منذ أن أعلنت وزارة الهجرة والهوية الوطنية الفرنسية عن فتح النقاش حول الهوية الفرنسية الذي أسمته "حوارا وطنيا كبيرا يتعلق بتحديد ماهية الهوية الوطنية الفرنسية" وآراء الطبقة السياسية والثقافية والإعلامية تتقاطع وتتلاحق في نقاش طالما شكل أحد المحاور الأساسية في سياسة اليمين المتطرف الفرنسي وحزب الجبهة الوطنية التي يتزعمها جان ماري لوبان! ويبدو أنه منذ انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية الفرنسية في سنة 2006، أصبحت الساركوزية تطبق شعارات اللوبينية (لوبان) بواسطة الأغلبية البرلمانية، ولذلك يفكر جان ماري لوبان في تطليق السياسة في العام المقبل (2010)• لقد تساءل الكثير من الملاحظين في فرنسا وخارج فرنسا عن الأسباب والدوافع الكامنة وراء فتح هذا الملف وإعادة تعريف الهوية الفرنسية بعد أكثر من قرنين على نجاح الثورة الفرنسية التي أقامت الجمهورية الحديثة، وهل تشعر فرنسا الرسمية بالخطر على انسجامها الوطني واستمرارية وجودها الثقافي والحضاري حتى تفتح النقاش لمدة شهرين كاملين (2 جانفي إلى 28 فيفري 2010) لتحديد مقومات الهوية الفرنسية؟ ليس سرا أن تركيز الاهتمام (وربما الاتهام) سينصب على ظاهرة الهجرة، وبصفة أساسية على المهاجرين من ذوي الأصول العربية والديانة الإسلامية، وقد جاء في بيان وزارة الهجرة والهوية الوطنية "أن الحوار الكبير سيعمل على الإجابة على تساؤلين، الأول هو: ماذا يعني أن تكون فرنسيا اليوم؟ والثاني: ماذا قدمت الهجرة بالنسبة لفرنسا؟•" من الواضح أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان قد استعار الكثير من أفكاره الانتخابية من برنامج جان ماري لوبان - كما قلنا سابقا - فهو قد صرح للتلفزيون الفرنسي قبل الانتخابات الرئاسية "من أراد أن يكون فرنسيا فعليه ألا يذبح خروفا في الحمام"! واعتبر أن قيام بعض الشباب المهاجر بإطلاق بعض التصفيرات أثناء عزف النشيد الوطني الفرنسي (لامارسياز) بمناسبة اللقاء الكروي الودي بين فرنسا وتونس في ملعب فرنسا هو تصرف خطير جعله يأمر بعدم تنظيم مقابلات كروية ودية مع الفرق المغاربية في ملعب فرنسا!• كما سارع إلى إبداء دعمه لمبادرة النائب الفرنسي الشيوعي الذي طالب بفتح تحقيق حول ظاهرة ارتداء النقاب أو البرقع من طرف بعض الفتيات المسلمات في فرنسا• وصرح بكل عجرفة عنصرية وروح صليبية أمام البرلمان الفرنسي: "بأن ارتداء النقاب يتعارض مع كرامة المرأة"•ر وقد أظهر تحقيق أجهزة الأمن الفرنسية بأن عدد الفتيات المنقبات في فرنسا والتي أثارت حالة الطوارىء بين الطبقة السياسية الفرنسية، وتدخّل ساركوزي شخصيا في الموضوع لم يكن يتعدى العشرات (حوالي 317 فتاة فقط) وأن أغلب المنقبات هنّ فرنسات أصيلات اعتنقن الإسلام! وقد اعتبر رئيس الحكومة الفرنسية فرانسو نيون بأن "رفض مناقشة قضية الهوية الوطنية يعني إعطاء حجج لكل من يعارضون سلطة وعلمانية الدولة"• وقال أيضا: "لا، ليس هناك ما يصدم في أن نقول بأنه من الطبيعي أن يتبنى أولئك القادمون إلى بلادنا ميراث بلد حقوق الإنسان"• وردّت الجبهة الوطنية لجان ماري لوبان قائلة بأن: "طرح هذا الملف يؤكد مرة أخرى سطو الحكومة على أحد الملفات التي تتبناها منذ عشرات السنين" ! وفي مقال كان المؤرخ وعضو الأكاديمية الفرنسية فرديناند برودل قد نشره قبل وفاته حول مقومات الهوية الوطنية، يعتبر أن فرنسا هي اللغة الفرنسية ويتأسف على كون اللغة الفرنسية لم تصبح لها السيادة في العالم كما كان عليه الحال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأن الثقافة الفرنسية قد دخلت في أزمة، ثم يتساءل: "هل نملك الوسائل للخروج من الأزمة؟" ويجيب: لست متأكدا ولكن لدي بعض التفاؤل لأن الإمبراطورية الاستعمارية التي ضيعناها بقيت وفية للغة الفرنسية"• وهذا هو مربط الفرس - كما يقال - فإذا كانت فرنسا وهي دولة كانت إمبراطورية ولم تتعرض لاستعمار استيطاني تخريبي عمل طوال أكثر من قرن وثلث القرن على محاربة مقومات هويتها الوطنية وتقسيم شعبها، تبدي كل هذا الحرص اليوم على هويتها وتدافع بكل الوسائل عن لغتها الفرنسية التي تعتبرها المعبّر الرئيسي عن روحها ووجودها الثقافي والحضاري، فلماذا تسمح لنفسها بمحاربة لغات شعوب ودول مستعمراتها السابقة وعرقلة جهودها لاستعادة مقومات هويتها لكي تحافظ على مكانة اللغة الفرنسية في العالم؟ إن فرنسا اعتبرت دائما السعي المشروع للجزائر لاستعادة مقومات هويتها الوطنية ومن أبرزها اللغة العربية، اللغة الوطنية والرسمية حسب نصوص الدستور وكأنه اعتداء عليها ! ويذكر الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في الجزء الثاني من مذكراته بعنوان "مذكرات جزائري" الصادر عن منشورات القصبة - الجزائر - سنة 2008 أنه عندما كان وزيرا للتربية الوطنية في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، زار وزير الخارجية الفرنسي موريس شومان وطلب مقابلة الوزير الجزائري للتربية، ويقول الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي "وبمجرد أن دخل مكتبي وقبل أن يتلفظ بعبارات المجاملة التقليدية، صاح قائلا: السيد الوزير ما معنى التعريب؟"! وكان وزير التربية الوطنية (أحمد طالب الإبراهيمي) قد قرر آنذاك (في سنة 1967) تعريب السنة الثانية من التعليم الابتدائي، وكان ذلك يعتبر بمثابة استفزاز لفرنسا - حسب الفهم الفرنسي - فأرسلت وزير خارجيتها للاحتجاج لدى السلطات الجزائرية• وبعد 23 سنة تدخل وزير فرنسي آخر هو آلان دوكو الوزير المنتدب للفرانكوفونية في الشأن الداخلي الجزائري وطالب "الجزائريين" بإسماع صوتهم حتى لا يحرموا من الثروة التي تمثلها بالنسبة إليهم "اللغة الفرنسية" ! وكان تدخل الوزير الفرنسي لدى وسائل إعلام بلاده عقب مصادقة البرلمان الجزائري سنة 1990 على قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وتحديد بداية تطبيقه في 5 جويلية 1992• لقد كان الفرنسيون في زمن الاحتلال يرفضون الاعتراف باستقلال الجزائر باعتبار عدم وجود أمة مكتملة في الجزائر، بل هي أمة في طور التشكل حسب زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي موريس طوريز، فهل دار الزمن حتى يشكك الفرنسيون في هويتهم ويبحثون عن وضع مقومات لأمة في طور التشكل ؟!