يُعلق هيكل قائلا على معاهدة السلام قائلا بأن توقيعها لم ينقذ جيمي كارتر، فسقط أمام رونالد ريغان، ولم ينجح السادات في انتزاع شيء من الرؤساء المتتاليين الثلاثة، نيكسون وفورد وكارتر، في حين أنه أعطاهم الكثير، ليس من أرصدة مصر وحدها، وإنما من الرصيد العربي كله، وساعد على محاولة كبح جماح الثورة الإسلامية في إيران، وحرّض عليها علماء الأزهر متسببا بذلك في سقوط هيبة الجامعة الكبرى كمرجعية إسلامية سنية، وانحصر وجودها بالتالي في كونها إدارة دينية مصرية لا تلزم غير المصريين المسلمين من السنة. ويجب أن نتذكر بأن الرئيس السادات سمح بإقامة الشاه المخلوع في مصر، بعد أن رفضه العالم كله بمن في ذلك حليفه الأول في واشنطون، وهو ما كان تنبأ به بو مدين في رسالته لكاسترو، بالإضافة إلى أن السادات سمح للقوات الأمريكية أن تنطلق في عملية إنقاذ الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران من قاعدة قنا المصرية، وهكذا كانت مصر، بتواطئها، شريكة في فشل العملية التي عرفت باسم الصحراء (Desert -1). وأذكر هنا بالدور الذي لعبته الجزائر لحل تلك القضية، والذي كان أول نجاح دولي تحققه جزائر الرئيس الشاذلي بن جديد، وكان من الرجال الذين بذلوا جهودا كبيرة في هذا المجال سفيرنا في طهران آنذاك عبد الكريم غريب، والذي كان على اتصال مستمر بوزير الخارجية محمد الصديق بن يحيى، الذي استقبل الأسرى في مطار الجزائر في نفس اللحظات التي كان ريغان يستهل رئاسته للولايات المتحدة خلفا لكارتر، الذي أصر الإيرانيون على ألا يعطوه لذة القول بأنه ساهم في الإنقاذ، عقابا له على العملية التي انتهت بمأساة أمريكية. ولقد قيل يومها أن الجزائر ساهمت في تأخير عملية الإنقاذ إلى حين انتهاء ولاية كارتر عقابا له على دوره في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتفريطه في الحقوق العربية، ولا أعتقد أن هذا أمر صحيح، لأن الذي فرط في الحقوق كان صاحب الحق نفسه وهو الرئيس المصري، ولم يكن كارتر ليستطيع أن يكون أكثر ملكية من الملك. ويدعي البعض بأن الفشل المصري مقابل النجاح الجزائري ترك مرارة في نفس بعض القيادات المصرية، وأعترف بأننا لم نسمع بذلك ولم نأخذه قط في حسابنا، ولا أعرف إذا كان الأمر كذلك على الجانب الآخر، حيث تزايد الظن، على ما يبدو، بأن الجزائر تتخذ موقفا معاكسا لكل الاتجاهات المصرية، وهو ما كان، في تصوري، إغراقا في البارانويا. وجاء الموقف من إيران التي أسقطت حكم الشاه ليضيف عنصرا جديدا من عناصر الكراهية، ومع ذلك أحسست بأنه ما زالت هناك مناطق ظل لم يتناولها أحد قبل اليوم، وهكذا عدت بالذاكرة إلى عدد من المعطيات التاريخية التي كان يمكن أن يكون موقف كل من البلدين متناقضا معها أو حولها. ففي منتصف السبعينيات، وعلى هامش قمة الأوبيك، رتب الرئيس هواري بو مدين، وبطلب من العراق، لقاء بين شاه إيران ونائب الرئيس العراقي صدام حسين، انتهى بتوقيع معاهدة 1975، وكان هذا أول تدخل للجزائر في قضايا تهم المشرق العربي، وقيل يومها أن مصر كانت غاضبة لأنها لم تستشر في الأمر كله، وبالتالي شعرتْ بأن ما حدث كان محاولة لتهميش دورها ولتجاوزها، وهو ما لم يكن صحيحا على مستوى الجزائر، ومن هنا لم يتوقف أحد عنده، ولكن يبدو أنه لم يكن هناك دخان بغير نار، وهكذا أضيفت المآخذ إلى الموقف الجزائري من اتفاقية كامب دافيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وكان هذا كله من الأسباب التي جعلت السلطة في مصر تنتهز كل فرصة لشحن الجماهير هناك بحجم من الكراهية يجعلها في مأمن من أي تأثر بالمواقف السياسية الجزائرية، خصوصا وقد غاب عن الكثيرين في الوطن العربي أن من خصائص الشعب المصري التفافه حول أي مصري يتعرض لأي نقد أو هجوم. والواقع أنه كان هناك أمر آخر نبه له هيكل وهو أن المعاهدة المشؤومة لم تكن بالدرجة الأولى صلحا مع إسرائيل، وإنما رغبة الالتحاق بالغرب، وهو يُذكر بقرار قمة بغداد تقديم دعم عاجل لمصر قيمته خمسة ملايير دولار، قال عنها السادات، الذي رفض استقبال الوفد العربي، لأحمد بن سودة، مبعوث العاهل المغربي : هل تظن أنها مسألة مال ؟ لقد انتهى الموضوع، ولست حريصا على البقاء في صفوفكم، ذاك عصر مضى، وأنا لا أريد أن أظل مع المتخلفين، وإنما مكاني هناك، مع المتقدمين [هيكل خريف الغضب - ص 120] وهنا أذكر بما سبق أن رويته عن فكرة نقل الجامعة العربية بعيدا عن مصر، والتي كانت فكرة أمريكية إسرائيلية تبناها السادات، وعمل على تحقيقها، وإن بيد عمرو )وليس عمرو موسى بالطبع( لكن ما لم يتوقف عنده الرئيس المصري هو موقعه بين المتقدمين الذين يريد أن ينضم إليهم، وهل هو جلوس على نفس المستوى أو انبطاحا عند الأقدام، وبغض النظر عن جحوده للحجم الهائل من الأموال العربية التي انهالت على مصر في عهده، وكان يصر على أن توضع في حساب خاص، ولا تحول إلى البنك المركزي، كما طالبت الكويت، وكان يُدرك أنه لا يستطيع إقناعالجزائر بنهجه أو بمنطقه. هل كان ذلك كافيا لكي يتحول النظام المصري إلى كتلة من الكراهية تعمل على استثارة الشعب المصري بأكمله ضد بلد شقيق، في حين لم تحدث إساءات سياسية من الجانب الجزائري تماثل إساءات من أطراف أخرى في المنطقة، أفضل ألا أسميها، وحتى مع الاعتراف بقصور الإعلام الجزائري غالبا وبتقصير الدبلوماسية الجزائرية أحيانا؟. وهنا أستأذن في وقفة توضيحية قصيرة. فعندما بدأتُ هذه الأحاديث كان هدفي أن أتعرف على السبب الحقيقي وراء الكراهية الغريبة التي واجهتنا بها مصر في منتصف نوفمبر 2009، وأشعلت شرارتها تعليقات من بعض أشباه الإعلاميين وجدت أمامها تربة مصرية مشبعة بالمواد القابلة للاشتعال، وأعترف أنني كنت من بين من فوجئوا لهذا الأمر كله، برغم أنني كنت أعرف خلفيات كثيرة كنت أتصور أن الزمن غطاها بغباره فضاعت ملامحها وضعفت شراستها وذابت ضراوتها، بفعل سنوات كثيرة تعاقبت فيها أجيال جديدة يمكن القول أنها بعيدة عن عُقد الماضي. ولقد كنت من بين من يظنون أن الشعب المصري يحمل للجزائر احتراما وتقديرا كبيرين، وممن يتصورون أن ذلك ما زال قائما حتى يومنا هذا، وأن مشاكل كامب دافيد والجدل حول القضايا العربية وتداعيات الموقف من الثورة الإيرانية كل ذلك كان محصورا في مستويات قيادية، ولم ينزل إلى مستوى النخب الثقافية والفنية، ناهيك عن النزول إلى مستوى الجماهير، وبالتالي فإن السقطات التي تعاملت بها الفضائيات المصرية الخاصة مع الجزائر، وخصوصا منذ أكتوبر الماضي، كانت استثناء يؤكد القاعدة. لكن ما عشناه تجاوز أسوأ التوقعات، ومرة أخرى أحسست أن فهمي قاصر عن إدراك كل الخلفيات، رغم الطريق الطويل الذي قطعته منذ أسابيع باحثا ومنقبا عن التفاصيل. ولقد كان من السهل أن نقول بأن السلطات هناك، وهي تعاني، كمعظم السلطات العربية الأخرى، من تناقص شعبيتها وهزال الالتفاف الشعبي حولها، سخرت كل طاقتها لتجنيد الجماهير المصرية التي يجمعها، وأيضا كبقية الشعوب العربية، أي انتصار. وكان يمكن أن نضيف إلى هذا أن النظام المصري أعد العدة لانتصار كروي هائل يُمكنه من تنفيذ مخطط سياسي طموح، ليس من حقي هنا أن أخوض في معطياته، رغم أنها هناك على كل لسان. لكن هذا كله لا يكفي لتفسير حالة العداء التي تجاوزت حتى حجم العداء للعدو التقليدي للأمة العربية، واضطررت للرجوع إلى أحداث 1978 باحثا عن الخلفيات التي أدت إلى ذلك المخزون الكبير من الكراهية، والذي تفجر بشكل لافت للنظر لم نحسن فهمه في حينه، وكشف عن إرادة مؤكدة على مستوى القيادة المصرية لتشويه كل العرب، وخصوصا الجزائر، بكل ما تمثله وترمز له، إذ أن تقدير الشعب المصري للشعب الجزائري كان بدون حدود، واحترامه لكفاحه كان فوق كل تقدير، وكان النظام المصري يحرص في مرحلة معينة على تقديمه كجزء من إنجازاته، بالمبالغة في الحديث عن الدعم الجزائري لمصر ولكفاحها، والدعم المصري للجزائر ولثورتها. ولقد كان الأشقاء في مصر هم من ركّزوا على المواقف النبيلة للجزائر تجاه النضال المصري، ولم تكن الجزائر هي التي رددت ذلك وراحت تجتره بمناسبة وبغير مناسبة، وكان من المواقف ما لا يعرف عنها الشعب الجزائري الكثير، كناقلات أنابيب الغاز السائل التي كانت تزود مصر بحاجتها من *البيوتاغاز* خلال مرحلة حرب أكتوبر، والتي تذكرتها اليوم وأنا أسمع عن أزمة الغاز في مصر، والتي ترتفع أصوات تتهم الجزائر ظلما بأنها تقف وراءها. وأكاد أحس بأن المال يقف وراء كل ذلك، وليس اعتبارات السياسة وحدها. وأضطر إلى العودة ثانية إلى السبعينيات، أو المرحلة التي أسماها هيكل مرحلة *أوهام عصر البترول* التي لم تنحصر في مناطق إنتاجه، بل كان هناك )) من وجدوا أنه من الأفضل أن يرحلوا هم إلى البترول بدلا من الوقوف في انتظاره )هيكل - حرب الخليج ص 108( ويقول هيكل في كتابه الشهير *خريف الغضب* أنه ما بين 1974 و 1976 كان هناك تسعة ملايين عربي يتحركون وراء الفرصة السانحة في الخليج وفي العراق (..) ولم يجئ مال البترول وحده (..) وإنما جرّ وراءه عددا من القيم، قيم الربح السريع والاستهلاك الزائد ومداراة الغنى والخضوع السهل لنزواته ورغباته((.