية معينة ولا لهوى سياسي ظرفي . إن هذا القطاع هو الوحيد الذي ينبغي أن يظل بعيدا عن التجاذبات السياسية والصراعات الفكرية في المجتمع. فمنذ استرجاع السيادة الوطنية من الاحتلال الفرنسي منذ 1962، تم تكييف العملية التعليمية بما يجعلها وطنية جزائرية بمعنى أنها لم تعُد فرنسية. وتعاقب على هذه الوزارة منذ الاستقلال العديد من الوزراء الجزائريين أذكر منهم من بقي عالقا بذهني كالسادة أحمد طالب وعبد الكريم بن محمود ومصطفى الأشرف ومحمد خروبي وزهور ونيسي وعمار صخري ومصطفى بن عمر وعلي جبار وعلي بن محمد وبوبكر بن بوزيد وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم. والكل يعرف إلا من كان غائبا عن الجزائر أو مُغيّبا لأنه لا يعيش ما يعيشه بقية الجزائريين أنه منذ استرجاع السيادة الوطنية فإن الكتب المدرسية تؤلف في الجزائر من طرف إطارات تربوية جزائرية تحت مسؤولية هؤلاء الوزراء الجزائريين. فكيف نتكلم بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال عن استرجاع الطابع الوطني للكتاب الجزائري؟ مما يعني أن المؤلفين لم يكونوا جزائريين مختصين في التربية والتعليم بل أجانب تكلموا عن تاريخ بلدانهم وليس عن الجزائر وثورتها أو عرّفوا بمفكريهم وليس بمفكري الجزائر ومبدعيها وثوارها وقادتها؟ ألم تزل هذه الحساسية قائمة في أذهان البعض بالرغم من كل التطورات التي عرفتها الجزائر منذ استقلالها وبالرغم من أن التعاون في قطاع التربية التعليم مع البلدان العربية توقف منذ منتصف السبعينات. وحينها كان الجيل الذي يتربع اليوم على المشهد السياسي الجزائري ما يزال يحبو أو في مقاعد الدراسة. إن البرامج التي طبقت منذ استرجاع السيادة الوطنية من الاستعمار الفرنسي كانت جزائرية المحتوى بمعنى أنها تقدم للمتعلم التعريف بالجزائر وتاريخها عبر العصور وتبرز مساهمة أبنائها بجهودهم القيادية والفكرية والعملية في مسارات البناء والتطور وكذا دفاعهم عن هذا الكيان عبر التاريخ، فضلا عن تلقين المتعلم مختلف صنوف المعارف والمكتسبات العصرية وكل ما يؤهله ليساهم في نهضة بلاده وتقدمها ليكون منسجما مع ذاته وملما بقضايا عصره. وهذا هو المطلوب من المنظومة التعليمية في كل بلدان العالم خلال الأطوار الثلاثة الأولى من التعليم أي الابتدائي والمتوسط والثانوي بينما يخصص التعليم العالي للبحث العلمي. ومع إقرارنا بأن العملية التعليمية يجب أن تواكب التطورات الجارية في العالم المعاصر لتستجيب لاحتياجات المجتمع المتنامية والمتلاحقة. لكننا عدّلنا المناهج المرة تلو الأخرى وأدخلنا الإصلاحات تلو الإصلاحات. والسيدة بن غبريط رمعون كانت عنصرا فاعلا في ما عُرف بإصلاح المنظومة التربوية الذي أشرف عليه السيد بن زاغو. فما الذي تغير حتى تعيد معالي السيدة الوزيرة إصلاح ما أصلحته؟ لكن ما لا يجب إغفاله أن الجزائر جزء لا يتجزأ من الفضاء الذي تتواجد فيه، فكما أن الإنسان هو ابن بيئته فكذلك الكيان السياسي المعبر عنه بالدولة هو ابن محيطه. ومحيط الجزائر تاريخيا هو الفضاء العربي الإسلامي. وعندما نتكلم عن التاريخية نتكلم عن عملية تمت عبر العديد من القرون المتلاحقة وضمن سياق متواصل لا انقطاع فيه. هذه حقيقة لا ينبغي التنكر لها أو العمل على إلغائها. نحن جزائريون، وهويتنا هي الهوية الجزائرية ولا شيء غيرها. والجزائر بمازيغيتها هي جزء ثابت ضمن الفضاء العربي الإسلامي. الفضاء الذي تَغْلُب فيه اللغة العربية كوسيلة تعبير وتواصل والديانة الإسلامية كقيم وتعاليم ونظرة للكون والحياة. هذا الواقع يجب أخذه بعين الاعتبار في العملية التعليمية ليكون هناك انسجام بين المتعلم وبيئته وهذا ما ينبغي العمل على استرجاعه وإبرازه إن ناله النقص أو التهميش في الإصلاحات المتلاحقة. وفي الواقع إن وضع نصوص لشعراء أو كتاب عرب على قلّتِها ضمن المناهج المدرسية يستهدف غاية تعليمية بحتة يعرفها أهل الاختصاص ولا يحمل أي خلفية أيديولوجية. وما دامت الغاية تعليمية فلا ضيْر في ذلك فهناك نصوص لكتاب وأدباء فرنسيين في الكتب المدرسية الموجهة للدارسين باللغة الفرنسية ولم يطالب أحد بحذفها طيلة الخمسين سنة الماضية. عندما نتكلم عن الجزائر نعني بذلك كل مكوناتها الراسخة وثوابتها التي لم تزُل بتوالي الأزمان وتعاقب الأجيال من إسلام وعروبة ومازيغية. والمكوّن هو جزء أساسي من الشيء الذي يكونه وبدونه لا يكون كاملا وليس هو ذاك الشيء نفسه ولا يحل الجزء محل الكل أو يطغى عليه. وهوية الشعب أي شعب في العالم تفْصِل فيها، عبر التوافق الواسع، نُخَبُه من أحزاب سياسية وجمعيات ومفكرين وكتاب ومؤرخين وقادة رأي وساسة. وقد فصل الشعب الجزائري في منتصف التسعينات أي منذ عقدين من الزمان في مسألة الهوية الجزائرية بوصفها جامعة لمكونات الإسلام والعروبة والأمازيغية. نذكر ذلك، لأنه في الوقت الذي دعت فيه السيدة الوزيرة إلى استرجاع الطابع الوطني في الكتاب المدرسي، تكلم المفتش العام للبيداغوجيا بوزارة التربية خلال يوم دراسي حول الكتاب المدرسي كذلك عما وصفه بمشروع الهوية. بالرغم من أن وزارة التربية هي أداة تنفيذية للمشروع الوطني للتربية وليست هي التي تقرر بشأن الهوية الجزائرية أو تضع مشروعا لها. فهذا لا يحق لأي وزارة أن تقوم به أو حتى تفكر فيه لأن ذلك ليس من صلاحياتها باعتبارها أداة تنفيذية لسياسة معتمدة وليست جهة وصية على الجزائريين. نقول ذلك أيضا لأن معالي السيدة بن غبريط رمعون كانت قد ذكرت في وقت سابق أثناء تنظيم يوم دراسي حول الأمازيغية بمدينة الخروب بقسنطينة من طرف المحافظة السامية للغة الأمازيغية أن تنظيم ذلك اليوم يندرج ضمن توحيد الهُويّة. لا أدري ماذا تقصد بتوحيد الهوية في هذه الحالة؟ ولكن مما لا شك فيه أن توسيع مجال استخدام اللغة الأمازيغية يعزز الانسجام القائم بين مكونات المجتمع الجزائري. أما المكونات الموحدة للهوية الجزائرية والتي أصبحت ثوابت وطنية فهي تلك الناتجة عن التقاء الأمازيغ بالعرب عبر الاسلام منذ خمسة عشر قرنا خلت. يجدر التذكير هنا أن الدولة الوطنية لا تبنى على العرق أو الإثنية كما يقال حاليا ولا على الدين أو المذهب ولا على النزعة القبلية أو الجهوية لأن هذه الأشكال تعتبر أشكالا بدائية من التنظيم لدى المجتمعات الإنسانية تجاوزها الزمن منذ القرون الوسطى. فالدولة المعاصرة تقوم على مبدإ المواطنة كانتماء واحد ووحيد للوطن، وهي تعني في أبسط صُوَرها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص بينهم في مختلف نواحي الحياة. وانسجاما مع هذا المنحى تجاوزت الدساتير المعاصرة مفهوم الهوية وركزت على مبدإ المواطنة. فالمواطنة هي الركن الأساسي لبناء الجزائر بعيدا عن أي نزعة جهوية أو دينية أو عرقية. وقد نص على ذلك نداء أول نوفمبر 1954 البيان المؤسس للجزائر المعاصرة. فعلى وزارة التربية إذا أرادت عصرنة محتوى الكتاب المدرسي أن ترسّخ عبره مفاهيم المواطنة والعدل والمساواة وقيم أول نوفمبر، وبذلك تكون قد خدمت الجزائر وشعبها بعيدا عن أي هَوى سياسي أو نزعة أيديولوجية.