أمام تزايد هجمات الإعلام المصري على الجزائر، وبعد أن فاض الكيل، دخلت بسطوري إلى المواجهة، وكتبت في المجاهد بتاريخ 23 ديسمبر 1977، وتحت عنوان »إعلام القوم وقوم الإعلام«: ))أتساءل... متى نكف عن خداع النفس والسباحة في بحر الأوهام؟ لماذا لا نواجه الحقيقة المرة بأن سياسة السادات، إذا صدّقنا عيوننا وآذاننا، تلقى من القوم هناك كل التأييد، والوفد الإسرائيلي يستقبل في شارع عدلي استقبال الفاتحين) وكان قوم الإعلام انتهزوا تجمع عدد من المارة للتفرج على الوفد الذي كان يزور أكبر معابد القاهرة اليهودية فقدموا ذلك على أنه ترحيب بهم( والذين يتحدثون باسم الشعب المصري يتكلمون اليوم عن السلام الذي هلّت أنواره مع تباشير مقدم بيغين، ويعلنون الحرب على أولئك العرب، ناكري الجميل، ويمنح نظام مصر ديبلوماسيي خمس دول عربية 24 ساعة فقط ليحزموا حقائبهم مطرودين من أرض الكنانة )..( وكأنهم...آسف، كدت أقول..إسرائيليون. الأدلة إذن تفقأ الأعين، ومع ذلك نتجاهلها لنمضغ أفيونا سمّم دماءنا طوال السنوات الماضية، وحمّلنا ما لا نطيق أمام شعبنا وضمائرنا بل وأمام الشعب المصري نفسه، بحجة أن فضح العروبة الزائفة التي تستر خلفها طويلا أولئك الذين »يتحدثون« باسم مصر قد يؤثر على مسيرة العروبة. هذا الهراء يجب أن يتوقف )..( وإذا كانت العروبة رهنا بشهادة حسن سيرة وسلوك من بلد معين، أو من نظام مُعين، فلا كانت هذه العروبة )..( العروبة وجود حضاري وتاريخي، وهي تراث كل عربي وحاضره ومستقبله )..( لماذا نتستر على قوم، كلما أردنا أن نتحاسب معهم كأعضاء أسرة واحدة تجتمع في السراء والضراء، يرفعون عقائرهم باسطوانة فضلهم على العروبة، بل ويهددوننا بأنهم سيعودون إلى الفرعونية عقابا لنا على تطاولنا على قدس الأقداس )..( الحضارة المصرية القديمة هي رافد من أهم روافد الحضارة العالمية، أما التفرعُن فهو تطبيق ساذج لنظرية تناسخ الأرواح، لا يهمنا إذا بقي محصورا في حدود جغرافية وبشرية، ولكن لا مجال لتحمله عندما يتحول إلى قيء إعلامي يملأ حياتنا بالقرف، وعندما يصبح وسيلة للشانتاج السياسي والابتزاز والتهديد. إننا نعترف للإعلام المصري بقدرته الرهيبة )..( على تلوين حركة جماهيره كما يريد، ولعل مشكلتنا الحقيقية مع هؤلاء القوم أننا لم نقع أسرى للإيقاع الذي يريدون )..( ومن حقهم أن يُصفقوا للحاكم وأن يؤيدوه طالما كان في الحكم، وأن يلعنوه بعد ذلك ليصفقوا للقادمين الجدد، ولكن ليس من حق أحد أن يفرض علينا تحمل ذلك باسم العروبة والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني )..( والمسؤولية الرئيسية في ضياع فلسطين يشترك في تحملها بالدرجة الأولى حكام مصر الملكية )..( وبعد ذلك بسنوات، عندما قال عبد الناصر بأن العدو لم يكن في إسرائيل بل كان في القاهرة أصبح الأبيض أسودا وبالعكس )..( والذين تغزلوا بتبرعات الملك الصالح فاروق الأول، ملك مصر والسودان ودارفور وكردفان، كانوا هم أول من لعنوا الملك السابق وحمّلوه كل الآثام لقد توصل عبد الناصر بذكائه اللماح إلى أن مصر لا يمكن أن تكون كبيرة إلا بالأمة العربية، وأن الأمة العربية هي كبيرة بمصر ويمكن أن تكون أيضا كبيرة بدون مصر، وهنا جسّد الشعارات القومية بكل اقتدار )..( وعمل أساسا، كمصريّ صميم، لتكون مصر ترسانة العالم العربي ومصنعه الكبير والمورّد الأول لأسواقه )..( وأصبح الخبراء المصريون في الدول العربية الغطاء الذهبي الحقيقي لجزء رئيسي من الاقتصاد المصري((. وقلت في نفس المقال الذي كتبته منذ نحو 32 سنة بأن : ))الشعارات التي رفعها الرئيس المصري آنذاك كانت رائعة، وتستجيب لكل ما نادت به شعوب الأمة العربية في بحثها عن نفسها وسعيها نحو وحدتها، ولهذا التفت الجماهير العربية حوله لكي تعطيه ما لم تعطه منطقة في العالم لقائد إحدى دولها )..و( لم ينكر أحد على الشعب المصري تضحياته، بل إن شعوب الأمة العربية تحملت الكثير احتراما لتلك التضحيات، تحملت عملاء المخابرات المصرية يتدخلون في شؤونها ويجعلون من أنفسهم القيّم على مقدراتها، وتحملت بعض سفراء مصر وهم يتجاهلون أبسط قواعد اللياقة )..( وتحملت محاكم التفتيش العقائدية التي تخلع على هذا ثوب الوطنية وتعلق على صدر الآخر صليب الخيانة. وبعد أن »استخدم نظام الحكم في مصر قضية فلسطين كوسيلة لتهديد الأنظمة العربية كلها« وهذا الكلام ليس من عندي ولكنه من تصريح السادات لصحيفة السياسة الكويتية )صحيفة أحمد الجار الله( تحول عدوّ الأمس إلى صديق وصديق الأمس إلى عدوّ ألا يكفي ما عانيناه لكي نقول للقوم اليوم ما يجب أن يعرفوه من حقائق، لماذا تريدون منا أن نقوم بالأكروباتيات لنستر من يريد كشف عورته، وإقناع العالم بأنه كان فاقدا للوعي طوال 20 سنة )..( القوم يؤيدون اليوم هذا وقد يرفضونه غدا، وهي عادة ألفناها، فالبلد بحمد الله يتوفر على أكبر رصيد من رجال الإعلام، المستعدين لتلوين الأمور كما يريد لها حاكم قصر عابدين((. كان مقالا غاضبا أعتقد أنه كان من أشد ما كتبته قسوة، خصوصا عندما قلت: ))أنتم يا من تمنّون علينا )..( أنتم يا من تتحدثون عن خير مصر على بو مدين، هل نسيتم ماذا فعل بو مدين من أجل مصر ومن أجل شعب مصر، وبدون أن يرجو جزاء أو شكورا )..( فلنتناس دور الجزائر )..( سنوات طوال وشيوخ البترول يدفعون ويدفعون، وإذا )..( باليد التي تمتد تتحول إلى يد تمسك بالخناق وتبتز، وخرج علينا من يقول : أموال البترول حق لنا، فحرب أكتوبر المجيدة هي التي رفعت أسعار البترول، )متناسيا أن( أسعار البترول لم ترتفع إلا لأنه استعمِل سلاحا لضمان النصر في حرب أكتوبر، وقبلت دول النفط العربية بالمجازفة الكبرى التي كان يمكن أن تنقلب إلى كارثة )وهنا نكتشف( المعنى الحقيقي لتعبير نكران الجميل، يقدمه نظام حكم أصبح كالإسفنجة، تمتص كل شيء إذا تمددت، ولا يخرج منها شيء إلا إذا عُصرت )..( والخطة واضحة، فمن جهة يضحك على ذقن الشيوخ ليمتص منهم كل ما يمكن امتصاصه، ثم يُحوّل الأموال إلى جيوب أنصاره ومحاسيبه، ومن جهة أخرى يبتزهم مهددا بتشويه سمعتهم، نتيجة استغلال نقاط الضعف عند بعض مواطني الخليج، الذين تفتح لهم الكباريهات وعلب الليل والشقق المفروشة، يمارسون فيها ما يمارسه رجل تقدّم له الخطيئة على طبق من فضة، وتستغل حالة التضخم المالي التي عرفتها مصر بحكم نشوء طبقة جديدة من السماسرة والقوادين، وانعكاسها على القدرة الشرائية لدى المواطن محدود الدخل، لتقدم كفاتورة إجرام تسجل باسم العرب والعروبة. )..( الشعب المصري يعرف الحقيقة، ويعرف أن القسط الأكبر من الأسلحة التي حاربت بها مصر لم يُدفع ثمنها شعب مصر )..( وأن مصر حقنت بأموال ضخمة ذهبت كلها إلى جيوب حفنة من السماسرة والمنتفعين، ومنها كميات معتبرة ذهبت إلى جيوب عدد من عمالقة النظام وحساباتهم البنكية في الخارج((. ووقعتُ المقال باسم )بو شاقور( وليس بالتوقيع الرمزي المألوف )م..دين( لأن شخصية الكاتب عُرفت، وموقعه في رئاسة الجمهورية غير خاف على كثيرين، ولم أكن أريد أن يتصور البعض بأن المقال بتوجيه من الرئيس، الذي كان تعليقه عليه، وقد قرأه بعد نشره في المجاهد، كلمتين، مشفوعتين بابتسامة لغز: كنتَ قاسيا. وعدت إلى نفس الموضوع في بداية 1978 لأقول بأن ))رد الفعل الذي صدر عن نظام عابدين (وكنت استعمل هذا التعبير بدلا من تعبير النظام المصري، لأنني لم أرد أن تكون هناك شبهة الإساءة لمصر) قد تجاوز حدود المعقول الذي يُمكن أن يصدر عن حاكم تعرض لانتقاد موقفه السياسي (..) ولقد كان من المنطقي أن تكون غضبة الشعوب العربية )..( ورقة في يد الرئيس المصري يضغط بها على إسرائيل وحلفاء إسرائيل قائلا: أنتم ترون أنني رجل معقول ومعتدل، وتحسون بالضغوط التي أتعرض لها )..( وإذا حدث وفشلتُ فإن الحرب قادمة لا محالة، بعد أن يُصاب الشعب المصري بخيبة الأمل الكبرى إذا لم تعدْ له أرضه وكرامته ومبادئه بدون قيد ولا شرط. لكن هذا لم يحدث، بل إن الرئيس السادات هدم الجسر الذي يربطه بشعوب الأمة العربية كلها )..( واندفعت الأبواق بقيادة مصطفى أمين، الذي لم يُبرّأ قانونيا من الحكم الصادر ضده بالتخابر مع مصالح أجنبية، اندفعت تعزف اللحن الذي سئمته الأمة العربية )..( ومصطفى أمين يتحدث هو أيضا عن تزاوج العبقريات )..( والمقصود هو فتح الأسواق العربية للصناعات الإسرائيلية تحت غطاء عربي، وإعداد المُركبات السياحية لاستقبال الأصدقاء الجدد، وتصفية الدور السياسي للدول العربية المنتجة للنفط، لتصبح مجرد خزائن حديدية، تدفع وتدفع إلى أن ينضب النفط وتتحول مدنها إلى أشباح مدن )..( وحقيقي أن الزيارة أرضت غرور زعيم يريد، بعد السنوات العجاف، حجز مكان في ديوان التاريخ، ولو كنا نعيش في غير عصر التلفزة لما كانت الزيارة )..( ولا شك أن الرئيس السادات، كرئيس دولة مستقلة، من حقه أن يتخذ كل القرارات التي تدخل في نطاق سيادته )..( ولكن ليس من حقه أن يُعامل الناس وكأن الذكاء وقف عليه، وكأن معرفة الحقائق لا تتاح لغيره، وكأن بقية الشعوب العربية هم من موظفي صحف مصطفى أمين(( وكم هي السيئات التي ارتكبها السادات على حساب مصر وشعبها، وتمكن الإعلام المرتزق من تحويلها إلى انتصارات يتناولها العالم كله بالسخرية والاستهزاء وهو يتساءل كيف لا يرى الناس الشمس في رابعة النهار؟.