ب - وللتخلص نهائيا من بقايا الاستعمار، يأتي في إطار الشرط الثاني، الذي يجب أن يتوفر في الإنسان الجزائري ليكون نوفمبريا، الهدف الداخلي الثاني الذي ورد التعبير عنه في البيان على النحو التالي: »تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري«. إن الطاقات السليمة المقصودة هنا هي تلك التي بلغت من الوعي والإدراك ما جعلها ترقى إلى الإيمان بضرورة الإقدام على التضحية القصوى من أجل تقويض أركان الاحتلال. وفي هذا التعبير دليل على أن قيادة جبهة التحرير الوطني قد تمثلت الفكرة القائلة إن تحرير البلاد مسئولية جميع الجزائريين، ومن ثمة فإن أبواب النضال في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني لم تعد موصدة في وجه جميع مناضلي ومريدي سائر أطراف الحركة الوطنية. وعلى هذا الأساس وقع توجيه النداء، قبل كل شيء، إلى الشعب الجزائري. إن ما لم يعد فيه أدنى شك هو أن الذين قرروا تفجير ثورة التحرير الوطني، كلهم، تكونوا في رحم حزب الشعب الجزائري، بواجهاته الثلاث، وتشبعوا بمنظومة أفكاره التي تدعو إلى استعمال جميع الوسائل الممكنة لتخليص البلاد من الهيمنة الاستعمارية. ويأتي الكفاح المسلح في مقدمة تلك الوسائل. وكان التركيز على هذه الوسيلة الأخيرة هو السبب الرئيسي في اختلاف أطراف الحركة الوطنية الجزائرية، وفي جعل الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين يرفضان الانضمام إلى الاتحاد الوطني، ويكتفيان بالنهج السياسي والتربوي رغم كل ما أحدثه ذلك من صراع كان يمكن تجنبه لو تنازل أحد الطرفين عن جزء من قناعاته إلى حين. وإذا كان كل من الطرفين قد ظل متمسكا برؤيته، لاعتقاده بأنها الأنجع والأقرب إلى الصواب، فإن ذلك لم يمنع من الاعتراف بفائدة ما قدمته جميع الأطراف، كل حسب إمكانياته، في توفير الشروط الموضوعية لاندلاع الثورة ونجاحها. لكن الذي يجب التوقف عنده، هو أن حزب الشعب الجزائري قد تمكن، في الأخير، من إعادة النظر في مسألة تحديد الفئات الاجتماعية التي تتولى قيادة المعركة ضد الاستعمار، وتفطن إلى أن مسئولية التحرير ملقاة على كواهل كل الجزائريين. ولقد جاء ذلك، بصريح العبارة ، في مشروع السياسة العامة الذي صادق عليه المؤتمر في اليوم السادس من شهر أفريل سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وألف، حيث ورد : »إن المؤتمر يؤكد ضرورة الوحدة الوطنية، ويوصي بانتهاج أفضل أشكالها«. وللتوضيح، خاصة بالنسبة لجيل ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني وللذين عاشوا خارج الوطن إلى أن كان وقف إطلاق النار، نشير إلى أن مفهوم »الوطنية« في الجزائر، قبل اندلاع الثورة، كان يختلف، كلية، عما هو شائع في جهات مختلفة من العالم، ذلك أنه ظل، خلال أكثر من ربع قرن من الزمن، يعني فقط تشكيلة سياسية واحدة عرفت، في البداية، باسم »نجم شمال إفريقيا« ثم تحول الاسم إلى »حزب الشعب الجزائري الذي أوجدت القيادة السياسية في داخله« الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية" لممارسة النشاط السياسي العلني، و»المنظمة الخاصة« التي أسندت لها مهمة تكوين المتطوعين من المناضلين الشباب تكوينا سياسيا وعسكريا قصد تجسيد فكرة الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة. لقد كانت »الوطنية«، إذن، خلال كل تلك الفترة، حكرا على مناضلي حزب الشعب الجزائري، أما باقي التشكيلات السياسية، فإنها كانت تسمى بأسمائها. وكانت سلطات الاحتلال تعرف كل ذلك، وقد جسدته فيما وضعته من تقارير أمنية وسياسية. غير أن كل ذلك لا يعني أن الحركة الوطنية الجزائرية كانت منحصرة في تنظيم »نجم شمال إفريقيا« وما تولدت عنه من تشكيلات أخرى، بل إنها كانت، في الواقع، تشمل، أيضا، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، ولا مكان فيها للحزب الشيوعي الجزائري الذي لم يكن يؤمن بوجود الدولة الجزائرية ذات السيادة المعترف بها في الداخل وفي الخارج قبل العدوان الفرنسي عليها. من هذا المنطلق، نؤكد أن الجزائر كانت، إلى غاية نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، تعيش تعددية حزبية فعلية في إطار حركة وطنية متميزة أطرافها سياسيا لكنها تعمل، جميعها، في سبيل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة، وفقا لبرامج مختلفة. إن ميلاد جبهة التحرير الوطني كان حدثا ذا أهمية بالغة بالنسبة لكل أطراف الحركة الوطنية. وكان البيان الذي جاءت به حوصلة ذكية لكل الأيديولوجيات، واختصارا للبرامج السياسية المطروحة على الساحة. لأجل ذلك كانت الدعوة إلى »تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري«. معنى ذلك أنها تفتح أبواب الجهاد واسعة لكل مناضلي ومريدي أطراف الحركة الوطنية الذين يبدون استعدادهم للتضحية القصوى في سبيل إعادة الربط مع جزائر ما قبل الاحتلال. وإذ فعلت ذلك، فإن جبهة التحرير الوطني قد تجاوزت سائر أطراف الحركة الوطنية، وأعطت فرصا متساوية لكل الطاقات الحية من دون تمييز أو إقصاء، وبذلك ضمنت أسباب النجاح، وعبدت الطريق لتوحيد الشعب وإعادة بناء المجتمع وفقا لمشروع واضح المعالم وبين المحاور. لكن القيادات التي تعاقبت، منذ وقف إطلاق النار، لا تجيد القراءة في سجل التاريخ، ولا تحسن السير في الاتجاه الصحيح. فترتب عن ذلك ضياع المكاسب الوطنية، وخيمت الضبابية على أدبيات الثورة، ثم انقشعت لتترك المكان لأدبيات الثورة المضادة التي كان النظام الكولونيالي قد خطط لها قبل رحيله الشكلي. هكذا، وشيئا فشيئا، اختفت المفاهيم والمصطلحات النضالية، وحذفت من قاموس الجزائريين اليومي إدانة »الامبريالية العالمية وربيبيها الاستعمار والصهيونية«، ولم نعد نسمع عن »الجزائرمكة حركات التحرير والتحرر في العالم«، واستكانت الأصوات التي كانت ترتفع متحدية »نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة«، وبقدرة قادر تحول دعاة المجتمع الاشتراكي إلى مدافعين عن اللبرالية والرأسمالية، وانبرى من بين صفوف المسئولين، في أعلى هرم السلطة، من ينادي بضرورة إدارة الظهر للتاريخ، باعتباره عالم الماضي، والتوجه نحو بناء الصداقة الجزائرية الفرنسية باعتبارها أساس المستقبل. تطلب تحقيق كل ذلك أقل من عشرين سنة تفككت، خلالها، أواصر المجتمع، وانفرطت حبات العقد المتين الذي رتبته جبهة التحرير الوطني في خيوط الوفاء لشهداء الثورة، وتميعت قيم نوفمبر، وأصبح فخرا الجري وراء سراب الحضارة الغربية، وانتشرت روح الفتنة المبنية على أسس الجهوية الضيقة والعشائرية والقبلية والأسرية، وما ينجر عن كل هذه الآفات من الأمراض الاجتماعية الفتاكة مثل الرشوة والمحسوبية والسرقة والنصب والاحتيال. أبعد تعداد كل هذه الحقائق المرة، التي لا مراء فيها، يتجرأ بعضهم على الادعاء، علنا، أنه نوفمبري، وأنه يعمل من أجل تجسيد مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني ليلة الفاتح من شهر نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف؟. وهل يمكن لقيادات البلاد، اليوم، الزعم بأنها لم تنحرف عن الأهداف المسطورة في سائر أدبيات الثورة، أو أن مساعيها ما زالت تندرج في إطار الوفاء لأرواح ملايين الشهداء الذين كانوا يحلمون بإعادة بناء الدولة الجزائرية المغيبة سيادتها بموجب معاهدة الخامس يوليو سنة ثلاثين وثمانمائة وألف؟؟. لقد كان النوفمبريون أوفياء لما جاء في نص البيان. فوحدوا كل الطاقات السليمة رغم ما كان يحيط بالمهمة من عراقيل، بعضها نتيجة المفاجأة وعدم الاستعداد حتى بالنسبة لكثير من المناضلين المتمرسين في صفوف أطراف الحركة الوطنية، وبعضها بسبب ضعف الإمكانيات المادية خاصة وكذلك رد الفعل الاستعماري الذي كان عنيفا. وبعد أن تقدمت عملية التوحيد الذي استغرق أشهرا، شرعوا في تنظيم الطاقات المذكورة، وإعدادها، سياسيا، لمواجهة الآلة الكولونيالية المدعومة بإمكانيات الحلف الأطلسي. فقبل مرور عام واحد على إشعال فتيل الثورة، تمكنت جبهة التحرير الوطني من إيجاد تنظيم فاعل لاستقبال »الطلبة المسلمين الجزائريين«. ومباشرة بعد الإعلان عن التأسيس، شرع إطارات التنظيم، بكل جد وانضباط، في التنقل عبر مختلف أنحاء العالم يسخرون كل طاقاتهم لشرح القضية الجزائرية في أوساط التنظيمات الجامعية والطلابية على وجه الخصوص. ووقع توزيع عدد غير يسير من أولائك الإطارات على بعض ممثليات جبهة التحرير الوطني في الخارج لمساعدة للمسئولين عليها. ويشهد التاريخ أن وجودهم كان ذا فائدة كبيرة. ووحدت جبهة التحرير الوطني، كذلك، فئات العمال في إطار الاتحاد العام للعمال الجزائريين. وكان ذلك في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وقد بارك مؤتمر وادي الصومام، في محاضره، ميلاد الإتحاد الذي رأى فيه »تعبيرا عن رد فعل سليم قام به العمال الجزائريون ضد التأثير المشل الذي يصدر عن مسيري الكنفدرالية العامة للشغل والكنفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين« وأوصى بأن تولي جبهة التحرير الوطني »عناية خاصة بالمولود الجديد حتى يشتد عوده وتتدعم هياكله«. وساهم الاتحاد، بالفعل، في نشر الوعي الثوري لدى عمال المدن والأرياف، وتمكنت قياداته من توفير الشروط الموضوعية اللازمة لتحقيق التآخي الذي لا بد منه لصنع الأداة القوية التي تستطيع الصمود في وجه آليات الحرب الاستعمارية، ولمنع ما قد يحدث من انقسام في أوساط عشرات آلاف العمال الذين سارعوا للانضمام إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين مباشرة بعد ميلاده. وبالإضافة إلى كل التوجيهات السياسية والإجراءات التنظيمية، التي سيكون لها أثر فعال في حياة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حذرت قيادة جبهة التحرير الوطني الإطارات النقابية من مغالطات الحزب الشيوعي الجزائري الذي لا يمكن، لعجزه في الميدان السياسي، إلا أن »تتحول مساعيه إلى فشل ذريع في المجال النقابي«. ودائما في إطار تنظيم الفئات الاجتماعية المختلفة، تقرر إنشاء اتحاد عام للتجار الجزائريين، يسند الإشراف عليه إلى وطنيين يكونون، إضافة إلى تسيير شؤون التنظيم الجديد، »مكلفين بإيجاد أفضل السبل لكسر الاحتكارات الأوروبية التي تخنق التاجر الجزائري الصغير وتجعل منه مجرد آلة لا تتحرك إلا كيفما شاء المستغل لها«. وحظيت المرأة، أيضا، باهتمام واسع. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، خاصة عندما نرجع إلى تاريخ المقاومة الشعبية الذي عرف من النساء اللاتي قدن الكفاح المسلح أو شاركن فيه بما أصبح مضربا للمثل في الشجاعة والإقدام. ولتبرير الاهتمام البالغ بالعنصر النسوي، انطلقت جبهة التحرير الوطني من كون الفتيات الجزائريات »دللن ، بما لا يدع أي مجال للشك ومنذ اندلاع ثورة نوفمبر، على أنهن أهل لحمل مشعل »لاله فاطمة انسومر« و»أم هاني« البركانية، وأن شجاعتهن لا تقل عن شجاعة الرجل سواء في ميدان المعارك، والسلاح في أيديهن، أو في المستشفيات والمستوصفات حيث يبدعن في التمريض وتضميد الجراح، أو في القرى والمداشر ينشرن الوعي الثوري ويشاركن، بقسط وافر، في تربية الجماهير سياسيا وإيديولوجيا«. ولم تلجأ الثورة إلى طريقة »الكوتا« لإيجاد الصيغ العملية التي توفر للمرأة الجزائرية، حيثما وجدت، مكانتها المرموقة، بل إنها عمدت، فقط، إلى توفير شروط مشاركتها في المعركة مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانياتها المادية والأدبية... وللحديث بقية