تحوّل الحديث عن التقشّف، من مصطلحٍ تستأنس به السلطة بعدما أطلقته عقب انهيار أسعار البترول، إلى ما يشبِه الثقافة الشعبية، التي يخوض فيها العامة، كما تخوض فيها الخاصة، وقد راح بعض الخبراء الاقتصاديين، يُحذِّرون من آثار الانخفاض الذي يمكن أن تشهده أسعار النفط مرة أخرى، لتزيد من آلام المواطن الذي تضرّر وحده من السقوط الأول، و مع كلِّ فوضى الحديث، لم يتعرّض أحد إلى تثمين العمل وحمايته، كأحد الآليات الحضارية في إحداث التوازن في الميزانية العامة، كي لا يقع خلل على مستوى الفئات الاجتماعية- التي يتألّف منها المجتمع- تنتج عنه إعادة توزيعها توزيعًا قسْريًّا، على حواف حياة المجتمع، فتتشكّل في أغلبها بؤرٌ للتوتّر الاجتماعي، سيُهدِّد استقرار الدولة، أكثر مما تُهدِّدها الاضطرابات السياسية. تتساءل الأغلبية الخائضة في نقاش التّقشّف : كيف استطاعت مجموعات من المنتسبين إلى النخبة السياسية- سواء تلك التي تجلس على كراسي الحكم، أو تلك التي حشرت نفسها في قاعة الانتظار، فيما يُسمَّى المعارضة- تكوين ثروات كبرى في ظرْفٍ وجيز، وسّعت بها دائرة الملياردارات في الجزائر، وأصبحت تملك من المال، ما لم يستطع كبار الصناعيين في الغرب، امتلاكه عبر عقودٍ كاملة، أو ربما في قرون ؟ وكأنهم اجتهدوا فقط في تكديس تلك الثروة، ومنعوها من التدوير المنتج لصالح المجتمع، الذي لم ينل منها شيئا ذا أهمية يُذكَر، في وقتٍ غضّت فيه الدولة الطرْفَ عن هذه الحالة الكبيسة، واكتفت بتقديم جُرْعات تسكين للآلام التي أحدثها هؤلاء، من خلال توظيف نصيبٍ من الرٍّيع البترولي، قد لا يتجاوز نسبة العشرين في المائة، بينما ذهب باقي الثروة النفطية- باسم المشاريع الكبرى التي ظهرت أعطابها القاتلة، بمجرّد دخولها الخدمة- يمينًا وشمالا، ليصب بعضها في أكياس الأثرياء الجدد، وبعضها الآخر لا يعرف أحدٌ كيف نُهِب ولا مَن نهبه. ساسة الحُكم في الغرب المتقدِّم، يُسيِّرون دولهم بعقول الخبراء والمفكِّرين والعلماء، وبذلك استطاعوا أن ينقلوا مجتمعاتهم، من مرحلةٍ متطوِّرة، إلى أخرى أكثر تطوّرًا، وفي البلدان المتخلِّفة، يدير الساسة شؤون رعيّتهم، بتغييب العقل الواعي، وإقصاء كلِّ مَن يستطيع أن يُفكِّر جيِّدًا، وتحييد جميع مَن يقدر على إنجاز مهمات البناء، بكفاءة واقتدار ومسئولية وأمانة، ولهذا بقي هؤلاء الساسة، ينقلون مجتمعاتهم، من حالة تخلّف، إلى حالةٍ أكثر تخلّفًا، وهكذا نجد أن مصطلح التّقشّف، غدا أسهل كلمة في قاموسهم، وربما أصبح ميزة لهم، يُظهرونه كلما دقّ ناقوس انتهاء صلاحيتهم، وانخفض مؤشِّر مصداقيتهم، إلى مستوى لا يستقيم الوضع معه إلا برحيلهم، وسيظل تغييب العقول التي تُفكِّر، والكفاءات التي تُبدِع، والإطارات التي تُخلِص للوطن وحده، سببًا في إيذاء المجتمع بالتّقشّف، الذي لن يتضرّر منه غير الفقراء والمُلتحِقين بهم الكُثُر، وهم الذين لم ينعموا قبل ظهوره، بما كان يجب أن ينعموا به. لم يعُد مصطلح التقشّف قاعدة اقتصادية، يُنصَح باللجوء إليها في الأزمات الخانقة، أو الظروف الحرجة، بعدما فقَدَ نجاعته كما كان يراها خبراء الاقتصاد، بل سيكون الشعب كله أو جُله، مُرغَمًا على شدِّ الحزام، والسقوط في حالةٍ لم يكن مُتسبِّبًا فيها، لأن الإطارات السامية في الدولة، والتابعين لهم من الكوادر الكبرى، ورجال المال والاستثمار، ولاعبي كرة القدم، هم جميعًا خارج مجال ضِيق التقشّف، وحينما تحترق جيوبه، وتنزل إلى الحضيض، قُدْرتُه الشرائية التي هوت حتى قبل الشروع في تطبيق قانون المالية لعام 2016 ، سيدخل بلا شك في هستيريا الضحك على نفسه، لأنه سيحصد ثمار ما زرع على أكثر من مستوًى، فالضحك ليس دائمًا للفرح، وساعتها قد يخرج له مَن يُنكِر عليه حتى ضَحِكَهُ ذاك، ويدعوه أو يأمره بالتقشّف في ما بقي له، لكونه يُسبِّب صداعًا لمن لم يقترب التقشّف من أبوابهم الصلبة المُحصَّنة، ويومها سيتأكد مما كان يسمعه، من أن الوطن هو فقط للأثرياء، وأن الشعب الفقير بثراء بلاده، ليس له منه سوى اللعنات تلاحقه كل يوم، أو قوارب الموت تنتظر أبناءه، أو الهجرة القسرية لأدمغته المُفكِّرة المُبدعة... [email protected]