لم يُعرف حتى يوما هذا من الذي أقنع الرئيس المصري بتطوير حركته نحو منطقة الممرات، والتي أدت إلى مذبحة الدبابات الشهيرة التي ضاع فيها من الدبابات المصرية ربما أكثر مما ضاع في جبهة أوروبية ساخنة خلال السنوات الأخيرة للحرب العالمية الثانية. لكن شبح هنري كيسنجر يبدو على خلفية الصورة. وهناك حقيقة تاريخية يجب أن يعترف بها الجميع اليوم، وبعد أكثر من 35 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، وهي أن السادات لم يكن مؤهلا بالمقياس العسكري لاتخاذ قرارات في مستوى تداعيات حرب أكتوبر ونتائجها، وهو ما لم يكن ليغيب عن عسكريين من أمثال حافظ الأسد أو ثوار مثل هواري بو مدين، أو لديهم معرفة عسكرية مثل الحسن الثاني. فالسادات وطنيّ مصري كان مناضلا نشطا في الجمعيات السرية، وقاده النضال إلى حد التعامل مع جواسيس ألمان في عوامة الراقصة حكمت فهمي، وتعرض في حياته إلى صعوبات كثيرة صاغت شخصيته التي تجمع بين الصلابة والمرونة، وأصبح في السلطة قياديا جذابا، وخطيبا ممتازا، جمع بين التمكن من اللغة وقوة الصوت والموهبة التمثيلية في الإلقاء، وأعطته رئاسة المؤتمر الإسلامي في منتصف الخمسينيات فرصة الاتصال بقيادات إسلامية ثرية (ولمن يريد معرفة التفاصيل أن يطلع على كتابه : " يا ولدي هذا عمك جمال (عبد الناصر) ثم مذكراته في بداية الخمسينيات والطبعة الأولى من الكتاب الذي أصبح في طبعته الأخيرة يحمل عنوان "البحث عن الذات"، وكذلك كتاب خريف الغضب للأستاذ هيكل). لكن صورة الرئيس وهو يرتدي الزيّ العسكري للقائد الأعلى للقوات المسلحة وتبينه واقفا أمام خريطة ميدانية كبرى ويقوم بتوجيه عمالقة الجيش المصري لم تكن تعكس الحقيقة بقدر ما كانت حاجة إعلامية دعائية، اتضح فيها تأثر السادات بصورة مماثلة للزعيم الألماني أدولف هتلر، حيث كان من عشاق العسكرية الألمانية واختار فيما بعد لقادته زيّا مشابها للزيّ الألماني. ولم يكن سرا على العارفين أن من كانوا حول السادات هم نخبة القوات المسلحة وكبار قادته ممن تلقوا تكوينهم في أعلى المعاهد العسكرية، ومنهم من كان يُسمّى روميل العرب، بينما لم تتجاوز خدمة السادات في الجيش شهورا متناثرة في سلاح غير قتالي، وهو ما أورده الفريق محمد صادق في العدد 419 من مجلة أكتوبر عندما قال في استعراضه لشخصية السادات : "معلومات سيادته العسكرية لم تكن تسمح له باتخاذ قرار سليم، فمدة خدمته بالقوات المسلحة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد أمضاها في سلاح الإشارة". ولعل تلك الصورة نفسها كانت أمام كيسنجر وهو يحدد أسلوب التعامل مع الرئيس المصري الذي جاء بعد الخصم الثابت للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، الرئيس عبد الناصر بكل وزنه وقيمته. وأنا هنا لا أستهين بالرئيس السادات أو أقلل من وطنيته، وأعرف أن من خلفيات التفاف المصريين حول السادات تكاثر اتهامات الأشقاء والأصدقاء له، ولكن الاستعراض التاريخي لرجل وضع بصماته على مسيرة الوطن العربي والعالم الإسلامي وبل والعالم بأسره لا يسمح بأي مجاملة ولا يتقبل أسلوب الإعلام السلطوي الذي يغرم بمنح الألقاب الرنانة، نفاقا وتزلفا. وسيثبت التاريخ أن السادات، وبكل ذكائه وبكثرة تجاربه مع الناس وخبرته في المناورة وقدرته على إخفاء مشاعره الحقيقية والتحكم الهائل في أعصابه والتعبير المسرحي عن ثورته أحيانا وكلها مميزات لا ينكرها أحد، لا يستحق لقب "بطل الحرب" الذي أطلق عليه، وفرض علينا جميعا التعامل معه على أساسه، وسيكون من خلفية كراهيته لكل الرفقاء والأصدقاء الذين يعرفون قيمته العسكرية الحقيقية، وسيكون لقب بطل الحرب، تماما كما سيكون بطل السلام، هو البضاعة التي تاجر بها رجال المال الجدد لتخدير الشعب وسرقة أمواله والتعتيم على تواطىء بعض أركان النظام مع إسرائيل، وقبل هذا وبعده اختراع الأعداء لامتصاص نقمة الجماهير وغضبها، فهم تارة "شلة حرامية" كما حدث في وقائع يناير 1977 في مصر، أو "حكومة لا تستحق أن يعترف بها" كما حدث مع القبارصة خلال مأساة "لارناكا" المعروفة في 1986، والتي زجّ فيها شباب من خيرة شباب الصاعقة المصرية لغزو بلد سيّد بأسلوب سينيمائي لاختطاف من قاموا باغتيال يوسف السباعي، وبتقليد ساذج لعملية "عنتيبي" الإسرائيلية، أو هم "حاسدون لمصر ناقمون على ما حباها الله به" كما حدث في كل مواجهة مع الوطن العربي. ولقد عرفت مصر عسكريين مرموقين من طراز اللواء عزيز المصري ومقاتلين أكفاء بقيمة البكباشي أحمد عبد العزيز واللواء محمد نجيب، الذي جرح ثلاث مرات في حرب فلسطين، وأساتذة في الإستراتيجية العسكرية من أمثال عبد الناصر، وقادة عظاما من فئة محمد فوزي ومرتجي والغمَسي والشاذلي ورياض ومأمون ومبارك ومئات آخرون، بل ومئات آلاف في الطيران والمدفعية والهندسة العسكرية والصاعقة والبحرية، كانوا هم أبطال أكتوبر الحقيقيين، وسرق منهم النصر لتستفيد بنتائجه طبقة جديدة، هي أسوأ من أغنياء الحرب في الحرب العالمية. ولقد كان قرار السادات بإطلاق الهجوم نحو الشرق، وباعتراف قادته العسكريين أنفسهم، قرارا يتناقض مع المنطق العسكري، وتنزع نتائجه المؤسفة عنه لقب "بطل الحرب". ويُروى عن اللواء حسن البدري (ص 438) قوله : "أن النجاح الذي حققته القوات في عملية العبور (بفضل الخطة المحكمة التي وضعت أصولها في عهد الرئيس عبد الناصر وأشرف على صياغتها عمالقة الإستراتيجية العسكرية والتكتيك الحربي المصريين) كان مفاجئا للقيادة السياسية وللقيادة العسكرية، التي لم تتوقعه بهذه السرعة ولم تتحرك لاستغلاله في الوقت المناسب، وهناك الآن عملية إعداد لتطوير الهجوم إلى المضايق، وهذه العملية لسوء الحظ فات وقتها، والإقدام عليها الآن مخاطرة كبرى" ويؤكد ذلك ما كتبه المشير الغمسي بعد ذلك بالحرف الواحد : " أن خطة الحرب التي لا خلاف عليها عسكريا وسياسيا قد وضعت للوصول إلى خط المضايق كهدف نهائي للحرب، ولم تحتم هذه الخطة وقفة تعبوية (..) وكان توقيت تطوير الهجوم من أهم عوامل نجاحه، وكلما كانت فترة الانتظار أقصر كان ذلك أفضل لنا". ويحدث في نفس اليوم ما كان يفرض مراجعة سريعة للقرارات المتخذة، إذ أبلغت قيادة الدفاع الجوي عن قيام طائرة استطلاع أمريكية من طراز (SR-71 A) بمهمة فوق الجبهة المصرية ومؤخرتها الخلفية، وكانت تطير على ارتفاع شاهق يتجاوز مدى الصواريخ المصرية، وكان مؤكدا أن صور الاستطلاع ستصل إسرائيل في أقل من ساعة (هيكل ص 458) ويتلقى كيسنجر رسالة من حافظ إسماعيل يقول عنها فيما بعد في مذكراته "سنوات القلاقل" بأنه : "كان يتوقع غضبا عربيا عارما بعد أن ظهر تأثير الأسلحة الأمريكية في الميدان (نتيجة للجسر الجوي المتواصل الذي انهالت به المساعدات على إسرائيل، ولم يشر له المسؤول المصري إلا في نهاية الرسالة وبطريقة مهذبة، كما يقول كيسنجر، ويضيف بأن رسالة إسماعيل كانت (..) شيئا خارقا للعادة، فمصر ترغب في إبقاء قناة الاتصال الخاصة (عبر المخابرات) مفتوحة، وهي تريد التوصل إلى شروط لا تؤدي إلى إهانة إسرائيل" (..) وفي هذا الوقت بالذات يتلقى كيسنجر تأكيد دعوته إلى مصر ... تقديرا لجهوده !!!. وأسترجع ما كنت كتبته في الشعب بتاريخ 4 نوفمبر 1982، وفي إطار سلسلة "بين الصمود والرفض والتواطؤ" وأجد أنه : " وطبقا للقرار السياسي الذي أصدره السادات يبدأ الهجوم شرقا فجر يوم 14 أكتوبر، وكان على القوات المصرية أن تهاجم 900 دبابة معادية بقوة لا تزيد عن 400 دبابة، وفي المكان الذي اختاره العدوّ وتحت سيطرته الجوية وبعيدا عن حائط الصواريخ، كل ذلك بقرار سياسي يقول عنه الفريق الشاذلي بمرارة : هل كان هذا القرار نتيجة الجهل أو المقامرة أو الخيانة ؟، لقد نجح العدوّ في استدراج ألويتنا المهاجمة إلى مناطق قتال اختارها بعناية (..) لقد فقدنا في هذا اليوم الأسود 250 دبابة، وهو رقم يزيد عن مجموع خسائرنا في الأيام الثمانية الأولى للحرب". ويقول الفريق صادق في عدد نوفمبر 1984 من مجلة أكتوبر: "لقد تمكن العدوّ من الوصول إلى منتصف طريق السويس / القاهرة، ولم يكن يفصله عن القاهرة إلا لواء جزائري". وأواصل مقال الثمانينيات : "في بداية الأسبوع الثاني من حرب الكيبور كان هناك شعور على مستوى الجزائر بأن الأمور لا تسير كما يرام، والتقارير الواردة تشير إلى احتمال وجود خلل في حجم الأسلحة بين الطرفين. وأتذكر يومها أنه، وطوال الليل الرمضاني، لم تطفئ الأضواء في مقر الرئاسة على مرتفعات المرادية، ويغادر بو مدين العاصمة فجرا على رأس وفد جزائري متجها نحو موسكو لضمان أكبر دعم ممكن لجبهة المواجهة، وبعد نحو ساعة من الطيران يلتفت الرئيس حوله متسائلا: نحن مسافرون، فهل من حقنا أن نفطر ؟ وتحركتُ، بتسرّعي المعروف، لأجيب، لكن جاري إسماعيل حمداني لكزني هامساً: دع الرد لأعضاء القيادة. وسكتّ، لكن أحدا لم يجب. ويسأل الرئيس السفير رضا مالك : يا رضا، أنت تعرف السفر إلى موسكو، ما رأيك ؟ وأجاب رضا بغمغمة غير واضحة، فهو لم يتبين ما يقصده الرئيس، الأزهري القديم، وهو لا يريد التناقض مع إرادته. وعاجله بو مدين سائلا : أنت صائم أم فاطر ؟ وردّ رضا على الفور : أنا صائم يا سيادة الرئيس. وقطب بو مدين حاجبيه وحوّل نظره يمينا نحو نافذة الطائرة، ولم نر وجهه إلا بعد ساعات، عندما كنا نثبت الأحزمة للهبوط في موسكو.