كانت مصر الرسمية في مطلع 1978 تحس بالعزلة، رغم كل الضجيج الذي كان يُحدثه الإعلام المحلّي حول المُبادرة الساداتية، ويقول هيكل )خريف الغضب – ص 245( أن المناخ السياسي في مصر كان مثقلا بالحيرة والتخبط، كانت هناك بعض الآمال لا تزال معلقة بالمبادرة، وهو التعبير الذي شاع في وصف زيارة السادات للقدس، لكن أحد لم يكن يعرف سبيلا إلى تحقيق هذه الآمال، بل لم تكن هذه الآمال ذاتها محددة )..( لم تتقدم دولة عربية واحدة لكي تنضم إلى عملية السلام )..( ثم بدأ تدفق المساعدات العربية على مصر يبطئ ثم يتوقف )..( لم تكن الحياة قد أصبحت أكثر سهولة بالنسبة للسواد الأعظم من الشعب المصري، ولم يكن التضخم قد أصبح أقل حدة )..( كان السادات ما يزال يشجع الأحلام القائلة بأن هذه المبادرة سوف تحل مشاكل مصر الداخلية والخارجية، كان السادات يُصدّق أحلامه وكان يريد من الآخرين أن يُصدّقوا. وبدأ بطرس غالي تحركا قال عنه أنه لتعريف الرأي العام العالمي بما حدث في القدس، وهكذا توجه إلى يوغوسلافيا، حيث كان تيتو قد أرسل رسالة للسادات لإفهامه بأن : إسرائيل ليست على استعداد لإبرام اتفاق سلام شامل مع الدول العربية لأنها لا تعترف بالشعب الفلسطيني وبحقه في تقرير المصير )..و( مبادرته سوف تؤدي إلى )..( التمزق الداخلي للعالم العربي )..( ويقول غالي : ))رحب بي الرئيس تيتو )..( وعبر عن أسفه لذهاب الرئيس إلى القدس، فإسرائيل تعتمد على تفوقها العسكري، وهي تعرف أن واشنطون تفتقر إلى الإرادة اللازمة لممارسة ضغط فعال عليها )..( وأبدى أسفه لتدهور العلاقات بين القاهرة وموسكو )..( وكنت أتساءل : هل تيتو على صواب أم على خطأ ؟... لقد هزني ما قاله، وأثارت معارضته لسياسة مصر الشك في أننا نرتكب خطأ شنيعا ).و( غادرت بلغراد )..( فاشلا في إقناع تيتو((. ويجري اغتيال إجرامي للأديب المصري يوسف السباعي في لارناكا يوم 18 فبراير من قبل شخصين قيل أنهما من مجموعة أبو نضال، واختطف القاتلان طائرة بها عدد من الرهائن، وتقرر مصر انتزاع القاتلين من السلطات القبرصية، وتؤدي النتائج إلى زيادة مؤسفة في عزلة مصر، بدلا من أن تكون المأساة نفسها فرصة للتعاطف معها. ويروي غالي، الذي أوفد على عجل إلى قبرص بعد الكارثة، ما شرحه له الرئيس القبرصي سبيروس كبريانو، من أن : ))طائرة الإرهابيين )الذين كانوا يحاولون الفرار إلى بلد آخر( كانت على بعد مائة ياردة من مبنى المطار وفيها عدد من الرهائن، وفي الخامسة صباحا هبطت طائرة مصرية، ولم يكن رئيس الوزراء المصري ممدوح سالم قد ذكر لكبريانو شيئا عن وجود مسلحين مصريين على متنها )..( وعندها طُرحتْ تساؤلات على السفير المصري فأكد لوزير الخارجية القبرصي أن مصر لن تقوم بعمل عسكري )..( ولكن في الثامنة والنصف فتحت أبواب الطائرة وخرجت سيارة جيب مسرعة نحو طائرة الإرهابيين، وأطلقت القوات القبرصية طلقات تحذيرية ثم فتحت النار على المهاجمين بعد أن بدا أنهم يستهدفون الطائرة بمن فيها من الرهائن، وقتلت 15 من أعضاء المُهاجمين وجرح 16 وتم اعتقال الباقين )..( ويواصل غالي: قلت للرئيس أنه يجب تسليم الإرهابيين إلينا لمحاكمتهم في مصر، وإعادة رجال الصاعقة مع أسلحتهم ومعداتهم العسكرية فورا )..( وتذكرت مناقشتي سابقا مع ممدوح سالم، والتي قلت له فيها أن المطالبة المصرية بتسليم المتهمين لمحاكمتهم في مصر أمْر مستحيل من وجهة النظر القانونية، فسخر مني ومن القانون الدولي )غالي ص 81( ورفض كبريانو أن يسمح بعودة مجموعة الصاعقة المصرية حاملة أسلحتها )..( ووصلنا إلى حل وسط هو وضع الأسلحة في صناديق مغلقة بإحكام )..( وقررتُ أن يكون نقلهم بعد حلول الظلام وفي وقت غير معلن لتجنب وجود المصورين )..( ووصلنا إلى مطار القاهرة الدولي على الواحدة صباحا )..( وأعلن الرئيس السادات أن مصر سحبت اعترافها بقبرص وبالرئيس كبريانو((. وهكذا ارتكبت السلطة حماقة الإقدام على عملية مسلحة على أرض أجنبية، ضاعف فشلها من خطورة نتائجها، حيث ارتجلت بشكل ساذج وأحمق، وبدون أخذ لسيادة قبرص في الاعتبار، وبدت تقليدا سطحيا وداميا لعملية عنتيبي التي قام بها الكوماندوس الإسرائيلي لتحرير رهائن في مطار العاصمة الأوغندية، ودفعت مصر عددا من الشهداء سقطوا على أرض المطار، بجانب الإهانة التي لحقت بها نتيجة لنقص التنظيم، حيث أن فرقة الصاعقة، أو الفرقة 777، لم تكن تملك صورا للإرهابيين وبالتالي لم يكن في مقدورها أن تتعرف عليهم من بين الركاب العاديين على متن الطائرة المخطوفة بفرض تمنكها من اقتحامها، وهي مجازفة بأرواح بريئة. ولم يسمع المصريون، بالطبع، بتفاصيل ما حدث، وقام الإعلام، كالعادة، بتجريم الآخرين جميعا، وشُغل الناس بتسيير مظاهرات »عفوية« غاضبة في القاهرة تنادي: لا فلسطين بعد اليوم )..( وكان المؤسف أن المأساة لم تقابل بأي تعاطف عربي أو عالمي، وضاع دم يوسف السباعي هدرا ومعه مجموعة من شباب مصر، لأن هناك من اتخذ قرارات متعجلة نفذت في إطار من سوء التنظيم، ورأى فيها العالم اعتداء على دولة عضو في الأممالمتحدة، تحقيقا لأهداف محلية، وراحت الصحف الدولية )غالي ص 85( تقارن بين فشل لارناكا ونجاح عنتيبي، وأضيفت العملية إلى السجل الأسود الذي بدأ بالهجوم المصري الجوي على ليبيا. وكان سحْبُ السادات اعترافه بالرئيس القبرصي مهزلة ديبلوماسية لم يسبق لها مثيل، خصوصا وأن كبريانو هو وريث الأسقف مكاريوس، الذي كانت وقفته بجانب الحق العربي وقفة شامخة، بالإضافة إلى دوره الرائع في الحفاظ على وحدة الجزيرة القبرصية. وحاكمت قبرص الجناة وحكم عليهم بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد، واختفت إلى الأبد قصة الفرقة 777. ويقوم غالي بجولة إفريقية لاستجداء دعم القارة السمراء، ويعود ليقدم تقريره للسادات قائلا بأن : ))زعماء إفريقيا يُقدّرون مبادرته ولكنهم يريدون إبقاء النزاع العربي بشأن مبادرة السلام بعيدا عن قمة الخرطوم المقبلة )..( كان هناك اختلاف ملحوظ بين السادات وسلفه جمال عبد الناصر )..( كان عبد الناصر معاديا للاستعمار وللغرب بشدة، أما السادات فمعجب بالثقافة والتقاليد الغربية وعلى استعداد للتحالف مع أعداء الشيوعية )..( وكانت الدول الراديكالية بقيادة الجزائر )هواري بو مدين( وبينين )كيريكو( وليبيا )القذافي( ومدغشقر )راتسيراكا( تسيطر على مجرى المناقشات )..( كان هذا الاستقطاب أقوى انطباعاتي في الخرطوم )غالي ص 124( إذ كان في قدرة مجموعة راديكالية متماسكة تتحرك بسرعة أن تسيطر على ثلث أصوات أعضاء منظمة الوحدة الإفريقية، وهم يُشاركون في كل الاجتماعات ويسهمون في كل مناقشة ويتدخلون باستمرار، ويظلون جالسين في مقاعدهم حتى الفجر بدون أن يبدو عليهم التعب أو الملل، وفي نفس الوقت فإن الأغلبية الصامتة من المعتدلين )!!!( كانت تفتقر إلى الوحدة وإلى الالتزام، وتفضل الدردشة أثناء احتساء كوب من للبيرة، كانوا نادرا ما يأخذون الكلمة في الجلسات، وعندما يتكلمون تكون حججهم ضعيفة واقتراحاتهم غير موحدة وبياناتهم غير مقنعة(( وللتذكير فقد كان مؤتمر الخرطوم 1978 هو آخر القمم الإفريقية التي شارك فيها الرئيس بو مدين، الذي لم يكن يُخفي خيبة أمله من موقف الرئيس نميري تجاه مجمل القضايا المطروحة على القمة، التي نجحت في اختيار آدم كوجو أمينا عاما لمنظمة الوحدة الإفريقية، ولم يلتق بو مدين في المؤتمر بالرئيس المصري، وأحس الجميع بالإرادة الجزائرية في تفادي الرئيس المصري، وهو ما لم يغب عن السادات وضاعف من كراهيته للجزائر. وكان هجوم إسرائيل في مارس على جنوب لبنان ضربة شديدة لموقف مصر )غالي ص 89( وكان العالم العربي كله على يقين من أن إسرائيل ما كانت لتجسر على اختراق حدود لبنان إلا إذا كانت مطمئنة إلى أن حدودها الجنوبية مع مصر آمنة. ويحاول السادات البحث عن تحالفات جديدة، فيسافر إلى النمسا حيث كرايسكي، الذي عرف عنه تعاطفه مع القضية العربية، وكان من المقرر أن يلتقي في فيينا شيمون بيريز، رئيس حزب العمل الإسرائيلي وممثل المعارضة، والبعض في وطننا العربي لا يدرك بأن كلمات مثل السلطة والمعارضة تختفي من القاموس الإسرائيلي عند المواجهة مع العرب. ويروي كامل في مذكراته )ص 311( بأن السيدة جيهان قالت له : لا تتركه وحده مع هؤلاء الناس، إن الإسرائيليين في غاية الخبث والرئيس صريح وما في قلبه على لسانه، وسيعمدون حتما إلى الاستفادة من ذلك واستغلاله. ويقول هيكل أن الذي رتب الزيارة، متعاونا مع ذلك مع حسن التهامي (هو نفسه) كان كارل كاهان، وهو رجل أعمال نمسوي، تلقى مقابل جهوده عقدا بملياري دولار لتجديد شبكة الهاتف في القاهرة (عواصف ص 402) وقبل أن يعود السادات بدون أن يحقق شيئا ملموسا فكر في دعوة وزير الدفاع عزرا وايزمان للقاء معه لدق إسفين بينه وبين بيغين، وبالفعل جاء وايزمان وانفرد به نحو ثلاث ساعات )وكان الحديث بين الاثنين باللهجة المصرية التي يتقنها الإسرائيلي، وبدا أن من أسباب تعاطف السادات معه أنه يناديه بالعربية : يا ريّس، ولهذا يُعرّب اسمه فلا ينطقه إيزرا( ويروي هيكل أن السادات قال لوايزمان :اسمع يا عزرا، ما أفكر فيه هو سلام كامل بين مصر وإسرائيل، وهو تعاون في كل شيء، في الصناعة والتجارة والزراعة ..نعم في الزراعة، إنني على استعداد لأن أشق فرعا من النيل تحت قناة السويس ليصل إليكم في سيناء والنقب.