د/محمد العربي الزبيري هناك خطأ فادح عمد المؤرخون الغربيون وبعض المؤرخين العرب إلى تكريسه إما عن جهل أو بقصد الإساءة إلى الإسلام،ويتمثل ذلك في استعمال عبارة "الأتراك"للتدليل عن العثمانيين و"الحكم التركي " أو "الإمبراطورية العثمانية"للتعبير عن الخلافة الإسلامية ممثلة في بيت آل عثمان والتي لا تختلف ،في شيء، عن الخلافة ممثلة في بيت بني أمية أو بني العباس. لقد كانت الخلافة ممثلة في كل هذه البيوت وفي غيرها تتسم،منذ نشأتها، بالانحراف عن جوهر الإسلام وذلك بفرضها مبدأ السلطة الوراثية وإلغائها لأسلوب الشورى في الحكم.غير أن ذلك الانحراف لم يمنعها من إعطاء الأمة الإسلامية خلفاء وسلاطين عظماء فتحوا الأمصار ونشروا الدين في مختلف أنحاء المعمورة،وتركوا من الآثار والمآثر ما يرقى بهم ،عن جدارة،إلى مصاف المخلدين من الرجال،رغم ضعف السلف الذي عجز عن تسليط الأضواء على الإنجازات العملاقة التي جسدوها على أرض الواقع قي جميع الميادين. وإذا كان المسلمون يرون في انتشار الإسلام فتحا مبينا ورحمة للعالمين،فإن المسيحيين واليهود ،عربا كانوا أو من أجناس أخرى،إنما يعتبرون ذلك نوعا من الاستعمار المبني على العنف، والذي يجب أن يحارب بجميع الوسائل التي ،من جملتها، تزييف التاريخ وتشويهه وتعتيم الحقائق وتحريفها، كل ذلك،وهو الأخطر، بالإضافة إلى تركيز مساعيهم وتكثيف جهودهم في اتجاه تكريس الغزو الثقافي الذي اتخذوه وسيلة لتقويض أركان الشخصية العربية الإسلامية تمهيدا لتكوين إنسان مقتلع الجذور،إمعيا معمعيا في جميع الحالات . وتذكر سجلات التاريخ أن من بين أؤلائك اليهود والنصارى برزت أقلام مقتدرة، وظهر علماء كبار، بسطوا نفوذهم على مصادر المعرفة والثقافة في العالم الغربي،خاصة، ثم راحوا يخططون لتكوين تلاميذ لهم من أبناء البلدان النامية عامة وأبناء الأمة العربية الإسلامية بصفة خاصة، زودوهم بشهادات جامعية عليا في مقابل تجريدهم من كل أو جل ما يشدهم إلى أصالتهم ويربطهم بمجتمعاتهم حتى أن الواحد منهم أصبح يعيش في عزلة عن شعبه وملفوظا من المجتمعات الغربية التي ترفض استيعابه رغم كل ما يقدمه من تدليل على تنكره لماضيه واستعداده لارتداء العباءة التي يصنعها له المحتل،وهي عادة لا تتوفر على متطلبات الحياة الكريمة . إن علماء الغرب هؤلاء هم الذين أسسوا المدارس الاستعمارية بالنسبة لجميع العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية،ومن خلالها وضعوا المفاهيم والمصطلحات التي هي مفاتيح الفهم والتي ،من دونها، لا يمكن الوصول إلى الحقيقة اللازم بلوغها لتوفير شروط البناء والتشييد في ظل السيادة الكاملة . من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس، أصبح معظمنا لا يسلك غير السبل التي ضبطها أساتذة المدارس المذكورة لمعالجة قضايانا الأساسية. وفي هذا الإطار أعود إلى كتاب الأستاذ غريد وأتعجب كيف أن المؤلف لم يتفطن إلى أنه لا يمكن اعتماد المراجع الفرنسية، وحدها، لإعادة كتابة تاريخ الجزائر خاصة وأن كثيرا من المصادر المكتوبة باللغتين العربية والتركية ما زالت في طي النسيان أو هي مهملة تنتظر عقول وأقلام الوطنيين لتعيد لها الاعتبار ولتقدم عديد المعلومات الواردة فيها إلى جحافل الباحثين والدارسين. ولأن المؤلف اعتمد،فقط، كتابات الفرنسيين دون تمحيص ودون إخضاعها لمعايير البحث العلمي ، فإنه أورد ،كحقيقة مطلقة، أن "سلطة الأتراك كانت تغطي،نظريا، حوالي مائتي ألف كلم2 من شمال الجزائر" . وفي الواقع، فإن الحديث عن سلطة الأتراك ،في حد ذاته، غير علمي ولا منطقي لأن الأتراك،كجنس، لم يأتوا إلى الجزائر مطلقا، ولم يسجل التاريخ أن بايلربايا أو باشا أو دايا واحدا كان تركي الأصل، بل كانوا من مسلمي الولايات التي تتشكل منها دولة الخلافة مثل "ألبانيا" واليونان و"البلقان" وغيرها، لأن الإسلام يخول للمسلم الكفء شغل جميع مناصب المسؤولية حيثما حل، وإن الأمثلة على ذلك لكثيرة في الشرق وفي الغرب وفي سائر حقب التاريخ. أما عن المساحة التي كانت خاضعة بالفعل للسلطة المركزية،فإن بايلك الشرق وحده كان يتربع على أكثر من مائتين وخمسين ألف كلم2 . وللتذكير ،فقط،نشير إلى أن حدود الجزائر الحالية قد ضبطت ،نهائيا،في عهد بابا حسن بعد استرجاع مدينة وهران وتحريرها من الاحتلال الإسباني سنة1792.وعن نظام الحكم ،في الجزائر،فإنه كان مؤسسا على الشورى وينطلق ،قي مجمله، من مبادئ الشريعة الإسلامية.ولأن جزائر ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني لم تول العناية اللازمة بمادة التاريخ،فإن المؤرخين الفرنسيين قد واصلوا عمل التعتيم والتشويه بغرض سد طرق البحث العلمي في وجه الجزائريين. في هذا السياق لم يجد المؤرخ الكبير السيد "شارل أندري جوليان" أدنى حرج في تضمين الصفحة الأولى من كتابه"تاريخ الجزائر المعاصر" مجموعة من التعريفات المتناقضة لنظام الحكم الجزائري قبل الاحتلال.فهو "جمهورية عسكرية يمارس السلطة المطلقة فيهام سؤول يخضع لمليشيا الإنكشاريين"..وهو انتخابي يتولى فيه الديوان اختيار الداي.ويتشكل الديوان من ستين ضابطا ومن الموظفين السامين" ..وهو "مستعمرة استغلالية تابعة للسلطان العثماني"..وهو "قائم بذاته تعد تبعيته للباب العالي ضربا من الخيال". أما السيد "جيلبير مينيي" الذي يعتبره السيد غريد مصدرا رئيسيا يستقي منه المفاهيم والمصطلحات التاريخية فيذكر أنها "دولة تركية" كانت"تسيطر على البلاد ضعيفة ومستبدة،ولم يكن يهمها،إلا قليلا،مصير السكان الذين كانوا يعاملونها بالمثل.. لقد كانت آلة قمع وظيفتها جمع الضرائب، ولا تتصل بالرعايا إلا أثناء الحملة السنوية التي تنظم لذلك الغرض".( Problématique historique de la nation algérienne dans la revue Naqd automne/hiver 2001 , page 27 كل هذه التعريفات المتناقضة فيما بينها والصادرة عن اثنين من كبار المؤرخين الفرنسيين هي التي يعتمدها السيد غريد ليدلل على صحة ما توصل إليه من أن " المجتمع الحالي في الجزائر هو نتاج الإدارة الكولونيالية" .والحقيقة أن اعتماد مثل هذه الترهات لا يقود سوى إلى الضياع في متاهات الجهل واللامعقول . خاصة عندما نضيف إليها استنتاجات السيد " ياكونو" التي استقاها مؤلف " الاستثناء الجزائري" من الكتاب الموسوم" histoire de l'Algérie de la fin de la Régence turque à l'insurrection de 1954 page 37 والتي تقول :" إن واقع الإحصائيات يؤكد أن الاقتصاد الجزائري لم يكن مهيئا للانطلاق،بل كان على منحدر ينبئ بالتدهور في القريب العاجل". لقد عجبت كيف أن الأستاذ غريد لم يتساءل عن المصدر التاريخي الذي اعتمده المؤرخ الفرنسي ، خاصة وأن كل الكتابات المعاصرة لتلك الفترة تؤكد أن الجزائر كانت مزدهرة اقتصاديا وتتمتع بالاكتفاء الغذائي الذاتي الذي كانت تفتقر إليه بلدان الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.ويكفي للتدليل على ذلك ما أورده السيد "هنري دوغرمون" نقلا عن تقرير القنصل الفرنسي "فاليار"إلى قيادة الثورة الفرنسية من"أن الداي"بابا حسن" قد رفض طلب الحكومة الإنكليزية الخاص بترك الشعب الفرنسي يموت جوعا..وإنه لمن المفيد أن تعرف الجمهورية وأبناؤها موقف الداي الذي كان بإمكانه،لكنه لم يفعل، مضاعفة الأسعار ،بل إنه تجاوز ذلك ،بسخائه، إلى تقديم الأموال اللازمة لكل الصفقات المبرمة مع التجار الجزائريين.وفيما بعد فإنه قدم "لقيادة الثورة" قرضا بمبلغ خمسة ملايين من دون فائدة". وردا على هذا الموقف الإنساني كتب وزير خارجية فرنسا السيد "تاليران" في السادس عشر ديسمبر 1797 إلى "سيدي حسن، الصديق القديم وحليف الشعب الفرنسي" رسالة مطولة جاء فيها على الخصوص:" لقد رأينا في صلابة موقفكم دليلا جديدا على صدق مشاعركم تجاه الجمهورية الفرنسية،وبودنا أن نعبر لكم عن كبير امتناننا .إنكم أعطيتمونا ،اليوم،تأكيدا للصداقة القديمة والثابتة التي أثارت الحسد في نفوس أعدائنا الذين أساءهم أن يروا عاهلا مثلكم لا يتزعزع في اتحاده مع جمهوريتنا التي تكالبوا في الاعتداء عليها . إننا ندرك ، مثلهم، قيمة تحالفكم.وبقدر ما اجتهدوا لحرماننا من ذلك، فإننا مستعدون للعمل من أجل الحفاظ عليه كاملا". هل يمكن للسيد "ياكونو"أن يقول لنا كيف يستطيع الاقتصاد "الذي كان على منحدر ينبئ بالتدهور العاجل" أن ينقذ شعبا من المجاعة،وأن يكون المسئولون عليه قادرين على مساعدة الآخرين بالمال وبالغذاء ؟؟ وهل يمكن تبرير عدم رجوع الأستاذ غريد إلى الأرشيف الفرنسي نفسه للإطلاع على حقيقة ما تضمنته المراسلات العديدة بين قادة الجزائر والقادة الفرنسيين طيلة القرن السابق للاحتلال على الأقل ؟. أما السيد"ياكونو" وغيره من المؤرخين الفرنسيين،فإنهم ما كانوا يستطيعون تشويه الحقائق واستعمال تزييفها لإفراغ تاريخنا المجيد من محتواه الإيجابي لو كانوا يدركون أن "الباحثين" و"الدارسين" الجزائريين قد تخلصوا من عقدة النقص التي تجعلهم يبلعون ،دون هضم،كل ما يصدر عن مدرسة التاريخ الاستعمارية. وأما الأستاذ غريد وأمثاله من الجزائريين ،فإنهم ما كانوا ليقعوا تحت تأثير الأخطاء التي تتعمد المدرسة المذكورة ارتكابها للحيلولة دون وصولهم إلى الحقائق التي تزخر بها سجلات التاريخ المتراكمة في دور المحفوظات الفرنسية والعربية والإنكليزية والتركية على وجه الخصوص.