إذا صدقنا »الخبر«الجزائرية ، وهي لم تتعود الاختلاق في قضايا كهذه، فإن الدكتورة جيهان صفوت رؤوف، الأرملة الثانية للرئيس أنور السادات، أبت إلا أن تؤكد، فيما نسب إليها يوم الأحد الماضي، مضمون ما أنشره هنا من وجود خلفيات قديمة ضد الجزائر. وأنا أشعر بالأسى لأن حرب أكتوبر المجيدة، التي سجّل بها الجيش المصري أروع عبور عرفه العالم لأكثر المجاري المائية مناعة وتحصينا وأنهى أسطورة خط بارلييف الرهيب ومعها خرافة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والتي تضامن معها العرب من المشرق إلى المغرب والتفوا حولها وقدمت للعالم صورا مشرفة لأبطال عسكريين أمثال سعد الدين الشاذلي وعبد الغني الغمسي وحسني مبارك ومحمد علي فهمي وعبد المنعم واصل وسعد الدين مأمون وغيرهم، وقبلهم ممن شاركوا في الإعداد تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر ومنهم محمد فوزي وعبد المنعم رياض، هذه الحرب الرائعة أساءت لها المدام وقزمتها إلى حدّ مقارنتها مع مباراة رياضية، يمكن أن يقال فيها وحولها الكثير، وقلت عنها شخصيا أن تصرفات التحكيم أفسدت حلاوة الانتصار وأساءت للجهد الكبير الذي بذله المنتخب المصري للفوز، وكان يمكن للمباراة، بغض النظر عمن انتزع الفوز فيها، أن تكون صورة مشرفة للرياضة العربية، وليس مجرد فرصة لتمجيد الحاكم، أيا كان اسمه ومكانه. ولكن، يداك أوكتا وفوك، أو فيكي، نفخ. وأواصل استعراض بقية ما كتبته في أغسطس 1978 حول مباراة الكرة الأخرى بين مصر وليبيا آنذاك، واسترجعت فيه عناوين الصحف المصرية بعد المباراة، وكان منها: ))- عدد محدود من أبطال مصر الرياضيين وجدوا أنفسهم في مواجهة فريق ليبي، استقدم معه عددا كبيرا من أنصاره، ورجال الشرطة الجزائرية بكل ما تملكه من قوة )ونسيت الصحيفة ذكر الصواريخ السوفيتية والطائرات الكوبية التي وقفت ضد الفريق المصري !!!) - خرج فريقنا) المصري( بدون إصابات )تصوروا...معركة حامية بدون إصابات( كانت تلك عناوين الأهرام )الوقورة( يوم 23 يوليو، أما في اليوم التالي فنجد عنوانا يقول: - خمسة من البوليس الجزائري تكتلوا ضد لاعب مصري. ونجد يوم 24 يوليو عنوان: - انسحاب مصر من الدورة يُهددها بالفشل. وفي يوم 25 يوليو: - سلطات الأمن الجزائرية لم تقصّر فقط في حماية الفريق المصري وإنما تواطأت. وداخل مربع كبير وعلى لسان لاعب مصري نقرأ حديثا بعنوان: لقناهم درسا قاسيا )ولم يكن هناك آنذاك قوات من الكوماندوس الإسرائيلي كالتي قتلت الأسرى المصريين في يونيو 1967 ودفنتهم في رمال سيناء لكي يُفهم التعبير(. ونقرأ في مكان آخر: أناشد النادي الأهلي باستبعاد المطربة الجزائرية المدعوة وردة، أناشد الأهلي باسم كل مصري خفق قلبه (..) باسم كل لاعب بريء من أبنائه شج رأسه بزجاجة فارغة أو كسر ذراعه بسيخ حديدي أو سقط تحت أقدام المرتزقة من جنود الجزائر )وليت وردة تقرأ هذا الكلام لأنه أبلغ من بليغ !!!( والمقال والقوسان في المقال الأصلي الذي نشر في 1978 )ولم تكن هناك حالة واحد للاعب شج رأسه، ولا تعليق على تعبير المرتزقة، لأن الجندي لا يكون مرتزقا إلا إذا كان في خدمة غير بلاده، ولم يحدث أن وُجد جندي جزائري واحد في خدمة بلد غير بلده، ولم يكن ذلك حال آخرين( وتتوالى المقالات ورسائل القراء التي تسبّ الجمهور الجزائري، الجحود ناكر الجميل، وتنادي ضده بالويل والثبور، حتى بعد أن أعلن قرار اللجنة الإفريقية بأن الأمن الجزائري قام بواجبه على الوجه الأكمل، وتصرّف كما تتصرف أي شرطة في العالم تواجه بمثل هذا الشغب في الملاعب، وثبت أن الجمهور الجزائري لم يقم بأكثر من الهتاف والصفير ضد اللاعبين المصريين الذين كانوا يندفعون في حماس بطولي لقتال العدوّ الغاصب، والذين كان منهم من كان يبصق في اتجاه المدرجات، ومن يشير بالأصبع الوسطى في يده للجمهور (( )تماما كما حدث بعد ذلك بنحو ثلاثين عاما في الجزائر أيضا( وكل هذا موجود في الفيلم الوثائقي الذي عُرض هنا، وشاهدته مرتين قبل كتابة هذه السطور. وواصلت الحديث في نفس المقال قائلا: ((وقد أضيف هنا أنه، بعد انسحاب الفريق المصري بقي (..) مشجعون مصريون (..) ظلوا في رعاية الجزائر ولا أقول في حمايتها إلى آخر يوم من أيام الدورة، وبعد ذلك لمن استقرّ في الجزائر، ولم تحاول الجزائر إحراج أي منهم باستجداء التصريحات الظرفية التي تشيد بحسن المعاملة التي حظوا بها (وربما لأننا كنا نعرف أن بعض من سينثرون الورود على الجزائر سيقولون إثر عودتهم إلى بلادهم أنهم كانوا مضطرين لتلك التصريحات حتى لا يضعهم الجزائريون في غرفة الفئران) لماذا أزعج القارئ بكل هذه التفاصيل، والجمهور الجزائري والأمن الجزائري ليسوا في حاجة لدفاعي وقد شهد لهم الجميع بحسن التصرف؟(( والواقع أنني عندما أسترجع بعد أكثر من ثلاثين سنة ما كنت كتبته آنذاك أحس وكأنني أتحدث في واقع الأمر عن 2009، وكنت قلت يومها بأن كل ما أفعله، هو محاولة لوضع ما حدث في إطاره الطبيعي، واستكشاف دوافعه الحقيقية، وهو ما تواصل في المقال التالي عبر المجاهد وفي نفس العام، وقبل أربعة شهور من انتقال الرئيس هواري بو مدين إلى الرفيق الأعلى. وقلت يومها : )) منذ زيارة الرئيس المصري لإسرائيل، والتي نتجت عنها مواقف رافضة وحازمة من الجزائر أصابت السادات بالسُّعار، حاول النظام المصري بكل وسيلة تلويث صورة الجزائر لدى المواطن المصري، ومحو آثار الدور الذي قامت به، إيمانا واحتسابا، لدعم الأشقاء، وذلك حتى يفقد موقفها السياسي أثره على الساحة المصرية ) التي بدأت شيئا فشيئا تتحول إلى رهينة لكواكب الإعلام المصري الاصطناعية(. ذلك أنه، وبرغم هجمات الإعلام المرتزق والتصريحات الرئاسية المكررة والمتكررة، والأخبار المختلقة، فإن الشعب المصري، كما كنّا نتصور، يعرف جيدا من هم أصدقاء المحنة، وظل يحتفظ للجزائر بتقدير وإعزاز، هما في مستوى شعب عريق دفع الكثير من أجل تحرره وعروبته. لكن المشاجرة بين الفريق المصري والفريق الجزائري على أرض الملعب كانت فرصة العمر لذلك الماريشال المُزيَّف والمزيِّف )بفتح الياء وكسرها( لكي يرضي غروره وينتقم من كل الذين وقفوا ضد سياسته، وليمزق ما تبقى من روابط بين الشعب المصري وأشقائه، ليتم عزله عن كل عمق إستراتيجي يدعم وجوده ويحمي حركته. ولم تتوان السلطة المصرية، مستغلة عواطف الشعب تجاه فريقه (..) لتقدمه، وفيه على التأكيد شباب ممتاز، كفريق من الأطهار الذي يجمعون بين قوة شمشون، وحكمة سليمان، وصبر أيوب (..) لكنها تلقت هنا صفعة مزدوجة )لم يسمع بها الجمهور في مصر على وجه التأكيد( فلقد أثبتت دورة الجزائر نجاحا لم تعرفه دورات أخرى، ولم يستطع رجال المخابرات القادمين مع الفريق المصري إقناع أي وفد بسلامة قرار انسحابه، وبالتالي فقد انسحبت مصر وحدها بدون أن يكون لذلك أي تأثير على الدورة، وظهر الوزن الحقيقي لمصر السادات في إفريقيا، حيث لم ينسحب أي فريق آخر حتى من فرق البلدان الشقيقة التي ليس لها مع الجزائر اليوم علاقات ديبلوماسية(( )وكنت أقصد الإشارة إلى أن وفد المملكة المغربية لم ينسحب من الدورة، بالرغم من عدم وجود علاقات ديبلوماسية آنذاك مع الرباط، وأحس المجموع الجزائري بكرم اللفتة المغربية، ولم يكن ذلك غريبا على العلاقات بين البلدين( وقلت في ختام مقالي، الذي نشر منذ أكثر من 32 سنة، بأن هذا ))يؤكد من جديد بأن الصورة التي قدمها الإعلام المصري لجمهوره هي صورة كاذبة، وبأن مصر اليوم، وبكل أسف وأسى، ليست مصر الأمس، التي كان انسحابها من أي لقاء دولي أو جهوي، يؤثر سلبا على سير اللقاء بل ويمكن أن يحول دون نجاحه (..) ولن تكون مصر هي مصر، ولن تكون حقيقةً كنانة الله في أرضه، إلا عندما يتمكن الوطنيون فيها من مصارحة الجماهير بكل الحقائق، ومواجهتها بما لها وبما عليها... ليكون لمصر وزنها الحقيقي، عندما تقوم مصر بدورها الحقيقي، وتحرص مصر على مصالحها الحقيقية((. من هنا يتضح أن ما حدث في الأيام الأربعة بين 14 نوفمبر و 18 نوفمبر 2009 من تصرفات حمقاء لم يكن شيئا جديدا، بل هو مواصلة لموقف قديم. وهكذا عدت وقبل أن ينتهي أغسطس 1978 فكتبت في المجاهد )ما أعيد نشره في الجزء الثالث من انطباعات ص 196( وسيكتشف القارئ، خصوصا القراء الذين سمعت منهم لوما على أننا لم نحاول مواجهة الأمر آنذاك بما يستحقه، وأذكر المخضرمين منهم، أننا في الشهور الموالية، عشنا مرض الرئيس هواري بو مدين، الذي انتقل إلى رحمة الله قبل أن ينتهي العام. وجاء في المقال : ))كنت آمل أن تكون السطور التي كتبتها في العدد الأسبق عن حماقة النظام المصري هي آخر ما أكتبه حول ما حدث (..) غير أن القيء الإعلامي استمر في القطر الشقيق، ربما لكي ينسى الناس هناك الوضعية المؤسفة التي وصلت إليها مصر بفضل الرئيس المؤمن الباحث عن الذات )في إشارة إلى كتابه : البحث عن الذات، والذي تغير محتواه وعباراته أكثر من مرة( القضية أعمق من مجرد استياء لمواطنين بسطاء تأثروا، عن حق، بما قيل لهم عن المعاملة السيئة التي لقيها فريقهم الرياضي، وأكثر من مجرد ردود فعل هيستيرية لعناصر مرتزقة في جوقة الجهاز الإعلامي، رغم أنه ثبت، المرة تلو المرة، بأنها لا ترى في شعبها إلا حشودا يجمعها طبل وتفرقها عصا.