طالعتنا الصحف الوطنية بمختصرات عن الكلمة التي ألقاها مسؤول حزبي في لقاء جمعه بمناضلي حزبه. عادة لا يليق التدخل في ما يطرحه قادة الأحزاب السياسية من تصورات وما يقدمونه من توجيهات لمناضليهم، لأن هذا شأن يخص تلك الأحزاب وحدها. لكن ما دفعني للكتابة، وبعيدا عن التدخل في شؤون هذا الحزب أو غيره، هو النقد الذي وجهه ذلك المسؤول لفرحات مهني، رئيس ما يعرف بالماك أي حركة الاستقلال الذاتي للقبائل. وأنا هنا لا يعنيني أمر تلك الحركة باعتبار أن فرحات مهني تخلى تلقائيا عن جزائريته، وهو في كل الأحوال لا يحتاج رأيا مني. لكن المستجد في الموضوع هو أنه ولأول مرة يتكلم مسؤول جزائري عن تلك الحركة ويصفها بأنها تمثل أقلية الأقلية وأن فرحات مهني، وهو رئيس الحركة، يعمل لتخريب الجزائر بالتعاون مع الصهاينة، حسبما جاء في الصحف. لا شك أن ذلك المسؤول الحزبي وضع نقاطا على حروف كان يجب أن يضعها قبل ذلك بسنوات عديدة لإيضاح ما يهم منها وفك رموزها. ففرحات مهني لم يذهب بالأمس فقط إلى إسرائيل، بل ذهب إليها منذ سنوات واستقبل هناك بالأحضان وخطب مطولا أمام الكنيست أي برلمان الكيان الإسرائيلي . وطالب الشعب اليهودي كما وصفه بدعم الشعب القبائلي، حسب رأيه، لنيل استقلاله. إن القضية ليست جديدة وفرحات مهني أسس حكومة مؤقتة منذ سنوات وأقام علاقات متعددة مع جهات مختلفة في العالم ووصل به الأمر ليرفع مؤخرا ما سماه راية القبائل أمام مقر الأممالمتحدة بنيويورك. كنت أعتقد، وقد أكون مخطئا، أن نشاطات فرحات مهني تندرج في إطار تكثيف الضغوط لا أكثر على السلطات الجزائرية. لكن أظهرت الأيام أنه ذهب خطوات بعيدة في نشاطاته ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عدواه إلى جهات أخرى في الوطن. فهناك من يتحدث عن حركة مماثلة تسمى مام على وزن ماك، تدعو لحكم ذاتي لمنطقة وادي مزاب وهناك أشخاص مجهولون يتكلمون عن حركة مماثلة في منطقة الأوراس. الحاصل أن الأمر ليس جديدا حتى يفرد له مسؤول حزبي مساحة من كلمته التي ألقاها أمام مناضليه، ولذلك فتدخله جاء بعد فوات الآوان، أو كما يقول المثل العربي بعد خراب البصرة. لقد فات وقت التعرض لهذا الحدث، وقد كان على ذلك المسؤول الحزبي أن يعالج مثل هذه الأطروحات ليس اليوم وفي إطار تحضير نفسه لما يسميه " قدره"، بل في فترة سابقة من تاريخ وجوده في مستويات مختلفة من المسؤولية. خاصة وأنه كان شاهدا على فترة تاريخية عرفت قيام مجموعة من الإطارات التي تنحدر من منطقة القبائل بتأسيس حركة سياسية باسم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، وذلك في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينات من القرن الماضي. في تلك الفترة والجزائر تعيش غليانا متعدد المشارب والتوجهات كان يمكن توضيح ما التبس على القوم من فهم وتقويم ما اعوج لديهم من تفكير. كان يمكن مواجهة آثار الأيديولوجية الاستعمارية الفرنسية ومخلفاتها لكي لا يتسع الخرق الذي أحدثته في المجتمع. تلك الأيديولوجية التي قامت أساسا على ضرب وحدة الشعب الجزائري بزرع التفرقة العرقية بين أبنائه عبر خلق ثنائية بربر - عرب، حضارة - بداوة، أصيل - دخيل وكلها تصب في مجرى واحد هو تركيزها على أن العرب غزاة ودخلاء والاسلام دين صحراوي يحمل قيما بدوية وافدة. لقد استقرت تلك الأيديولوجية وسط بيئتنا وأثرت على البعض من أبنائنا. ولذلك، لا أعتقد أن هناك ظلما لحق بسكان منطقة القبائل وقد كان منهم، في وقت مبكر، رواد للحركة الوطنية وقادة للثورة التحريرية وبناة للجزائر المستقلة وما يزال منهم الكثير في مواقع قيادية متقدمة في الدولة. والكل يعرف ذلك فلا وجود لضيم مسهم خلافا لبقية الجزائريين ولا تبرير بالتالي للحركة التي يقودها فرحات مهني وسعى لدى الكيان الاسرائيلي لطلب دعمه في استقلال القبائل. نأتي لمسألة الهوية وهو الموضوع الذي يتحجج به البعض لخلق جو دائم من التوتر. فنقول إن الهوية هي خلاصة التطورات التي يشهدها أي مجتمع من المجتمعات الانسانية وهو أمر لا يخص الجزائريين فقط ، بل ينطبق على غيرهم من البشر. لما نتكلم عن خلاصة نعني بها مآلات التفاعل الحي بين أبناء المجتمع وعصارة التجارب التي مر بها خلال مراحل متواصلة من تطوره بدون انقطاع وضمن بيئة محددة. فالهوية لا تبنى على اللغة وحدها ولا على عرق دون غيره ولا على دين بذاته. الهوية هي في جوهرها محصلة التفاعل الحي والطوعي والمستدام بين كل تلك العناصر وغيرها، ضمن حيز جغرافي معين هو الوطن. إن ربط الهوية برفض الآخر المغاير أو بقوم دون غيرهم من الأقوام هو ضرب من النزعة العرقية المنافية لأبسط سبل الاجتماع البشري، كما أن جعل لغة معينة هي قوام هوية ما هو سلب تلك الهوية من زخمها التراثي والتاريخي. ومثل ذلك إصباغ هالة من الدين على هوية ما هو إضفاء طابع من القداسة عليها لا يقرها العرف البشري. إن الهوية الجزائرية هي حاصل تفاعل الحضارات التي تعاقبت على هذه البلاد وأثرت فيها مثلما تأثرت بها. ولا نتكلم هنا عن غزوات أجنبية كما يرى منظرو الأيديولوجية الاستعمارية الفرنسية. الجزائر لم تكن أرضا للغزوات بل كانت ملتقى للحضارات وموقعها في منطقة البحر الأبيض المتوسط هو الذي خصها بتلك الميزة. يبرز من حصيلة تلك التطورات أن الجزائر تتميز بعمقها التاريخي الأمازيغي وببعدها الحضاري العربي الإسلامي ومن حاصل تفاعل هاتين الصبغتين اللتين صبغ الله بهما هذه البلاد، بصورة لا رجعة فيها، جاءت مكونات الهوية الوطنية التي تتجسد في الاسلام والعروبة والأمازيغية، وأقول العروبة وليس مجرد العربية. لقد توافق الجزائريون في منتصف التسعينات عل تلك المكونات، مما يعني أن الصراعات التي كانت مسألة الهوية هي محورها كان يجب أن يوضع لها حد، لكي تتمكن الجزائر من السير قدما في بناء دولة معاصرة ومستقرة لا تهزها شدة العواصف ولا تندثر أمام تعاقب الأزمان وتوالي الأجيال. لكن يبدو من التطورات اللاحقة أن شيئا من هذا لم يحصل وبقيت التوترات قائمة، ووجود حركة تطالب باستقلال ذاتي لمنطقة القبائل يؤكد ما نقول. لعله من الأهمية التأكيد على أن مفهوم الأمازيغ ينسحب على كل الأقوام التي تواجدت في منطقة بلاد المغرب قبل وصول الإسلام إلى هذه المنطقة. فكل من تواجد في هذه البلاد قبل الفتوحات الاسلامية يصنف كأمازيغي، بغض النظر عن أصوله العرقية أي كونه ينحدر من أصول بربرية أو كنعانية أو رومانية أو وندالية أو بيزنطية أو زنجية. مصطلح مازيغ كما قال المؤرخ العربي عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي أو أمازيغ كما يقال حاليا هو مصطلح شامل لحقبة تاريخية في مسيرة هذا الكيان الذي يعرف بالجزائر، والقول بغير ذلك مناف تماما للحقيقة. فمدلول كلمة مازيغ لا علاقة له بالظاهرة العرقية. وهو نفس ما ينطبق على مفهوم عرب حيث ينسحب هذا المفهوم على عدد غير قليل من المجتمعات التي انزاحت مع الفتوحات الاسلامية أي صارت مجتمعات إسلامية العقيدة، عربية اللسان، عالمية الحضارة. وهي حقيقة يقرها الاسلام ذاته حيث يقول المصطفى عليه أطيب الصلاة وأفضل السلام ليست العربية منكم بأب ولا أم إنما العربية باللسان فمن تكلم العربية فهو عربي. ومن هنا فالعروبة هي طابع ثقافي حضاري بغض النظر عن الأصول العربية والأمازيغية والفارسية والتركية والزنجية والفرنجية للمجتمعات التي تستقر اليوم في المنطقة العربية. وهو ما ينطبق على الفرنسة مثلا. فالفرنسي اليوم لا علاقة له بعرق معين، فانتماؤه هو لفرنسا الوطن. وقد قالها مؤخرا الرئيس فرانسوا هولاند عندما أعلن في كلمة له في إحدى زياراته أن الجمهورية لا تقوم على الأعراق la république ne connaît pas de races . من المفيد للجزائر أن يتوقف التلاعب بمكونات الهوية الوطنية وإبعادها عن المهاترات السياسوية و تجنيب شبابنا التطلع إلى أوهام امبراطورية لا علاقة لها بالواقع المعاش، بل يجب تركيز جهود أبنائنا على بناء دولة وطنية جزائرية حديثة تعيش عصرها وتحضر نفسها لزمن قادم يكون فيه البقاء للأقوى والأصلح. كما ندعو بالمناسبة السلطات القائمة على أمر هذه البلاد لتهيئة الأجواء التي تساعد أبناءنا على تجاوز كل أساليب الشحن العاطفي الذي يتسبب في توترات لا نهاية لها، ونبذ الظاهرة العرقية المتحجرة بوصفها سببا رئيسيا من أسباب تلك التوترات، والوقوف في وجه التطرف الديني الذي يقود إلى التناحر، وبعث مجتمع يعطي للتسامح مساحة واسعة في حياته، ويمنح لتعدد الآراء والقبول المشترك للآخر حيزا معتبرا في توجهاته. فنحن جزائريون، بهذه الصفة عرفنا منذ بدايات القرن السادس عشر وحتى يوم الناس هذا. وبهذه الصفة يعرفنا الآخرون، وهويتنا هي محصلة تفاعل عميق نتجت عنه مقومات شخصيتنا ، أي الاسلام والعروبة والأمازيغية. ضمن هذه المقومات يجد كل جزائري نفسه دون طغيان مكون على آخر أو تهميش مكون لصالح الآخر. فلقد أثبتت التجربة أنه عندما يطغى مكون على آخر تدخل الجزائر في توترات وصراعات لا تعرف عواقبها. حدث ذلك عندما تم تضخيم ما عرف بالتعريب خلال عقد السبعينات، وهي عملية كان يقصد بها إحلال اللغة العربية بوصفها اللغة الوطنية والرسمية محل الفرنسية في التعليم والإدارة ومصالح البلاد والعباد، لكن نفرا من الجزائريين رأوا فيها تعريبا للشعب بمعنى جعله عربيا، والواقع ليس كذلك. ثارت ثائرة البعض ووجدت البلاد نفسها أمام ما عرف بالربيع البريري سنة 1980، وتوالت عقب ذلك التوترات في نفس المنحى حتى وصلنا إلى ظاهرة فرحات مهني. وعندما تم تضخيم التوجهات الإسلامية لدى مجموعة من الجزائريين خلال الثمانينات وأصبحت حالة غالبة في الشارع وصلنا إلى أحداث التسعينات وما عرفته من مآسي أدت إلى مقتل 200 ألف جزائري وتخريب المرافق العامة والمؤسسات وكادت تؤدي لانهيار الدولة. واليوم نرى هيجانا لدى دعاة النزعة البربرية أو البربريزم ضد كل ماله علاقة بالطابع العربي الاسلامي في هذه البلاد. ودعا البعض لتصحيح التاريخ من الوجود العربي الاسلامي ويرى آخرون إنها عودة للذات ومصالحة مع التاريخ. على كل نحن نرى أن طغيان مكون على آخر في ظل ظروف معينة يقودنا عادة في متاهات الاحتراب الداخلي والفوضى، ويجعل الجزائر تعيش تقريبا حالة دورية من الاضطراب. لا شك أنه لكل شعب عبقريته في حفظ كيانه لكن ذلك لا يمنعنا من الاستفادة من تجارب الشعوب المعاصرة لنا. فالمصريون يعتزون بالحقبة الفرعونية من تاريخهم لكنهم لا يقدسونها وتظل الهوية المصرية أي الولاء لمصر هو المبتدأ والخبر في حياتهم. والفرنسيون يعتزون بالانتماء لفرنسا الوطن والأمة ولا يركزون كل جهودهم على البحث عن الأصول العرقية لمواطنيهم. الأمريكيون ما يجمعهم هو الولاء لأمريكا وليس لخلفياتهم العرقية المتعددة. إذا أردنا لهذه البلاد أن تتقدم في كنف الاستقرار فلا محيد لنا من تثبيت الولاء للجزائر الأرض والشعب والتاريخ، بعيدا عن النزعة العرقية والولاءات الجهوية، وهذا لا يتعارض مع الاعتناء بالخصوصيات المحلية بوصفها تشكل إثراء قيما للمجموعة الوطنية.