مع بداية كل عام جديد، أختلي بنفسي وأقوم بعملية جرد حساب شخصي لما أنجزته وما أخفقت فيه خلال السنة التي انقضت. الفكرة كلها تدور حول الوقوف عل بعد مسافة محددة من كل ما جرى وما حدث خلال السنة التي مضت، في تقابل بين الخاص والعام. ماذا بعد؟.. هو السؤال نفسه يتجدد مع بداية كل سنة جديدة، فقد مضى عام وها نحن نستقبل عاما جديدا، فما سر كل هذا الانشغال بالزمن والاحتفاء به؟.. إذ ما أن تتوارى المناسبة المرتبطة بذلك اليوم حتى ننسى مهمة معرفة علاقتنا بالزمن وكيف نجعله دائم الحضور في حياتنا، حيث أننا نهتم بالمناسبة أكثر مما نعتني بتداعياتها وبالأسئلة التي تتولد عنها. أول ما يتبادر إلى الذهن أننا نعيش لحظة انتهاء عام وبداية عام جديد، ولكننا لن نعي أهمية هذه اللحظة ما لم نتأمل في معنى علاقتنا بالزمن! ومن هذا المنطلق فإن ما يجدر بنا أن نحتفل به هو ما أنجزنا وما نريد أن ننجز، وبذلك نتعامل مع الزمن على أنه تجسيد لأمنيات وليس مجرد تمثيل لتلك الفجوة الكبرى بين أحلامنا والواقع الذي نعيشه. ها هي الرحلة - وهي شاقة بالتأكيد- تتواصل لشعب يحمل أحلاما كبيرة، لكن الوقائع تبقى أقوى من الأحلام، ومع ذلك وجدتني غارقا في الحلم، وبما أنني أحلم، وجدت في يدي قائمة طويلة بالمعارك القادمة في الطريق، فمن أين تكون البداية، وها هو الشعب في حاجة إلى أن يتحدى وينجح، هذا ما تجلى في ملحمة انتصار فريقنا الوطني التي جسدت اعتزاز الجزائريين بوطنهم وتعلقهم برايتهم وتشبثهم بكرامتهم. أسأل نفسي: هذا الشعب المتقد بالشعور الوطني، المتحفز لرفع اسم الجزائر عاليا والذي كان جيشا منتصرا في مباراة كرة القدم، لماذا لا يخوض معارك حياته اليومية بنفس الكفاءة والحماس، لماذا يستسلم للخمول في كثير من قضاياه المصيرية. وأنا غارق في حلمي، سمعت هاتفا يقول: دع الشعب لهمومه، ألم تسمع عن الفقر والبطالة والفساد والحراقة، عن انكماش الطبقة الوسطى وتوحش الشريحة الرفيعة للطبقة الثرية، في حين تتجرأ فئة من الانتهازيين والمنتفعين والفاسدين على المتاجرة ببؤسه وآلامه، وهي تتقلب في النعيم. تلح على خاطري مشاكل الجزائر التي تتوالد، فما الحل؟ أكد لي الحلم أن الشعب هب من نومه فزعا وقد اكتشف أن أكثر من نصفه مريض بالأمية، وأنه قرر على أن يبرأ من مرضه.. نعم ليس حلما مستحيلا أن تتراجع الأمية وتختفي، إذا تحولت الجزائر كلها إلى مدرسة لا لمحو الأمية الأبجدية فحسب بل أيضا الأمية المعلوماتية، وعند ذاك ستعرف الجزائر "جراحة تجميل" تغير جذريا ملامحها السياسية والاجتماعية والثقافية. وبما أنني أحلم، تمنيت بأن المسؤولين في بلادي -وأتحدث عن الكبار منهم- لا يحلمون فقط، بل إن الحلم بالنسبة إليهم هو تحد ومسؤولية.. وحلمت بأن هؤلاء المسؤولين - وأقصد النزهاء منهم والمخلصين- كانوا في مستوى الأمانة، فإذا "الرؤوس التي أينعت" تسقط تباعا، وإذا دولة القانون قد بسطت سلطتها بالحق والعدل على الجميع، لا فرق بين صغير وكبير. وتماديت في حلمي، وها أنا أحلم بأن طاقات الأمة المادية والفكرية قد تضافرت من أجل التأسيس لمرحلة ما بعد الأزمة ، كيف تقطع الجزائر صلتها بمرحلة مخزية من تاريخها حتى تنتهي تلك الأزمة الدامية في النفوس وتخرج من الذاكرة. وكان لي أن أحلم أن آلام الشعب طيلة سنوات الفوضى والجنون قد أصبحت دافعا نحو المراجعة والتأمل ثم الانطلاق والتقدم، فالأمم العظيمة تصنعها الآلام العظيمة، وذلك هو حال الشعب الجزائري، شريطة ألا يأتي ذلك كله بمردود عكسي يدفع نحو الاستغراق المستمر في النقد السلبي الدائم للشأن العام والبكاء على الأطلال والجمود أمام الانكسارات والهزائم. ما أجمل الواقع وهو يرفل في ثوب الحلم.. وها أنا أحلم بأن بلادي قد تنبهت إلى نفسها، وكأنها في شوق إلى أن ترفع التحدي.. وحلمت -والحلم بالمجان- أنها قد تبنت " ثقافة المقاومة".. مقاومة كل فكر يستهدف تطويع الشعب ومسخ الأجيال وضرب الهوية الوطنية والمس برموز الأمة وسيادة الدولة. وبما أنني أحلم، لا بأس من الحلم بأن الانفتاح على اللغات الأجنبية لن يكون على حساب اللغة العربية -وهي الوطنية والرسمية بنص الدستور- وأن الإسلام، وهو دين الدولة، لن يسجن في قفص ذهبي، كما يتمنى ذلك بعض المحسوبين على السياسة، وأن المسؤولين في بلادي قد كفوا عن مخاطبة الشعب بلغة أجنبية وأن رئيس الجزائر – وهو رأس الدولة- قد أصبح أكثر حرصا على اللغة الوطنية. وفي نشوة فرحتي حلمت بأن الجزائريين قد تصالحوا مع أنفسهم، مع تاريخهم ومع هويتهم، وأن السؤال الخبيث الذي يقول: "من نحن" قد وجد الإجابات المفحمة نهائيا. هل استسلمت للهذيان؟.. ربما! ومع ذلك ها أنا أتمادى في حلمي الجميل.. وحلمت بأن الجزائريين كل الجزائريين، كما تزينوا برايتهم الوطنية فخرا واعتزازا، قد التفوا حول دولتهم القوية، التي تضع قوتها في خدمتهم وتكرسها للسهر على أمنهم وحماية حرياتهم وتشجيع طموحاتهم. وأكد لي الحلم أن السلطة في بلادي قد أدركت أخيرا بأن سطوة القوة لا تقيم أمنا وأن هيبة الدولة لا تفرض بقرار، وأن الناس مهما أحبوا حكامهم فإن حبهم للحرية يأتي أولا. وحلمت بأن التغيير الذي ينتظره الشعب قد حصل، المواطنون يحتمون بدولتهم وهي تحتمي بهم، لا تخافهم ولا يشعرون بالخوف منها.. وأخذني الحلم بعيدا فإذا بلادي صارت "جنة"، الدستور فيها للتطبيق وليس للتجميل، المواطن سيد، مطمئن على حياته وماله وحريته، القانون يطبق على أقوى رجل في الدولة كما يطبق على أصغر رجل أو امرأة فيها. وحلمت بأن الإدارة قد تابت عن ممارساتها التعسفية والاحتقارية للمواطن، وأن القضاء تحرر من الضغوط، وأن القانون لم يعد سيفا للترهيب، وأن المعركة قد أعلنت ضد رموز الفساد والإفساد. حقا ما أجمل الواقع وهو يرفل في ثوب الحلم!.. وها أنا أحلم أخيرا بأن الانتصار الرياضي الذي حققه منتخب بلادي قد أصبح انتصارا للشعب الذي من حقه أن تكون أفراحه دائمة وليس فقط بمناسبة انتصار في كرة القدم. هل نتفاءل بأحوال الجزائر في العام الجديد.. أترك الجواب لأحلامي التي لا تنتهي، وها هي ذاكرتي تختزن تلك الصور الرائعة لتلك الهبة الوطنية التي عبر الجزائريون من خلالها عن حبهم لوطنهم وتعلقهم به ووقوفهم معه في وجه حملة ظالمة استهدفت تاريخه ورموزه وشرفه، بدء بالشهداء ووصولا إلى الدولة ومؤسساتها ومرورا بالراية الوطنية. وها هو التفكير بالتمني يقودني إلى أن أحلم بأن تلك الهبة الشعبية ليست مجرد حماس رياضي عابر بل نقطة انطلاق جادة لبناء الجزائر القوية والمنتصرة دوما، المرتكزة على العقول المفكرة والأيدي المنتجة والقيم التي تصون الأمة وتضمن لها التفوق والتميز في العلم والعمل والسياسة. "نادرون من يحبون اليوم وغدا.. كثيرون من يحبون اليوم ويكرهون غدا.."