إن هذا الشرط الأساسي الذي أورده بيان أول نوفمبر في مقدمة أهداف الثورة، إنما هو مأخوذ من أدبيات أطراف الحركة الوطنية الجزائرية التي هي: حزب الشعب الجزائري بواجهاته الثلاث ( التشكيلة السياسية المحظورة، الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، المنظمة الخاصة) ثم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فالإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. كل هذه الأطراف كانت تعمل، بأساليب مختلفة ومتناقضة أحيانا، ما في ذلك شك، من أجل " استرجاع الاستقلال الوطني". يستشف الدارس النبه صحة ذلك من التأمل في المعلومات التالية: إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، على لسان رئيسها الأول، الشيخ عبد الحميد بن باديس قد أكدت سنة 1936: " إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة، موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا. ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ولا تريد أن تندمج". وفي الحادي عشر جوان سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف قام السيد فرحات عباس بتسليم وثيقة إلى الجنرال " كاترو" جاء فيها على الخصوص:" إن سياسة الهدم ومطاردة الأهلي قد تقررت، رسميا، مباشرة بعد سقوط مدينة الجزائر. كان ذلك عندما كان يعتقد أن المجتمع الأهلي سينتهي إلى الذوبان حينما يحتك بالأوربيين على غرار ما وقع للهنود الحمر في أمريكا". وبعد ذلك التاريخ بخمس سنوات، وبالضبط في مطلع السداسي الثاني من سنة 1948، عندما نظم الحزب الشيوعي الجزائري "حملة إعلامية واسعة يدعو من خلالها إلى توحيد القوى الوطنية مع الطبقات الكادحة في فرنسا.." كان جواب الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري كالآتي: " إن نقاطا أساسية تمنعنا من الاستجابة للعروض المذكورة وهي على النحو التالي: - إن الحزب الشيوعي يتصور الجمهورية الجزائرية في إطار الإتحاد الفرنسي وعلى غرار جمهوريات الاتحاد السوفيتي. -إن الحزب الشيوعي يرفض اللغة العربية والعروبة والإسلام بالإضافة إلى وحدة شمال إفريقيا . - إن الحزب الشيوعي لم يتخل عن نظريته الخاصة بالأمة الجزائرية والقائلة إنها أمة في طور التكوين. وفي تلكم السنة ذاتها، خاطب الدكتور محمد الأمين دباغين أعضاء البرلمان الفرنسي قائلا: سيداتي ، سادتي : إن زملائي في مجموعة الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، الذين سبقوني إلى هذه المنصة، قد أفاضوا في التدليل، إذا كان الأمر مازال في حاجة إلى ذلك، على أن الاستعمار كان بالنسبة لشعبنا البائس، كارثة حقيقية من جميع وجهات النظر. و يكون من الخطأ الفادح الاعتقاد، مثلا، بأن رغبة الاستقلال لدى الشعب الجزائري متأتية فقط من كون الاستعمار لم ينجح ماديا. معنى ذلك، على سبيل المثال، لو أن الاستعمار تجسد ماديا في تحسين معاش السكان المسلمين لكان يمكن أن يقودنا الأمر إلى النظر بعين الرضا لضياع شخصيتنا وسيادتنا وثقافتنا. كل ذلك غير صحيح حتى ولو تمكنت فرنسا من إنجاز العجائب فيما تسميه بمستعمرة الجزائر، وحتى لو كانت حقيقة كل الأكاذيب التي تروج لصالح الاستعمار، وحتى لو أن الشعب الجزائري يكون قد أصبح، بفضل السيوف الفرنسية، الشعب الأكثر سلامة والأكثر ثقافة والأكثر ازدهارا . ولا تنسوا، سيداتي سادتي، أن الجزائر أمة. و لقد كانت ذات سيادة، لم يفقدها إياها سوى عدوان 1830. هناك نزوع كبير إلى النسيان، وعلى سبيل المثال، فإن التأكيدات المتكررة، في كل الأوقات، سواء من طرف الحكومة أو حتى من قبل أعضاء هذا المجلس، والقائلة حينا إن الجزائر تشكل جزءا لا يتجزأ من فرنسا، وحينا آخر إنها ثلاث عمالات فرنسية، وتارة، كما يقال الآن، إنها مجموعة ترابية من الجمهورية الفرنسية، كلها تأكيدات أحادية ولا أساس لها من الصحة. و زيادة على ذلك، فإن المعاهدات المبرمة بين الدولة الجزائرية وبعض الأمم مثل انجلترا والولايات المتحدةالأمريكيةوفرنسا ذاتها، تثبت أن الجزائر كانت تعتبر أمة سيدة. بل أكثر، فإن فرنسا لم تكتف بأن تتبادل معها الآليات الدبلوماسية التي لا تترك مجالا للشك حول الاعتراف بسيادة الجزائر، في ذلك الحين، بل كذلك، وهو أمر غير معروف كما ينبغي، فإن حلفا حقيقيا قد أقيم في القرن السادس عشر بين فرنساوالجزائر. و بديهي أن الحلف لا يمكن أن يكون إلا بين دولتين كاملتي السيادة وليس بين دولة سيدة ودولة تابعة". ولقد كانت أطراف الحركة الوطنية، كل حسب أسلوبه الخاص والإمكانيات المتوفرة لديه، تتحرك، في شتى الميادين، تنشر المعرفة، وتشحذ الهمم، وتبني، على قواعد ثابتة، طاقات تتوفر فيها القدرة على دفع عربات النضال على طريق التحرير المليء بالموانع المتعددة والعراقيل المختلفة. وكان من مميزات تلك الطاقات أنها سرعان ما سكنها الأمل، فانقادت، عن وعي وإدراك، تقوم بدورها التكويني والتحريضي استعدادا لإشعال فتيل الثورة. وبالفعل، فما كادت الحرب الإمبريالية الثانية تضع أوزارها حتى لاحت في الأفق بوادر التبشير بميلاد الفجر الجديد ممثلا في النضج السياسي الذي بدا واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار. من ذلك أن قادة أطراف الحركة الوطنية الجزائرية قد أدركوا أن السياسة علم يخضع لكثير من المعايير والمقاييس التي تأخذ في الاعتبار واقع المجتمع وتطوره، ويرتكز،خاصة،على الفكر والثقافة. ولذلك، فإنهم، بعد فشل حركة ماي الثورية، قد وجهوا كل الإمكانيات المادية والبشرية إلى الإنتاج الفكري والثقافي. فعم الساحة الجزائرية عديد الإصدارات الجادة المعبرة عن تعددية سياسية، شبيهة تماما بتلك التي تعيشها كثير من البلدان المتقدمة. معنى ذلك أن علماء الجزائر ومفكريها، على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، قد تضاعفت جهودهم في سبيل تثبيت مقومات الأمة من جنس ولغة ودين وتقاليد صحيحة وعادات صالحة واعتداد بالنفس واعتزاز بالأصالة والإنية. كل ذلك كان شرطا لا بد منه لجعل سائر الفئات الشعبية تدخل، مختارة، معترك النضال من أجل تطهير المجتمع وتحسينه والحفاظ عليه، ومن أجل إعادة الاعتبار لتراثنا الذي أتلفه الاحتلال بوسائل مختلفة، وكذلك إعادة كتابة التاريخ الوطني بما يخلصه من التشويه والتزييف والتحريف الذي أصابته به المدرسة الاستعمارية. ذلكم النشاط المتزايد هو الذي كان في أساس تكوين الرجال الذين تحملوا مسئولية تفجير ثورة نوفمبر 1954. ولا يمكن اليوم أن يدعي الواحد منا" النوفمبرية" إذا لم يكن في مثل ما كان عليه أولائك الرجال من إيمان راسخ بجزائر ما قبل الاحتلال، واستعداد للتضحية القصوى في سبيل استرجاع سيادتها التي لا يكفي التعبير عنها بواسطة الراية المرفوعة والشعارات المنشورة . بل لا بد من التركيز على إعادة إحياء الثقافة الجزائرية المبنية على المكونات المتعارف عليها، ونعني بذلك الأنتربولوجيا والآليات والإبداع. ولا بد، كذلك، من إعادة كتابة التاريخ الذي تفننت مدرسة الاستدمار في تشويهه وتقزيمه. والمقصود بالمدرسة الاستعمارية، هنا، هي مدرسة الإنتاج عن طريق الدراسات والبحث بجميع أنواعه والتي ما زال الباب مفتوحا، على مصراعيه، أمام أساتذتها ينشرون الأفكار المميتة في أوساط المجتمع الجزائري، ويحظون، مع ذلك، بمباركة أصحاب الحل والربط في البلاد. لقد كان الذين أعدوا لثورة نوفمبر أوفياء لدماء الشهداء الذين سقطوا، بمئات الآلاف، في جميع أنحاء البلاد من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة. أدركوا أن أسلافهم لم يبخلوا بأعز ما يملكون في سبيل التصدي للعدوان، ولكي تعيش الجزائر في كنف الحرية والعزة والكرامة كما كانت قبل وقوع الاعتداء عليها سنة ثلاثين وثمانمائة وألف. ومكنهم إدراكهم ذلك من إيجاد المسالك السليمة المؤدية إلى تقويض أركان الاحتلال. وعليه، فإن النوفمبريين الحقيقيين، اليوم، هم الذين ينادون بضرورة الحفاظ على مقومات الشخصية الوطنية من دين ولغة وأخلاق وعادات وتقاليد حميدة. إنهم لا يمكن أن يكونوا نوفمبريين وفي نفس الوقت يحتقرون تلك المقومات ويدعون، سرا وعلانية، إلى تقمص شخصية المحتل السابق الذي مازال هو الحاكم الفعلي في البلاد. وهل يحق لأي كان الادعاء بأنه "نوفمبري" إذا كان قد قضى أكثر من أربعة عقود في الجزائر، بعد استرجاع استقلالها، وهو لا يزال متنكرا للإسلام وللغة القرآن، ويجهل كل أو جل التراث الثقافي والفكري الذي كانت تزخر به جزائر ما قبل الاحتلال؟ ثم هل يمكن التحدث عن رسالة نوفمبر وإداراتنا، في معظمها، تتعامل مع الجماهير الشعبية الواسعة بلغة المحتل السابق؟ وهل يستطيع المسئولون الزعم بأنهم "نوفمبريون" وهم يخافون جماهير الشعب، ويحلو لهم، حتى في المحافل الدولية والرسمية، مخاطبة الناس باللغة الفرنسية؟ مع العلم أن عهد " أخواتي، إخواني، اسمحوا لي أتكلم باللغة الأجنبية، لأن الاستعمار حرمني من تعلم لغتي الوطنية" قد انقضى بانقضاء حوالي نصف قرن عن اليوم الذي لم يعد فيه الاستعمار قادرا، نظريا على الأقل، على منع الجزائريين من تعلم لغتهم وغيرها من اللغات. إن "النوفمبريين الجدد" يزعمون، جهلا وتنكرا للحقيقة، أن الثورة التحريرية كانت استئصاليه ولائكيه، ويدعون أنهم، فيما يذهبون إليه، إنما يرتكزون على وثيقة وادي الصومام. إن في زعمهم لكثير من المغالطة، وكأنهم لا يعلمون أن المجاهد من الجهاد والشهيد من الشهادة، وهما مفهومان إسلاميان. وليس من الصدفة أن جبهة التحرير الوطني قد اختارت " المجاهد" عنوانا للسانها المركزي. وعندما يعود الدارس، اليوم، إلى وثيقة وادي الصومام وإلى المسئولين الذين تولوا صياغتها، فإنه لن يجد أدنى صعوبة في أن يرد على اللائكي/ شيوعيين زعمهم، لأن أرضية وادي الصومام إنما جاءت متممة لبيان أول نوفمبر ومثرية له بما يكفل للثورة مرجعية سياسية وإستراتيجية عسكرية وقيادة وطنية وهيكلة موحدة. وإذا كانت أرضية وادي الصومام لم تكرر ما جاء في بيان أول نوفمبر من أن الهدف الأول الذي ضبطته الثورة إنما هو إعادة بناء الدولة الجزائرية في شكل " جمهورية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية"، فإنها لم تتعرض بالنقد لأية واحدة من النقاط التي وردت في البيان، ومعنى ذلك أنها تبنته برمته كما يقول رجال القانون الذين ينطلقون من كون القرار الذي يتبنى الحكم، فإنه يتبنى، في ذات الوقت، جميع حيثياته ما لم تذكر بعض الاستثناءات بصريح العبارة. وفي حالتنا، فإن أرضية وادي الصومام لم تذكر أي استثناء. أما عن المسئولين الذين تضافرت جهودهم لصياغة الأرضية المشار إليها أعلاه، فإنهم كانوا، باستثناء المرحوم عمار أوزقان، متشبعين بأيديولوجية حزب الشعب الجزائري، ومناضلين مسئولين في صفوف الحركة الوطني الجزائرية. وعلى هذا الأساس، فإنهم كانوا أبعد الناس عن اللائكية والشيوعية لأن القانون الأساسي لحزب الشعب الجزائري يشترط على المناضلين والمنخرطين أن يكون سلوكهم " سلوك المسلم الصحيح"، وإلا سدت في وجوههم أبواب النشاط في أوساط الشعب الجزائري المسلم. وحتى الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الجزائري، فإنه كان، يومها، قد ابتعد عن كل نشاط سياسي وتاب عن الأخطاء التي كان قد ارتكبها، خاصة على إثر جرائم الحرب التي ارتكبتها الحكومة الفرنسية في تصديها لحركة ماي الثورية سنة 1945. ومنذ أن انضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني، فإنه لم يتخل، حتى في أخلك الظروف، عن التزامه بالمبادئ والقيم التي طبعت أيديولوجيتها، بل أكثر من ذلك، فإن المؤتمر التأسيسي لحزب جبهة التحرير الوطني، المنعقد بسينما إفريقيا في الفترة ما بين السادس عشر والواحد والعشرين من الشهر الرابع، قد عينه على رأس اللجنة الوطنية للدراسات الأيديولوجية. من هذا المنطلق، فإن النوفمبريين الجدد قد أخطئوا في حسابهم، ويتحتم عليهم البحث عن مرتكزات أخرى لأن منظومة الأفكار، المعبر عنها بوضوح في نداء أول نوفمبر، إنما كانت حوصلة ذكية لأدبيات الحركة الوطنية بجميع أطرافها، و كان من الطبيعي جدا أن تكون وثيقة وادي الصومام امتدادا لها، ووعاء لإثراء ها انطلاقا من تقييم المرحلة المقطوعة واعتمادا على الإمكانيات والمستجدات بجميع أنواعها... وللحديث بقية.