ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3583 شهيدا و 15244 مصابا    هولندا ستعتقل المدعو نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذه السودان التي يعرفها الجميع.. وهذه السودان التي لا يعرفها أحد


استطلاع : د محمد لعقاب
بدعوة من إدارة الإعلام الخارجي في جمهورية السودان، قمت بجولة استطلاعية إلى الخرطوم رفقة مجموعة من الوفود الإعلامية والكتاب من عدد من دول العالم العربي والإسلامي وبعض الدول الأوربية والأسيوية، وكانت المناسبة انعقاد المؤتمر الرابع للجنة أجهزة الأمن والمخابرات في إفريقيا في الفترة 1 – 8 جوان 2007 ، وقد عملنا عل استغلال الفرصة للوقوف على حقيقة السودان بين ما تعلق في أذهاننا مما تبثه وسائل الإعلام الدولية، وبين السودان الحقيقي التي لا أثر له .. إلا في السودان. وقد زار السودان خلال العام الماضي وحده أزيد من 4200 صحفي.
قبل أن تطير بنا الطائرة تجاه القاهرة، وهي نقطة العبور في رحلتنا، كانت مخيلتي مسكونة بالسودان، لكنني لم أجد فيها سوى دارفور والجانجويد والحرب الأهلية في الجنوب والضغوطات الأمريكية على حكومة البشير.. حاولت أن أجد في مخيلتي شيئا جميلا عن السودان، فلم أجد سوى الرواء السوداني الكبير طيب صالح الذي عاش العرب على روايته المشهورة لسنوات طوال »موسم الهجرة إلى الشمال«. لم أكن أعرف طيب صالح مثلما لم تسبق لي زيارة السودان، التقيت بطيب صالح عام 2006 في مدينة الرياض بدعوة من المملكة العربية السعودية لحضور فعاليات مهرجان الجنادرية الثقافي الشهير.
طيب صالح الذي التقيته ليس هو طيب صالح الذي ترسخ في ذهني وأنا أطالع مرات ومرات »موسم الهجرة إلى الشمال«، كذلك لم تكن السودان التي وجدتها عندما حطت بنا الطائرة على الساعة الخامسة صباحا في الخرطوم هي ذات السودان التي غرستها في ذهني مرات ومرات وسائل الإعلام الدولة. فالسودان التي غرستها فينا وسائل الإعلام الغربية حسب أجندتها المعلومة والمجهولة هي السودان التي يعرفها الجميع، أما السودان التي زرتها فهي تلك التي لا يعرفها أحد.
ملتقى الأعراق والأديان
مشكلة دارفور، مشكلة الجنوب، تقاسم السلطة، تقاسم الثروة، حقوق الإنسان، والديمقراطية .. هذه بعض المفردات التي تسوقها صباح مساء وسائل الإعلام الدولية عن السودان، وهي تقدم لنا في شكل كلي ليتم قبولها على أساس أنها حقيقة مطلقة أو مسلمة أو بديهية.. حتى يعجز الناس عن التمييز بين ما هو حقيقة وما هو دعاية وبين ما هو إخفاء لأجندة دولية مستقبلية.
وحقيقة السودان أنه مثل القارة الإفريقية تماما، أو قل إن شئت إنه صورة مصغرة للقارة الإفريقية، وإذا أردت أن تتعرف على كل إفريقيا سوسيولوجيا وأنتروبولوجيا، يكفيك التعرف بدقة على السودان فقط.
فالسودان هو بحد ذاته قارة، يتربع على 2.5 مليون كلم مربع، وهي أكبر مساحة في الوطن العربي، ويتقاسم الحدود مع تسعة دول إفريقية وعربية، وله ساحل بطول 700 كلم على البحر الأحمر، تمتزج فيها الأعراق الإفريقية الزنجية بالعرق العربي، فاختلطت دمائهم جميعا، وتتعايش فيها المسيحية والإسلام وحتى من لا دين له.
والسودان ليست هي الدولة الوحيدة في العالم ولا في إفريقيا التي تعيش مشاكل مع الصراعات العرقية، فإفريقيا كلها تعاني من هذه التركة الاستعمارية، وبعد الإستقلالات الوطنية بقيت هناك العديد من العوامل المغذية لها، وتلعب على حبلها الدول الكبرى لتحقيق مطامعها. وهذا التعدد هو منبع المشاكل. فالصراع بين الشمال المسلم والجنوب ذو الأغلبية المسيحية يعود إلى ما قبل استقلال السودان عام 1956، وقد ابتلع هذا الصراع نحو خمسة ملايين ضحية من الطرفين، كما ابتلع كل الثروة الوطنية التي وجهت للسلاح بدل توجيهها للتنمية البشرية والاجتماعية.
وقد توصلت الحكومة السودانية بقيادة البشير إلى حل مشكل الجنوب عبر مفاوضات بين الطرفين وتوقيع اتفاق سلام في نيفاشا الذي وضع حدا لأطول حرب في إفريقيا، وهو يسير حاليا إلى مراحله النهائية بعد حل بعض المشاكل التقنية. إذا لم تتدخل أيادي أجنبية لإعادة الموضوع إلى نقطة الصفر. ويمثل الجنوب في السلطة المركزية السيد سيلفا باكير بصفة نائب الرئيس عمر البشير، خلفا للزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق الذي لقي حتفه في سقوط طائرته بعد أن وقع اتفاق سلام مع الحكومة المركزية.
والغريب بالنسبة للسودانيين مثلما صرح به لنا السيد نافع علي نافع نائب مساعد الرئيس عمر البشير ونائب رئيس المؤتمر الوطني الحزب الحاكم هو أن عشية التوصل إلى حل مشكلة الجنوب أطلت علينا مشكلة دارفور وجعلتها أمريكا الهدف الأساس، وهي كما قال تنتهج سياسة أنتجتها اللوبيات في أمريكا توظف دارفور لخدمة أجندتها، ولا علاقة لها بحقوق الإنسان والديمقراطية، ثم أكد أن السودان يواجه استعمار جديد.
ومع ذلك توصل الفرقاء السودانيون عام 2006 إلى اتفاق أبوجا لتحقيق السلام في دارفور أي في المنطقة الغربية، وقد عين الرئيس السوادني عمر البشير السيد »مني مناوي« كبير مستشاريه وهو رئيس حركة تحرير السودان التي كانت تحمل إسم حركة تحرير دارفور، وكان ضيفا على حفل اختتام المؤتمر الرابع للجنة أجهزة الأمن والمخابرات في إفريقيا ، حيث ألقى كلمة اشاد فيها بمسار السلام في السودان، ودعا جميع الفصائل الأخرى للتوقيع على الاتفاق. لكن المشكلة الحقيقية هو أنه غداة اتفاق السلام ظهر إلى العلن نحو 14 فصيلا معارضا للسلام بعدما كانت دارفور تحصي ثلاثة فصائل : اثنان منها وقعا على الاتفاق.
أما مشكل الحدود في دارفور، فهو حسب الكثير ممن تحدثنا إليهم واستمعنا لتصريحاتهم مثل السيد علي نافع، ووزير خارجية السودان، ووزير الإعلام السوداني، وشخصيات أخرى، مردها إلى أن السودان وعدة دول إفريقية تتكون من عدة قبائل وهذه القبائل وجدت قبل أن توجد الحدود، وأحيانا هناك نفس القبيلة تتواجد في دولتين، وقد قال لنا بعضهم أن إدريس دبي رئيس تشاد هو نفسه ينحدر من قبيلة من دارفور.
كذلك تم التوصل إلى اتفاق سلام في المنطقة الشرقية عام 2007 يعرف باسم اتفاق أسمرة والقاهرة، وهو يسير تدريجيا نحو التطبيق.
وعندما تنظر وتعيش مستوى التنمية في العاصمة السودانية الخرطوم، فإنك تلاحظ أنها في ذات مستوى التنمية في كامل جهات السودان، وما الأصوات التي تعلو سوى انعكاس لتعددية العرق والدين والقبائل، وهي العوامل المبلقنة التي يمكن للقوى الخارجية أن تلج منها للنفوذ في دولة تمتلك ثروات نفطية هامة وثروات باطنية أخرى عديدة كاليورانيوم والذهب والحديد وغيرها.
وإذا كانت السودان تطلب أي دعم ، كما قال لنا أحد الصحفيين ، من أي بلد عربي أو إفريقي أو غربي، أو من أي هيئة دولية، فليس سوى دعمها في تثميبن المكاسب التي تم تحقيقها من خلال مفاوضات واتفاقيات »نيفاشا« »أبوجا« و»أسمرة و القاهرة«. فالسودانيون اليوم يؤسسون لنظام حكم فدرالي على أسس تفاوضية، ومرحلة التأسيس هي أصعب مرحلة، ويبدو كما قال حتى المسؤولون السودانيون أن أمريكا تعمل على عرقلتهم بشكل مفضوح.
إن الخرطوم هي عاصمة السودان، وهي المكان الذي يلتقي فيه النيل الأبيض بالنيل الأزرق، قبل أن يشق طريقه تجاه مصر، التي قال بشأنها هيرودوت : »إن مصر هبة النيل«. وكنت أتساءل دائما كيف لمصر أن تكون هبة النيل بينما لم تكن السودان حيث يلتقي النيلين هي هبة النيل بدل مصر؟، لكن إذا صحت مقولة هيرودوت، بشأن مصر، فإنه يمكن القول أن السودان هي هبة النيلين: الأبيض والأزرق معا.
وقد تساءلت كثيرا عن السبب الذي جعل النيل من مصر حضارة كبيرة، ولم يجعل النيلان من السودان دولة عصرية مثل مصر على وجه المقارنة، فكان الجواب كالصاعقة: إن السودان لها حضارة تاريخية عريقة.. لكن تأخر التنمية مقارنة بمصر إنما يرجع لظروف السودان بعد الاحتلال وخاصة الحرب الأهلية في الجنوب التي أكلت الرجال والإمكانيات، ولم تترك شيئا تواجه به الخرطوم التنمية البشرية والاجتماعية. وقد فاجأني أحدهم بالقول : إن 10 سنوات من الإرهاب في الجزائر، جعلتكم تتأخرون حتى في كرة القدم. لذلك تحصي السودان اليوم نحو 65 بالمئة من الأمية، وتباطئا ملحوظا في التنمية الاجتماعية.
وعندما وصلت إلى مطار السودان الدولي كانت علامات ذلك بادية للعيان، فرغم الحركية الكثيفة التي يشهدها المطار، إلا أنه مازال دون مستوى المطار الدولي، لا من حيث الهياكل ولا من حيث طريقة التعامل مع المسافرين، حتى أنه لا يوجد جهاز كومبيوتر للتعرف على حجز المغادرين ، وما زال التعامل بطريقة »شبه تقليدية«.
تتكون العاصمة الخرطوم من ثلاث مقاطعات : الخرطوم البحري، الخرطوم، وأم درمان، وتضم نحو 5.5 مليون ساكن من أصل 35 مليون ساكن تحصيها السودان. ولأنها ملتقى النيلين حيث خصوبة التربة، فإن غالبية السودانيين يعيشون على الزراعة، والتجارة أيضا على اختلافها ولو أن المحلات الكبرى لم تتطور بالشكل الذي فرضته العولمة في عدة بلدان مجاورة. كما أن الشوارع والطرقات والمباني ما تزال متأثرة بسنوات متراكمة من »عدم التنمية« تحت تأثير الحرب الأهلية في الجنوب.
وتمارس المرأة دورها الاجتماعي الند للند مع الرجل، بل إنها تتفوق عليه في كثير من المجالات الإدارية، وربما يرجع ذلك إلى أن المرأة في السودان تشكل ثلثي المجتمع. وهو ما قد يؤثر سلبا على واقع المرأة، خاصة من حيث الزواج، وهو ما جعل تعددية الزوجات أمرا مقبولا ولو على مضض. وتشتغل المرأة السودانية في كل قطاعات النشاط، من »ست الشاي«، وهي المرأة التي تبيع الشاي والقهوة والعصائر في الأسواق والشوارع والمنتزهات، إلى الشرطة والجيش والإدارة والزراعة والتجارة.
وتتميز المرأة السودانية بارتداء ثوب شبيه بالثوب الهندي والموريتاني وحتى الثوب الصحراوي )الصحراء الغربية(، أما الرجل فيشتهر بالعباءة التي تسمى »الجلابية« والعمامة التي يطلق عليها »العمة«. وتميل بشرة المرأة السودانية كالرجل تماما نحو السمرة وحتى السواد، وربما هذا هو سبب تسمية السودان بالسودان.
ولأن السودان هي بلد النيلين : الأبيض والأزرق، كان طبيعيا أن تنال حظا وافرا من »الصيد النهري«، ويشتهر السمك النيلي بمجموعة من الأنواع، وقد نلنا منها قسطا كبيرا في الفندق الذي اختير لإقامتنا وسط الخرطوم. ولعل أهم الأنواع : الهامور والبلطي والنق والبياط، ويعد البياط أجودها وأغلاها سعرا. وتعد أسعار السمك معقولة ومناسبة تماما للدخل الفردي، وهي على العموم أرخص من أسعار اللحوم.
في الخريف يرتفع منسوب النيل فيختفي السمك في الأعماق وسط الطين والوحل، فيرتفع السعر نسبيا، وبعدها يعود السعر إلى استقراره الطبيعي ليشكل غذاء أساسا في البلد. ومع ذلك فإن الصيد النيلي ما زال يمارس بطريقة تقليدية، ما يعني أنه موجه للإستهلاك الفردي أكثر منه للإستهلاك الواسع. وتشير الإحصائيات أن المستغل من الثروة السمكية لا يتعدى 30 بالمئة.
وتتمتع السودان بثروة حيوانية كبيرة خاصة البقر والضأن والإبل، وهي تصدر لحومها إلى عدة دول مثل ليبيا والسعودية، ويقوم الرجل السوداني بإنتاج هائل لمشتقات الحليب من ألبان وأجبان مختلفة.
وتحصي السودان أزيد من 135 مليون رأس من الحيوانات، وتحتل بذلك المرتبة الأولى في الوطن العربي والثانية في إفريقيا، وتشكل الحيوانات نحو 20 بالمئة من الدخل القومي، وهي نفس نسبة مساهمة المحروقات في الناتج القومي في الإمارات العربية المتحدة. وتساهم في 22 بالمئة من دخل البلاد من العملة الصعبة. ويقولون أن ألحام بقر السودان من أجود الألحام في العالم على الإطلاق.
النفط في خدمة التنمية
عندما سألنا بعض الصحفيين وحتى بعض الدبلوماسيين عن واقع التنمية العمرانية في السودان، قالوا بالحرف الواحد أن السودان اليوم دولة تتحرك في هدوء نحو المستقبل، فالسودان قبل ثلاث سنوات فقط كانت مضرب المثل في التخلف التنموي، وكان يصدق عليها فعلا المثل المصري »في السودان كل شيئ زفت ما عدا الطرقات«.
لقد بدأت أموال البترول تظهر على ملامح التنمية، فمنذ التسعينيات دخلت السودان النادي النفطي، وبعد أن كانت تستورد نحو 400 مليون دولار سنويا لتغطية حاجياتها من النفط، أي أنها كانت تستهلك على تغطية هذه الحاجيات 50 بالمئة من عائداتها من العملة الصعبة، هاهو السودان اليوم يغطي كل حاجياته النفطية، وبدأ يتوجه نحو التصدير.
وفعلا فإن السودان حاليا تعرف نهضة في الطرقات حيث تم تعبيد طرقات وسط الخرطوم، وتم شق طرق سريعة حول العاصمة تربطها بعدة مدن مجاورة، وبدأت النهضة العمرانية العصرية تبدو واضحة للعيان، والسودانيون جميعهم يحمدون الله، ويراقبون هذه النهضة بفرح كبير وبتوقع أفضل في المستقبل القريب.
وتغطي الكهرباء نحو 80 بالمئة من التراب السوداني، والسودانيون يرتقبون انتهاء انجاز مشروع »سد مروي« على ضفاف النيل، لإنتاج الكهرباء، ويقولون أن طاقته ستغطي كل السودان وحتى إثيوبيا وتشاد، ويقولون أيضا أنه يتفوق حتى على السد العالي في مصر.
يتنقل السودانيون عامة في حافلات صغيرة متفاوتة الحمولة داخل العاصمة الخرطوم وداخل المدن الأخرى، فهي تتسع ل 9 مقاعد إلى 30 مقعدا. إلى جانب سيارات الأجرة والسيارات الشخصية. ويلاحظ أن معظم الحظيرة السودانية للسيارات هي أسيوية الصنع : يابانية، كورية. أما السيارات الأوروبية فتسيطر عليها ألمانيا، كما أن حظيرة السيارات في السودان جديدة نسبيا مقارنة بمصر، وربما يرجع ذلك إلى سياسة القروض التي تنتهجها البنوك التي أفضت إلى تجديد الحظيرة بشكل ملفت. وتسير في الخرطوم يوميا نحو 24 ألف سيارة.
عندما وصلت إلى الخرطوم، كانت مضيفة الطائرة تعلن عن درجة حرارة في حدود 33 درجة مئوية عل الساعة الثالثة صباحا. وهي ترتفع إلى أكثر من ذلك بكثير في النهار، وكان صعبا علينا تحملها، ففي هذا الفصل بإمكانك أن تستغني عن كل شيء ما عدا المكيفات. ومع ذلك فإن الرجل السوداني والمرأة السودانية أيضا، يشتغلون بشكل عاد ويتحركون ويتنقلون ويقفون في الشارع يتضللون بأشعة الشمس وكأنها غير موجودة أصلا، لقد تكيفوا معها ولم يعد أحد يشعر بإزعاجها.
وتتميز الحياة العائلية في السودان بالتكاتف والتضامن الاجتماعي، وهو ما ساعد على التغلب وقهر المشاكل الاجتماعية الكثيرة. وتشتهر مائدة العائلة في السودان بأكلات شعبية ذاع صيتها وهي : العصيدة المصنوعة من الذرة أو القمح أو بكليهما، وهي شبيهة بالحساء، ثم الكسرة، والفول السوداني الذي يعد طبقا أساسيا خاصة في الفطور أو العشاء ونادرا ما يقدم في الغذاء.
وفي القرى والمداشر ما زال »العمدة« يتمتع بالكلمة والنفوذ، ويسمى العمدة في دارفور ب »شراطاي«، ولأنه أصبح جزء من التاريخ الثقافي للسودان، فقد تم تخليده في الخرطوم بوضع تمثال لعمدة وهو يجلس في مدخل مقهى شعبي لتناول الشيشة، اسمه »دوار العمدة« وهو مقهى شبيه إلى حد كبير بالمقاهي الشعبية في السعودية.
المقرن : ملتقى النيلين
كان لزاما علينا ونحن نتجول في شوارع الخرطوم، أن نطلب من مضيفينا القيام بزيارة إلى نقطة التقاء »النيل الأبيض« مع »النيل الأزرق« فزيارتنا للسودان لا تكتمل بدونها، فكان لنا ما أردنا، وتلك النقطة تعرف باسم »المقرن« حيث يقترن النيلين، وتقع في آخر شارع النيل الشهير حيث تستعد السودان لتحويله إلى شارع سياحي كبير ونقل المباني الحكومية من تلك المنطقة إلى جهة أخرى.
والمقرن ليست ملتقى النيلين فقط، لقد أقام السودانيون بمحاذاتها منتزها جميلا ورائعا يؤمه الناس وحتى الأجانب للاستجمام والراحة. وتقع المقرن بمحاذاة جزيرة »توتي« حيث تعتزم الخرطوم بناء مدينة سياحية كبيرة بقيمة أربعة ملايير دولار تعرف باسم »السنط«، وقد انطلقت الأشغال بها عام 2006 ومن المقرر أن تنته بشكل تام بعد عشر سنوات أي عام 2016، لكن معالمها الأولى ستظهر عام 2009.
وبالمقرن تمتعنا كثيرا ونحن نتفرج عل تزاوج ماء النيل الأبيض مع الأزرق، حتى أن السودانيين ينكتون أحيانا، فعندما ترغب في قارورة ماء يقولون لك : هل ترغب في ماء أبيض أم ماء أزرق ؟ باعتبار النيل هو مصدر المياه الصالحة للشرب في السودان.
وبمحاذاة المقرن يوجد جسران يربطان الخرطوم بأم درمان، أحدهما شيده الإنجليز في فترة الاحتلال، ويعرف باسم الجسر الإنجليزي، والآخر بني في عهد الرئيس الحالي عمر البشير.
وقبل أن نغادر المقرن باتجاه أم درمان عابرين الجسر الإنجليزي، كان لابد من تناول الشاي عند »ست الشاي« في منتزة المقرن . والقهوة السودانية تصنع بالزنجبيل، وهناك شاي سوداني، وعصير كركدى وهو يشرب باردا وحارا حسب الرغبة. وتجد لدى ست الشاي أيضا البخور السوداني لإضفاء المرح على بيئة الجلسة ويتكون من ثلاثة مركبات »جاولي، عدني، وعودة«.
عندما وصلنا أم درمان حرص مضيفونا في إدارة الإعلام الخارجي على اطلاعنا على »بيت الخليفة« وهو بيت تاريخي بني عام 1887 من الطوب والحجر. أما الخليفة فهو عبد الله السيد محمد تورشين الذي خلف المهدي الذي حارب الإنجليز، والمهدي ليس سوى جد الصادق المهدي الشخصية السياسية المعروفة في السودان اليوم. وقد اختير في عام 2007 ضمن أشهر شخصيات العالم. وبيت الخليفة اليوم هو عبارة عن متحف يشتمل على تاريخ الثورة المهدية ضد الإنجليز وبعض آثار الاستعمار الإنجليزي. وبجانب بيت الخليفة، أقيم ضريح المهدي الذي يزوره الناس يوميا باعتباره رمزا وطنيا ودينيا.
منطقة جاد الصناعة : هنا تركيب السيارات والشاحنات
وحتى تكتمل الزيارة وتجمع بين مختلف ملامح السودان، تم استضافتنا من قبل مسؤولي منطقة »جاد« الصناعة، الواقعة على بعد 40 كلم عن العاصمة الخرطوم، وما هي إلا 45 دقيقة من السير على متن حافلتين عصريتين، حتى نزلت الوفود الإعلامية والكتاب والمثقفين في هذه المنقطة. وبعد عرض فيديو للمنطقة الصناعة، وأهم نشاطاتها قمنا بزيارة ميدانية لمختلف فروعها.
ففي السودان يتم تركيب السيارات الأسيوية المختلفة والشاحنات الألمانية الكبيرة الحجم، والجرارات وآلات الحصاد. وتنشط هناك عدة شركات : هونداي الكورية، نيسان اليبانية، رونو الفرنسة، وجين الصينية، مان الألمانية، فارجيسون الإنجليزية.
وتنتج معامل تركيب السيارات نحو 20 سيارة سياحية في اليوم، ونحو 120 شاحنة في الشهر. وتعمل هذه المعامل على تلبية السوق المحلي أولا، مع العمل على رفع الإنتاج تدريجيا لتسويقه إلى الخارج، وحاليا تقوم بتصدير كميات حسب الطلب لكل من تشاد إرتيريا وإثيوبيا.
والغريب في الأمر أن »جاد« أدرجت ضمن الشركات التي سلطت عليها العقوبات الأمريكية بدعوى أنها تنتج سيارات للجيش يستخدمها في دارفور. وقد أوضح مسؤولو جاد الذين شرحوا لنا كل المعطيات أن الحظر لا يؤثر على الشركة لأنها لا تتعامل أصلا مع الشركات الأمريكية.
السودان : مركز إقليمي للإعلام والاتصال
لم نشأ مغادرة الخرطوم قبل الاستماع لوزير الإعلام والاتصالات السيد إبراهيم الزهاوي، وقد قدم لنا تشخيصا لواقع الإعلام وقطاع الاتصالات في السودان، فالخرطوم اليوم تسعى لكي تكون مركزا إقليميا للاتصالات في إفريقيا. ولتحقيق هذا الهدف تسعى الحكومة لربط السودان بمصر وإثيوبيا بالألياف البصرية، كخطوة لربط القارة كلها، وقد توصلت السودان اليوم لزرع نحو 16 ألف كلم من الألياف البصرية، كذلك تم ربط السودان بالسعودية بالكابل البحري عن طريق جدة، وتم ربط السودان بجنوب أوروبا والهند وآسيا والإمارات. وهناك مشروع لربط السودان بإرتيريا بالألياف البصرية. وللسودان أيضا مشروع كابل نهري )عبر النيل( لربط السودان وأوغندا ورواندا. وبعد تحقيق اتفاق السلام مع الجنوب تسعى الحكومة المركزية لتغطية كل جنوب السودان بالاتصالات. وفي خطوة كبيرة قامت حكومة السودان بتحرير كلي لقطاع الاتصالات.
وهي تعمل حاليا على تعميم تجربة تحرير قطاع الاتصالات على الإعلام. وهو ما بدأ يتأكد ميدانيا، فالحكومة السودانية لا تملك أي صحيفة مكتوبة من أصل 18 يومية سياسية أشهرها الرأي العام، والإنتباهة، ونحو 07 صحف أخرى اجتماعية ورياضية. وهناك صحيفتان باللغة الإنجليزية تنشر ملحقا أسبوعيا باللغة الفرنسية.
وفي الوقت الذي يشرف على قطاع الاتصالات المجلس القومي للاتصالات، فإن قطاع الإعلام يسهر عليه »المجلس القومي للإعلام«. وقد أشار وزير الإعلام السوداني أن الحكومة تفكر في إلغاء وزارة الإعلام بشكل نهائي.
أما بخصوص القطاع السمعي البصري فقد اتجهت الحكومة نحو تحرير الإذاعة حيث منحت تراخيص للخواص وشركات لإنشاء إذاعات أف أم. ويجري التفكير لتحرير قطاع السمعي البصري بشكل كامل. وفي الوقت الذي كانت الخرطوم على مشارف الإعلان عن تحرير قطاع السمعي البصري، يقول وزير الإعلام »اطلعنا على التجربة الأوغندية، فتريثنا قليلا بهدف الاستفادة منها بشكل أفضل«، وهناك حاليا مشروع قانون لتحرير قطاع السمعي البصري سيعرض على الحكومة.
والملاحظ أن البث الإذاعي والتلفزي لا يشمل جميع السودان، لكن بعد اتفاقات السلام بين الحكومة المركزية والجنوب ودارفور ومنطقة الشرق فإن هناك توجه لتغطية جميع التراب السوداني.
والأكثر من هذا أن الخرطوم تعمل بشكل جدي لسد الفجوة الرقمية، وقد أعلنت يوم 17 ماي 2007 ، أي بمناسبة اليوم العالمي للاتصالات عن »مشروع ثورة المعلومات«، فأنشأت صندوق وطني لدعم المعلوماتية، وتم تزويد المدارس بالحواسيب، وبدأت بإنشاء 500 معمل حاسوب لتغطية نحو 2200 ثانوية في السودان.
كما تم ربط 27 جامعة في السودان بالألياف البصرية، ليتم ربطها فيما بينها، ثم بجامعات إفريقية وعربية ودولية. وفي شهر ماي 2007 بدأت جامعة الخرطوم في تنفيذ المحاضرة الرقمية، وهناك مشروع »الطب الإلكتروني« من خلال إنشاء 17 وحدة طبية للتداوي عن بعد يتم ربطها بجامعة الطب في الخرطوم.
كان هذا الاستطلاع بمثابة زوم عن السودان التي يعرفها الجميع .. والسودان التي لا يعرفها أحد. فالسودان ليست دارفور فحسب، بل هي دولة تتجه نحو المستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.