بقلم الدكتور/ محمد العربي الزبيري هناك من الجزائريين من يعتقد أن التقليد ممكن ومحبب في كل شيء، ولا يدرك أن المفاتيح المزورة لا تفتح أبواب الرقي والتقدم المطلة على المجتمعات المزدهرة، ونعني بالمفاتيح جميع المفاهيم والمصطلحات التي يعتبر المفكرون فهمها الصحيح ضرورة لا بد منها لمعالجة قضايا الماضي والحاضر من أجل بناء المستقبل الأفضل. ومن جملة المصطلحات السائدة والشائعة, في هذه الأيام على وجه الخصوص, تجدر الإشارة إلى "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" و"التصحيحيين", المأخوذة كلها عن الغرب الامبريالي. وإلى جانب هذه المصطلحات القديمة المتجددة شاعت، في الآونة الأخيرة، مقولة "النوفمبريين" و"الأسرة الثورية". ونكتفي بما ذكرنا، مادة للحديث مع القراء الكرام الذين نتمنى ردود أفعالهم الموضوعية لأن كل ما نكتبه إنما هو حصيلة معاينتنا للواقع المعيش الذي هو واقعنا جميعا. وقبل التطرق إلى " النوفمبريين والأسرة الثورية"، العنوان الرئيسي للموضوع، فإننا نتوقف قليلا، وبإيجاز كبير، عند " الجمهوريين" و" الديمقراطيين" والتصحيحيين" وذلك لما لهذه المصطلحات المستعملة في غير محلها من متين الرباط بالموضوع. ولتكن البداية بالجمهوريين. إن الجمهورية, عند أصحابها الذين ابتدعوا نظامها وظلوا يطورونه إلى أن وصلنا في شكله الحالي، هي كل تنظيم بشري تكون السيادة فيه للشعب، يمارسها مباشرة أو بواسطة منتخبيه, ويكون مميزا بوجود مؤسسات قادرة على التشريع والتنفيذ والرقابة وتعمل جميعها في إطار الشفافية المطلقة ووفقا لما تمليه حاجيات الجماهير الشعبية, انطلاقا من الإمكانيات الخاصة المادية منها والبشرية. وتقول مصادر التاريخ إن الغرب الامبريالي، يعني أمريكا وأوربا، لم يعرف النظام الجمهوري إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، وبالضبط في العشرية الأخيرة منه، سواء بالنسبة لأمريكا التي تأسس فيها الحزب الجمهوري الديمقراطي سنة 1792 أو فيما يخص فرنسا التي أعلنت عن ميلاد الجمهورية الأولى في الواحد و العشرين من شهر سبتمبر عام 1792 كذلك. أما في الجزائر، وبشهادة المؤرخين الفرنسيين أنفسهم، فإن النظام الجمهوري قد عرف مع مجيء عهد الدايات، ابتداء من عام 1671، إذ يقول السيد شارل أندري جيليان، في الصفحة الأولى من " تاريخ الجزائر المعاصر" : " كانت الجزائر، منذ عهد الدايات، جمهورية يتولى الديوان فيها انتخاب الداي ". ومما لا شك فيه أن ذلك هو الذي جعلها تكون، خلال أحداث العام 1793 التي طغى عليها تكتل الدول الأوربية ضد النظام الجمهوري، هي الدولة الوحيدة التي اعترفت بالجمهورية الفرنسية وأعلنت، على رؤوس الملإ، أنها تساندها وتتولى حمايتها والدفاع عنا باعتبارها " نظاما صادرا عن الإرادة الشعبية" . لم تراع الجزائر، في اتخاذ موقفها ذلك، حتى انضمام السلطان الغازي سليم خان الثالث إلى التكتل الأوربي. وقد قدرت الجمهورية الفرنسية الموقف الجزائري حق قدره،إذ نقرأ في الرسالة المؤرخة بيوم 03/05/1793 والصادرة عن المجلس التنفيذي المؤقت للجمهورية الفرنسية إلى "المبجل المعظم سيدي حسان، داي الجزائر" :" إننا نعبر لكم،بواسطة قنصلنا العام، عن تقديرنا المطلق وعن رغبتنا الصادقة في إعطائكم الدليل على ذلك كلما كانت الفرصة سانحة،وعن إرادتنا في الحفاظ على تواصل الانسجام الكامل القائم،من حسن الحظ، بين الأمتين". إن الجمهورية الفرنسية الفتية التي اعترفت بها الجمهورية الجزائرية العريقة، في ذلك الحين، إنما هي تلكم التي تأسست على أعقاب ثورة عام تسعة وثمانين وسبعمائة وألف. ولمن يتمكن من الاطلاع على وثيقة الاعتراف، سوف يندهش لقمة ما كانت عليه السياسة الخارجية الجزائرية من علو الهمة والثقة في النفس. من هذا المنطلق، وبالرجوع إلى سجلات التاريخ، نقول إن الجمهوريين، حسب المفهوم البسيط الذي يتبادر إلى ذهن كل واحد من القراء على اختلاف مستوياتهم, هم الذين يؤمنون بالجمهورية ولا يتوانون في بذل كل ما في وسعهم للحفاظ عليها والدفاع عنها كلما اقتضت الحاجة ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، بقوة، هو هل يوجد عندنا, حقا, الجمهوريون، أي الذين يعرفون ما هي مواصفات الجمهورية ومميزاتها؟ لأن الذي يجهل الشيء لا يمكن أن يجيد التمسك به والدفاع عنه. ونستطيع القول، كذلك، إن أمريكا هي التي تأسس فيها أول حزب جمهوري. كان ذلك سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وألف من أجل الدفاع عن المبادئ التي تضمنها بيان الاستقلال الصادر عام ستة وسبعين وسبعمائة وألف. وفي فرنسا، فإن الجمهوريين قد حققوا انتصارهم الأول على النظام القديم ( الإمبراطورية الثانية) فقط سنة سبعين وثمانمائة وألف وكان ذلك بفضل برنامج سياسي تضمنه الخطاب الذي ألقاه المحامي "قمبيطه" في" بلكور"، والذي دعا من خلاله إلى فصل الدين عن الدولة، ومنع الرهبان من ممارسة التعليم، وإلى تمكين الشعب الفرنسي من ممارسة حقوقه التي تضمنها بيان الثورة وخاصة منها حرية التعبير والاقتراع العام. وإذا كان التاريخ، في أمريكا، قد احتفظ بالرئيس" لينكولن" كأول زعيم جمهوري يحقق الانتصار على خصوم الجمهورية ويخلد اسمه من خلال التجاوب مع الطموحات الشعبية، والاستماتة في الدفاع عن الحريات العامة التي تضمنها الدستور المستمد من بيان الاستقلال، فإن تاريخ فرنسا يذكر السيدين " قمبيطه" و"فيري" كزعيمين قادا التيار الجمهوري ووفرا له ظروف الانتصار على النظام القديم. بعد هذه اللمحة عن بعض مواصفات الجمهورية ومميزاتها، وعن مسار "الجمهوريين" في كل من أمريكا وفرنسا، هل في استطاعة " الجمهوريين " الجزائريين الذين ملأت أصواتهم، ذات يوم، سماء البلاد وعيدا وتهديدا، من خلال كتابات مقتطفة من هنا وهناك ولجينات كانت تتلقى توجيهاتها من الداخل ومن الخارج، أن يقنعوا جل الناس بكون الشعب الجزائري يمارس، فعلا، سيادته المطلقة على البلاد ما فوق الأرض وما تحتها؟ وهل أنه يختار، فعلا، ممثلين عنه من بين أبنائه ذوي الكفاءة والنزاهة ليشرفوا على تسيير شؤونه على جميع المستويات؟ وهل توجد لدينا مؤسسات، على جميع المستويات، تعمل في إطار من الشفافية المطلقة ووفقا لما تمليه حاجات الجماهير الشعبية الواسعة انطلاقا من الإمكانيات الخاصة المادية والبشرية؟ ثم من هم زعماء حركة الجمهوريين في بلادنا، وهل هم متشبعون بأدبيات ثورة نوفمبر التي هي في أساس النظام الجمهوري عندنا؟ فإذا كانت الإجابات بالإيجاب، فإنهم يستحقون، عن جدارة، تسمية الجمهوريين. وتكون اللعنة على الذين يتحدثون، سرا وعلانية، عن الآفات الاجتماعية التي تنخر جسم المجتمع وتمنعه من تحقيق ما يصبو إليه من رقي وتقدم. وإذا عجزوا عن تقديم الإجابات المقنعة، فإن الجماهير الشعبية الواسعة تقول لهم: إن تقليد الغير تقليدا أعمى مع إهمال النصوص الأساسية المستمدة من مسار نضالي وطني لن تكون نهايته سوى إبقاء البلاد في حالة التبعية بكل أنواعها وهي حالة قدم الشعب الجزائري أثمانا باهظة من أجل القضاء النهائي عليها. وحينما نعود إلى الديمقراطيين، فإننا لا نجد بدا من دعوتهم إلى أن يحددوا لنا نوع الديمقراطية التي يتمسكون بها ويعملون من أجل تجسيدها على أرض الواقع. ذلك أن الديمقراطيات أنواع: فهناك الديمقراطية الغربية التي تستبعد دور الجماهير الشعبية في صنع القرار وتحصره فقط في الإدلاء بالأصوات التي تتنافس حولها الأحزاب من أجل الوصول إلى الحكم أو الحفاظ عليه. فتلكم الديمقراطية تقود بالضرورة إلى ظهور الاقطاعات السياسية والاحتكارات الاقتصادية والتناقضات الاجتماعية وبالتالي فان ممارستها تحرم الشعب من المال والسلطة والسلام وتفضي بالتدريج إلى انتشار الآفات الاجتماعية المشفوعة بأنواع الظلم والاضطهاد والاستبداد. وهناك ديمقراطية الأنظمة الكليانية التي تعطي للجماهير الشعبية دورا أوسع في تنفيذ القرارات دون المشاركة الفعلية في صناعتها، لأن الاشتراك في صناعة القرار يسحب السلطة من أيدي القيادات المستبدة ويفرض احترام الحقوق والحريات التي يتوقف على ازدهارها اطراد النمو وتطور البناء والتشييد في جميع الميادين. وهناك، أيضا، الديمقراطية المثالية التي تسمح للجماهير الشعبية بالمشاركة الفعلية في صناعة القرارات أي كان نوعه وأي كانت موضوعاته، ثم توفر لها أسباب المشاركة الحقيقية في تنفيذه على أساس أنها شريك ذو سيادة مطلقة. إن مثل هذه الديمقراطية هي التي يكون لها دور أساسي في توفير شروط النجاح بالنسبة للتنمية المستدامة، ذلك أنها لا تنحصر في إنشاء المؤسسات التمثيلية التي تعمل بشكل مواز مع الجهاز الإداري، بل إنها تتجاوز ذلك لتكون أفضل وسيلة لتعبئة سائر الشرائح الاجتماعية في مختلف مجالات البناء والتشييد وخاصة فيما يتعلق بتكوين الإنسان الذي يبقى هو الدعامة الأساسية في جميع الحالات. لقد تطور مفهوم الديمقراطية عبر العصور، واتخذ أشكالا متعددة أثناء مواكبته للتطور البشري، ونتيجة كل ذلك ظهرت ديمقراطيات عديدة سجل التاريخ مراحل انتشارها وازدهارها، لكنها كانت تنتهي وتدخل في النسيان بمجرد فشل أو انقراض الأنظمة المتعصبة لها. نذكر على سبيل المثال ديمقراطية أثينة والديمقراطية الاشتراكية والديمقراطية الشعبية. فكل الديمقراطيات المذكورة لم تتنكر للأركان الأساسية التي لا بد منها والتي تتمثل في التعددية وحرية التعبير والاقتراع العام، بيد أنها كانت تخضع لتقليم الأظافر، حتى تتمكن الأنظمة الحاكمة من المحافظة على السلطة. فالتعددية التي تكون عادة في أساس الإبداع والقضاء على كثير من الآفات الاجتماعية تأخذ شكل دكاكين محدودة الحرية خاصة عندما يتعلق الأمر بضبط التوجهات الرئيسية وتتحول، بالتدريج، إلى وجود صوري تتذرع به السلطة الحاكمة لإضفاء طابع الديمقراطية على واقعها الاستبدادي. ومما لا شك فيه أن غياب التعددية الحقيقية يتسبب في قتل روح المبادرة قبل أن يقود، شيئا فشيئا، إلى جمود النظام نفسه ثم إلى تكلسه وموته النهائي المعبر عنه، غالبا، بالانفجاريات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية رغم توفر أسباب الرقي والتقدم. أما حرية التعبير التي كان من المفروض أن يترتب عنها تلاقح الأفكار وتطور الحوار وانتشار الوئام وسواد روح النقد البناء، بعيدا عن ضغط الحكومات وعن استبداد السلطة بجميع أنواعها، فإنها، بقدر ما تزدهر في البلدان المتحضرة وتساعد على فتح أبواب الرقي واسعة، فإنها تظل في البلدان المتخلفة عبارة عن شعار يرفع فقط للتضليل ولتمكين الأنظمة من صك الغفران تستظهره كلما دعت إلى ذلك متطلبات المسرح الدولي. إن حرية التعبير التي هي في الحقيقة باسم الحياة لأنها عندما تمارس بصدق تكون أفضل وسيلة لد الطريق في وجه الرداءة بجميع أنواعها و فسح المجالات واسعة للكفاءات كما أنها تكون أحسن سلاح لحماية المكتسبات و ضمان تحقيق المزيد من الانتصارات .لكنها ،عندما تفرغ من محتواها الحقيقي تتحول إلى سلاح مضاد تلجأ إليه الأنظمة الفاسدة للإبقاء على جماهير الشعب في حالة التبعية الدائمة و الجمود القاتل. وأما الاقتراع الذي هو وسيلة النظام الديمقراطي لانتخاب الطاقات الحية الملائمة للتسيير والإشراف والمراقبة والذي كانت ميزته الأساسية أنه يوفر للجماهير الشعبية شروط الاختيار الصحيح، فإنه، على حد تعبير الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، قد استبدل لفظ الانتخاب بالانتحاب بسبب ما أردف به من ممارسات التزييف والتزوير التي تنتهي دائما بخلط الأوراق وقلب الموازين، وبدلا من الإتيان بممثلين حقيقيين فإنها تحل محلهم مجموعة من "النوائب" التي تأتي على الأخضر واليابس والتي، عوضا عن خدمة مصالح الأمة، تتولى خدمة مصالحها الخاصة ومصالح العصابات التي جاءت بها. وفي أثناء تواجدها بالسلطة تنشر من الأمراض الاجتماعية ما ينخر جسم المجتمع و يفسد أحوال الآمة...