لا تزال لعنة الفراعنة تفتك بالنخبة المصرية، وحتى إن تراجعت حدتها بعض الشيء، ومثلما بدأت الحملة المصرية موحدة عند الإنطلاقة مثلما نراها اليوم موحدة في التهدئة، مما يعني أنها كانت مدبرة ومخططة من نفس الجهة، وهذا يكشف جلاء حقيقة الديمقرطية المصرية التي يتباهى بها المصريون، وحقيقة الحرية الإعلامية في مصر والتي يفخرون بها أمام العرب، خدمة لهدف وحيد وهو زعامة العالم العربي الذي يشكل أسمى الأهداف لدى الإخوة المصريين. يقول الكاتب والمفكر المصري الكبير توفيق الحكيم في كتابه "البحث عن الذات": "إن فكرة الزعامة على العالم العربي هي التي أضاعتنا جميعا... وهو درس يجب أن نعيه جيدا لمقاومة كل من تراوده نفسه على زعامة العرب والسيطرة عليهم بشخصه وإرادته وأفكاره". كل الدلائل تدل على أن المصريين لم يعوا كلام توفيق الحكيم، وإلا لما كانت مصر تصل إلى هذا المستوى من الرعونة والعجرفة السياسية ومحاولات الهيمنة الثقافية على العالم العربي، ويا ليت أنها تسوق للعرب منتوجا ثقافيا وفكريا في المستوى لهان الأمر• طبعا، وللحقيقة نقول بأن عبد الناصر كان على الأقل يحمل المشروع العربي القومي ويتبنى أفكارا تحررية واجتماعية، وحاول قدر المستطاع الحفاظ على مصالح الأمة العربية، وهذا ما جعل الجماهير العربية تلتف حوله كما ظهر بعد هزيمة 67 لكن الذين جاءوا من بعده رفعوا مشاريع أجهزت على كل ما يمت للعروبة ومصالحها بصلة، ومحاولة الاستمرار في فكر الزعامة بمشاريع خططت لها أمريكا واسرائيل، وهي مشاريع تستبعد فكر المقاومة وتبشر للتطبيع مع اسرائيل والانضواء تحت المظلة العسكرية لأمريكا، هذا كله حققته مصر بعد وفاة عبد الناصر• طبعا، من حق مصر أن تكون كما تشاء، وأن تختار الحلفاء الذين ترغب فيهم، وأن تفرض على شعبها الخيارات السياسية التي تريد، ولكن ليس من حقها أن تقود العرب جميعا وكأنهم قطيع لا إرادة لهم، وهذا جوهر الخلاف الذي تجلى بكل وضوح في الأزمات التي عرفتها المنطقة العربية، بدءا من حرب الخليج الأولى، ووصولا إلى العدوان على غزة، مرورا بالانقسام الفلسطيني - الفلسطيني• يحلو للمصريين ترديد عبارة "لا عرب بدون مصر ولا مصر بدون عرب"، الواقع المعاش يثبت صحة الشطر الثاني من المقولة، لكنه يفند الشطر أول، فمصر اليوم لم تعد سندا للأمة العربية، وقد تجسد ذلك من خلال الدور المصري في فتح الأبواب على مصراعيها للصهاينة لكي يتسللوا إلى معظم الدول العربية في إطار التسويق لفكر التطبيع. خطر مصر ليس في قوتها كما يدعي أصحاب النفوس النرجسية فيها -لأنها مجرد بقرة يافعة كما يقول الشاعر المصري الأصيل أحمد فؤاد نجم - بل في استفادتها من الدعم الأمريكي الاسرائيلي لفرض خيارات هؤلاء على العرب جميعا، ومن هنا وجب التصدي لهذا الدور المهدم لكل إنجازات الأمة العربية. مصر لديها مصلحة في القيام بهذا الدور، وهي مصلحة واحدة وحيدة راسخة في العقلية المصرية، ونقصد بها "البقشيش" الذي تقبضه سنويا من أمريكا، لكن أي مصلحة للشعوب العربية في مسايرة مصر في خططها المعادية للحق العربي؟ لو أن مصر اختارت أن تتعامل مع أمريكا وإسرائيل بقرارها السيد الخاص بها لما لامها أحد، ولكن المشكل أنها تريد جر العرب جميعا إلى أقدام إسرائيل والقبول بها كدولة طبيعية في المنطقة، والتخلي عن فكر المقاومة إلى الأبد. ضمور القوة الناعمة كلنا يعلم بأن مصر لا تملك الكثير من القوة المادية، وهذا ما جعل مفكريها يتحدثون عن القوة الناعمة، من فنانين وراقصات وكتاب وصحفيين، وقد أفلحت الآلة الدعائية المصرية في خلق العديد منهم، وهم الذين ينشرون فكرة "مصر أم الدنيا" في العالم العربي بمناسبة وبدونها، ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من إنشاء ترسانة إعلامية ضخمة، استطاعت في فترة ما ولظروف معينة أن تؤثر في الوجدان العربي الذي لم يكن يعرف غيرها. لكن جاءت ثورة تكنولوجيا المعلومات وقلبت الطاولة على الإنتاج المصري، الذي لم يعرف تطورا نوعيا يذكر بالرغم من ضخامة الإنتاج، العرب اكتشفوا عبر الفضائيات إنتاجات أخرى وبدأت مصر تفقد شيئا من قوتها الناعمة، وهذا أدى إلى ارتباك كبير نلحظه يوميا في النقاشات الدائرة رحاها على مستوى الفضائيات والجرائد. في هذا السياق لابد أن نتساءل عما إذا كان الإعلام المصري حرا حقا كما يدعي المصريون؟ لقد سمعنا في الآونة الأخيرة وخلال الحملة الإعلامية المسعورة ضد الجزائر، العديد من الأصوات تتحدث على أن "إعلام الجزائر موجه" وإعلام مصر حر ومتعدد. طبعا هذا الكلام لا أساس له من الصحة، فلقد رأينا كيف صدرت الأوامر من فوق لكل أجهزة الإعلام المصرية من فضائيات وإذاعات وجرائد، للحديث بنفس اللغة وترديد نفس الأكاذيب، وأكثر من هذا رأينا موائد مستديرة وقد اجتمع عليها كل المعارضين المزعومين للنظام، وقد تحولوا بقدرة قادر إلى مدافعين عن علاء مبارك، الذي كانوا يصفونه قبل ذلك بأقبح الأوصاف، هو وأفراد النظام المصري، وحتى الفنانين الذين رفضوا في البداية الدخول في هذا الدجل الإعلامي رأيناهم - بالصدفة - يقتادون إلى بلاتوهات الفضائيات ليغيروا أقوالهم تماما مثلما يحدث في الأفلام المصرية! سقوط الإعلام المصري لا حدود له، والمشكل أنه لا يسقط فقط مع الآخرين كما حصل مع الجزائر، ولكنه يتطاول ويتفرعن بالأوامر حتى على المصريين، وقد شاهدنا الحملة المصرية ضد الإعلامي المصري أحمد منصور فقط لأنه رفض شتم الجزائر وأكثر من هذا نتابع هذه الأيام بعد أن قلّ نباح الفضائيات ضد الجزائر، الحملة التي تشنها الصحف المصرية بما فيها تلك التي تتمتع بسمعة تاريخية مثل الأهرام، ضد الدكتور محمد البرادعي الرئيس السابق لوكالة الطاقة النووية العالمية، فقط لأنه فكر في الترشح في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، لقد وصفته الأهرام بأنه كان مجرد دبلوماسي في سلك الخارجية المصرية وأنه يحمل جنسية أجنبية وحاولت إسقاطه في نظر الرأي العام المصري حتى لا ينافس جمال مبارك، مع العلم أن هذا الإعلام المصري نفسه هو الذي جعل من البرادعي إلها مقدسا خلال اختياره لرئاسة الوكالة الدولية للطاقة النووية؟ إن المتأمل في طريقة عمل الإعلام المصري الذي هو أقرب للدعاية منه إلى الإعلام يقف على حقيقته التي تجعله في خانة الجهاز الدعائي أكثر منه شيء آخر• لقد دلت تجربة الحرب الإعلامية الأخيرة على الجزائر أن قوة الإعلام لا تكمن في الوسائل أو الضخامة، بل تكمن في طريقة التعاطي مع الأحداث• كما برهن الإعلاميون المصريون بأنهم يجهلون كل شيء عن الجزائر وحتى عن مصر بدليل أنهم لا يزالون يرددون بأن مصر مذكورة في القرآن الكريم بالرغم من أن القرآن لم يذكر مصر إلا مقرونة بالفساد والكفر وانتقام الله من حكامها ولعنه لهم، في حين أن البربر الذين وصفوهم بكل النعوت لم يلعنهم القرآن ولم يذكر أن دمرهم أو انتقم منهم! لكن هذا بدوره يقودنا إلى الإلحاح على ضرورة فتح القطاع السمعي البصري لأنه من غير المعقول أن تبقى أصواتنا محبوسة في صدورنا لا تجد طريقها إلى العالم في زمن العولمة والحروب الإلكترونية وتكنولوجيا الاتصال• الشرخ أكبر من سحابة عابرة! إن ما حصل بين الجزائر ومصر جراء مقابلة في كرة القدم وما صاحبه من هجوم شرس من طرف الإعلام المصري الذي مس الشهداء والكفاح والثورة وشرف الجزائريين بشكل لم ترتكبه سوى الدعاية النازية التي ركزت على تحقير الشعوب، كل هذا ترك شرخا كبيرا في أعماق الشعب الجزائري ليس من السهل تجاوزه. صعوبة هذا الشرخ تكمن في كونه أصاب الشعب قبل الحكومة، فالسلطة والنظام السياسي في البلدين سوف يتجاوزان بسرعة هذه المسألة لأنهما يتعاملان بلغة البراغماتية والمصالح والتنازلات المشتركة والوساطات والحسابات السياسية، لكن أي حديث عن المصالحة الشعبية على الأقل من جانب الجزائر يبدو بعيدا - على الأقل - في السنوات القليلة القادمة. تجاوز هذه المحنة لا يتم إلا عبر خطوات محددة لا بد لمصر أن تقوم بها لأنها هي وإعلامها من أخطأ في حق الشعب الجزائري وبطريقة غريبة. إن كل الخلافات بين الجزائر والمغرب والتي بلغت حد الحروب والمناوشات العسكرية لم تؤد لا من جانب الجزائر ولا من جانب المغرب إلى الوصول إلى سب الشعوب والطعن في شرفها. مصر الآن مطالبة بأن تراجع نفسها وتلغي من ذهن الشعب المصري نهائيا حلم زعامة العرب، وأن تتعامل مع العرب وفق مبادئ التعاون المشترك والمصالح المشتركة والمساواة والاحترام المتبادل، وأن يتم التفكير في إعادة صياغة العلاقات العربية عبر وقف احتكار مصر لمقر الجامعة العربية وكل المنظمات التابعة، ولسنا ندري سبب هذا الاحتكار الذي لا مثيل له في العالم، يضاف إلى هذا ضرورة انتهاج أسلوب إعلامي جديد بعيدا عن أساليب العوالم والراقصات الذي ظهر جليا خلال هذه الأزمة بحيث رأينا وسمعنا الراقصة فيفي عبدو أكثر من حسنين هيكل أو فهمي هويدي؟! وهناك أيضا ضرورة محاسبة مصر وفق القوانين الدولية المنظمة للبث التلفزيوني والإذاعي وقوانين الجامعة العربية التي عملت مصر على تمريرها خاصة القانون المنظم للبث التلفزي الذي كان المقصود الأول منه تصفية حسابات مصر مع قناة الجزيرة، فبهذا القانون نفسه يمكن معاقبة مصر التي شنت حملة شتم وقذف ضد الجزائر. طبعا لا يمكن أن نتوقع قطعا للعلاقات أو قطيعة أبدية لأننا متأكدون أن هناك الكثير من المصريين الذين يرفضون ما قام به الإعلام المصري ضد الجزائر، وهناك الكثير من الإرادات الحسنة التي لا تزال تؤمن بضرورة النضال من أجل عودة الوعي لمصر وتخليها عن مشروع التطبيع مع اسرائيل، هذا واقع لا نشكك فيه، لكن الشرخ الذي حدث عميق جدا يقتضي منا الإرادة والكثير من الوقت لترميمه.