بدأ السادات يمارس وهما جديدا موجزه الإيقاع بين وزير الدفاع الإسرائيلي إيزرا وايزمان ومناحم بيغين، مقدما الإرهابي القديم كإنسان لا يفهم نظرة السادات الإستراتيجية لتحقيق السلام في المنطقة، ومن هنا طرح على وايزمان فكرة شق فرع من نهر النيل يتجه نحو النقب الإسرائيلي، وهو ما أبلغه الوزير الإسرائيلي لرئيسه لأن القوم يعرفون معنى التنسيق في التعامل مع العدو، ويقول السادات بعد ذلك لمرافقيه، ومن بينهم المُقاول عثمان أحمد عثمان، الذي يظن هيكل أنه صاحب الفكرة، بأن ))مياها كثيرة تضيع في البحر، وأنا أكره إهدار الماء لمجرد منعه عن عدوّ، سيصبح صديقا، وفاته أن التصرف في مياه النيل محكوم باتفاقيات دولية، وهو لا يملك وحده اتخاذ قرارات بهذا الشأن، وسأعود إلى ذلك فيما بعد((. كان الرجل قد وصل آنذاك إلى مرحلة متقدمة من جنون العظمة، وتركّز اهتمامه على خياطة زي عسكري جديد يليق ببطل الحرب والسلام، بدلا من زي ما قبل أكتوبر الذي صممه له بيير كاردان في باريس )خريف الغضب ص 206( ومن بين عناصره ))بوت(( قام باعداده خبير أحذية الفنانة كاترين دو نوف في باريس، وقيل أن ثمنه، آنذاك، كان ما يعادل ألف جنيه مصري، أي نحو مليون سنتيم جزائري بحساب السبعينيات. وأضاف الرئيس لكل أوسمته وشاحا جديدا أطلق عليه وشاح العدل )ص 389( يرتديه فوق بدلته العسكرية التي كان يقوم بتفصيلها بيت أزياء في لندن تخصص في الملابس العسكرية، وكان وشاح العدل الأخضر يعطيه مسحة مُلوّنة إضافية فوق البدلة العسكرية التي ترمز بطبيعتها إلى القوة، وكانت تصميما خاصا عُرض عليه أكثر من مرة حتى أقرّ شكله النهائي )وهو مستلهم من أزياء كبار القادة الألمان، وللتذكير فقد كان زي أدولف هتلر بالغ البساطة ولم يكن يضع أي نياشين على الإطلاق باستثناء الصليب، رمز النظام( وأضاف السادات إلى كتف البدلة العسكرية علامة رتبة جديدة تعلو رتبة المارشال )التي كان يحملها مونتغمري وروميل وبيتان وتيتو( وصنع لنفسه عصا ماريشالية من الذهب راح يُمسك بها تحت إبطه أو يرفعها أمامه منتصبة من قبضة يده اليمنى )وهي التحية التي يرُدّ بها أي مارشال على تحية الآخرين بدلا من رفع يده اليمنى إلى جبهته( وبدأ السادات يُفضل أن تكون الصُّور التي تلتقط له جانبية، ليجسد التماثل بينه وبين الفرعون التاريخي، وكان يقول علنا أنه آخر الفراعنة. في الوقت نفسه كان من بين ما يفكر الرئيس فيه تشويه من رفضوا مبادرته، وكنتُ، عندما تابعت استقباله لوزير الخارجية الجزائرية تصورت أنه أمر عابر، كنت أتناوله مع سي عبد القادر في بعض لقاءاتنا على شكل النكتة، لكنني، مع مرور الوقت، تيقنت أن الأمر هو أعمق من ذلك، وبدأت أحس بأن هناك على مستوى صناعة القرار المصري إرادة في تشويه مواقف الجزائر، ليمكن التخفيف من آثار مواقفها الإيجابية على الشارع المصري وبالتالي فتح أعين الناس على الحقائق وبلورة رفض العملية المزدوجة التي عرفتها المنطقة، والتي تجسدت في إخراج مصر من دائرة اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالوطن العربي والدائرة الإسلامية حوله وإدخال إسرائيل إليها لتمسك هي بأهم معطيات القرار، وهكذا يتم عزلُ أكبر الدول العربية عن مجالها الطبيعي، وأبعادها عن المجال العربي في آسيا، بكل ما له من عمق إستراتيجي، وتحجيم علاقاتها بالعمق الإفريقي، وخلق الشنآن المتواصل بنها وبين المغرب العربي، وهذا كله هو الهدف الحقيقي الدائم للإمبريالية الأمريكية. وأنا أعرف أن هناك من كان يرى بأن هذه الكلمة بدعة، وكل بدعة ضلالة..الخ، لكنني آمل اليوم أن يكون الجميع قد تبينوا الحقيقة السافرة التي تؤكد أن الإمبريالية وجودٌ لا ينتهي، وهي خبير في التنكر، ونستطيع أن نكتشف ملامحها تحت جلباب العولمة ووراء لافتات الحرب ضد الإرهاب. وعندما كنت أسترجعُ تاريخ السنوات الماضية وأنا أعدّ هذه السلسلة إثر الأحداث التي عرفتها مباراتي القاهرة وأم درمان في نوفمبر 2009، وجدت أمامي تفاصيل حادثة نسيناها، وكان يجب أن تكون مرجعا لكل تعاملاتنا المستقبلية مع النظام المصري، وكان الأمر يتعلق أيضا بمباراة كرة، احتضنها ملعب 5 يوليو عام 1978 في الجزائر. كان ذلك خلال دورة الألعاب الإفريقية، ولم أهتم بداية بالأمر لمجرد أنني أبعد الناس عن الاهتمام بالكرة، لكنني فوجئت بالأسى الذي كان يُحس به عدد من الرفقاء المصريين، ومن بينهم الأستاذ عبد المجيد فريد، سكرتير جمال عبد الناصر، والذي كان ضيف الجزائر سنوات طويلة بعد أن تعرض لغضب السادات، وقررت أن أحاول الفهم وأشرك فيه فريد، وهكذا طلبت من عبد الرحمن شريط، المدير العام للتلفزة الوطنية آنذاك، أن يدعونا لمشاهدة الشريط الكامل للمباراة المعنية، وكتبتُ هذه السطور التي نشرت في أغسطس على صفحات المجاهد الأسبوعي، ويجدها القارئ في الجزء الثالث من انطباعات )ص 187(. وقلت في المقال : ))لست من عشاق كرة القدم، ولم أتابع، بدون أسى، مباراة الفريقين المصري والليبي على ملعب 5 يوليو)..( والتي زعم البعض أنها كانت استكمالا لمباراة أخرى، أكثر سخونة، حدثت في يوليو الماضي على الأرض الليبية )وكان المقصود الهجوم المصري على ليبيا( وما حدث في الملعب أمر يثير الأسف، ولا يُمكن أن يختلف اثنان على تجريم المسؤول الذي أشعل النار، وأيضاً المسؤول عن شحن النفوس بالبغضاء والحقد، لتكون وقودا لنارٍ تلتهم رصيد شعوبنا المشترك من الأخوة والمحبة والتقدير، وتكشف في الوقت نفسه للعالم أجمع عمق الهوة التي انحدر إليها التضامن العربي بفضل الذين وضعوا أنفسهم في جيب العدو. ومنذ حدث ما حدث، وتمكنتُ من مشاهدة الفيلم، الذي شاهده أيضا المسؤولون الرياضيون الأفارقة وممثلو الصحافة الوطنية والدولية، ويقدم، بالصورة التي لا تكذب، كل الوقائع التي جرت، منذ ذلك وأنا أحاول تحليل ردود الفعل المصرية، ابتداء من قرار سحب الفريق الرياضي المصري، إلى العشرات من المقالات والرسوم الكاريكاتورية ورسائل القراء، وكلها خنقت أملا كان يُخالجني في أن تراجع السلطات المصرية مواقفها، وتتراجع عن القرار المتهور الذي ساقها إليه معلق تيليفيزيوني مصري شبه أعمى، ومراسل أحمق أو مُغرض )..() ولكن التطورات فضحت سوء النية )..( أثبتت الجزائر، بكل الإمكانيات التي وضعتها تحت تصرف رياضيي إفريقيا والرعاية التي أحاطتها بهم، أن إيمانها بالوحدة الإفريقية هو إيمانٌ يصدقه العمل )..( وكان استقبال الوفود الإفريقية، ومن بينها الوفد المصري، في مستوى مفهوم الجزائر للعلاقات بين الشعوب )..( كان الجمهور الجزائري، وباعتراف الصحفيين المصريين أنفسهم كتابة في الأخبار والأهرام، يُشجع اللعبة الحلوة والتصرف الرياضي لكل فريق، حتى ولو كان يلعب ضد فريقه الوطني )..( وقام الإعلام الجزائري بواجبه )..( واعترفت الصحافة المصرية بأنه كان يُشيد بالانتصارات التي يحرزها اللاعبون المصريون )روز اليوسف( وبمستوى الفريق المصري )الجمهورية( وبالرغم أن العلاقات الديبلوماسية بين الجزائر ومصر مقطوعة )بمبادرة مصرية( وبالرغم من أن رئيس الوفد المصري لم يكن وزيرا فإنه دُعي إلى رئاسة الجمهورية مع وزراء الرياضة الأفارقة الذين استقبلهم رئيس الجمهورية بمناسبة الدورة، وكان السيد الشافعي مبهورا باللقاء، كما أشاد بروح جمهور الجزائر الطيبة نحو لاعبي مصر )الأخبار 16 يوليو( ورغم اعتراف الإعلام المصري بضعف بعض تشكيلاته )..( فإنه أخذ يعزف مقطوعة سوء التحكيم وتحيز الحكام ضد مصر، بل وتحيز أرضية ملعب الكرة، حيث كانت هناك مياه تعوق حركة اللاعبين المصريين )وحدهم !!( ويعترفُ بأن القلق كان يسود الفريق المصري قبل مباراته مع الفريق الليبي )الأهرام 22 يوليو( وتحدث مشاجرة بين اللاعبين المصريين والليبيين، وهو أمر يحدثُ في أي مكان في العالم، وخاصة في المباريات الحسّاسة، وشاهد عشرات الآلاف من المتفرجين والحكام والرياضيين ما حدث، وقام رجال الأمن الجزائريين، وبكل حزم وكياسة، بإبعاد اللاعبين عن بعضهم البعض )والصور شاهدة على ذلك( بينما رفع بعض »الفتوات« المرافقين للفريق المصري القواعد الحديدية للميكروفونات لضرب رجال الشرطة وهم يحاولون الفصل بين المتشاجرين، ودخل الاحتياطيون المصريون إلى أرض الملعب )بشهادة الصحف المصرية نفسها( للمساهمة في الكفاح المقدس، وراحت تجمعات منهم تصرخ بحياة السادات، بطريقة »المظاهرات العفوية« وهو أمر أثار استغرابا كبيرا آنذاك لأن اسم الرئيس المصري أقحم في غير موضعه، ولم يُفهم حقيقة ما حدث إلا فيما بعد عندما قرئت الأحداث قراءة سياسية. وعلى عكس ما قيل آنذاك لم يدخل جزائري واحد إلى الملعب، حيث أنه، وبشهادة الفنيين، مصمم بحيث لا يسمح للجمهور بالتسرب إلى أرضيته. وانقطعت الصورة التليفيزيونية )وهو خطأ جزائري تقني مؤكد، لا يشفع له حسن النية( في حين استمر التعليق الإذاعي مستمرا، وإذا بالمعلق المصري، كليل البصر ضعيف البصيرة، يندفع من كابينة الإرسال في أبعد نقطة عن الشجار، وبدون صورة متلفزة تتيح له رؤية ما يحدث، لينبح ويستثير الهياج عبر الميكروفون الذي لم يُقطع إرساله. تم اتضحت النوايا الحقيقية عبر ما نشرته القاهرة في اليوم التالي، بعد أن قرر النظام المصري الانسحاب من الدورة وقبل أن تتخذ اللجنة الرياضية الإفريقية القرار الذي يضع كل شيء في مكانه الصحيح، ونجد العناوين التالية : - شعب الجزائر )نعم..شعب الجزائر !!( والشرطة يشتركون في ضرب لاعبينا عن )الجمهورية 23 يوليو(. - البوليس الجزائري اتخذ موقفا سلبيا وسمح للجمهور الليبي )نعم..الليبي( بدخول الملعب. - وزير الشباب المصري يبحث الإجراءات الدولية )نعم ..الدولية( ضد الجزائر((. وبدت تلك الكتابات وكأنها بعض ما نشر في الجرائد المصرية في نوفمبر 2009.