نظرت إلى جذع شجرة، بدا ليَّ الجذع سميكا متماسكا، وأطلقت العنان لخيالي، ما عسى أن يكون هذا الجذع في مستقبل الأيام، هل سيصير إلى رماد بعد أن تأكله النار، ويذهب هذا الخشب ذرَّات مهملة تذروها الرياح، أم أن خشابا يهوي عليه بمنشاره، ويبعه لنجار فيحوله إلى أثاث يسر الناظرين؟ وما عسى أن يكون هذا الأثاث، أيكون خزانة تودعها عذراء ما تتبرج به من ألبسة وحلي، أم مائدة تحفل بما يشتهى ويلذ من المأكل والمشرب، أم سيحول النجار هذا الحطب إلى مكتب وكرسي يجلس عليه كاتب يوع أوراقه بنات أفكاره؟ قد يتحول هذا الخشب إلى أعمدة وسقف لكوخ حقير، تأوي إليه عائلة فقيرة، تتقي فيه الحر والقر وعيون المارة. وفي كل حال، وأيا كان مآل هذا الخشب فإنه لا أحد سيذكر جذع الشجرة، ولكنهم سيذكرون طويلا، الخزانة أو المائدة أو المكتب أو الكوخ، فالناس لا يذكرون إلا ما كان وظيفيا، وهم معذورون في ذلك، فربما كان أصل ما بين أيديهم من أثاث، مصدره أكثر من جذع وأكثر من شجرة، ثم أن هذا الخشب احتاج إلى مسامير تشده، ليحقق الوظيفة التي نراها.. وأغرب من هذا، أن ذلك الأثاث لو تم تفكيكه، فلن يسمى سوى خشبا، ولو أعيد تركيب بعض أجزائه في أثاث جديد فسيأخذ حتما مسمى الوظيفة الجديدة، فلو ركبنا رجل كرسي في مائدة، فإن تلك الرجل ستصبح رجل المائدة.. كذلك حياة المجتمع، لا يمكن فهمها خارج الوظيفة العامة، فالأفراد الذين اختاروا أن يفكوا رباطهم بمجتمعهم، وأن يقوموا بوظيفة ما في مجتمع آخر، فإن نسبتهم إلى مجتمعهم لن تكون إلا من باب التذكار، تماما كأن يقال أن رجل المائدة كانت في الكرسي.. صحيح أن كل عاقل يسلم بهذه الحقيقة، إذا ما تعلق الأمر بالخشب والكرسي والمائدة، لكن في حياة البشر تتداخل المفاهيم ويصعب الاستيعاب والتسليم، ومرد ذلك هو عدم التسليم بالجانب الوظيفي في المجتمع المتخلف.. فالمجتمعات المتطورة لا تأخذ ملامحها من الانتساب لحيز ترابي، يجتمع فيه أفراد من البشر، لأنه في تلك الحالة لن يعدو أن يكون أشبه بكيس كريات، تتناثر في كل وجهة إذا ثقب الكيس، وهي على تلك الصورة لا تؤدي أية وظيفة، فالكيس عبارة عن وعاء جامع وحسب، حتى لا نقول أنه محبس أو سجن لتلك الكريات، لو كانت تعقل أو تشعر لانفلتت منه.. فالانتماء الحقيقي للمجتمع يكون من خلال وظيفة، ويرتبط الأفراد بشبكة علاقات متوازنة، ومنظومة فكرية تعزز ذلك الانتماء، وتكون الفنون والآداب تعبيرا صادقا عن أفراح وأتراح المجتمع، وإن تعددت أو اختلفت طرائق التعبير والإبداع، ومنه كان مفهوم الأمة يقتضي التحقق بشروط، هي قيمة مضافة لمجرد الانتماء للتراب، فالدين واللغة والتاريخ المشترك، كلها قيم حاسمه في تحديد الوظيفة.. لنقف مثلا، عند الرواية المكتوبة بالفرنسية، ويحاول بعضهم أن يسميها أدبا جزائريا، معتمدا في تصنيفه على تكية واحدة، هي أن أصل كاتبها جزائري، بمعنى الانتماء للتراب أو الانتماء بالوراثة، للنظر إلى محتوى هذه الرواية، ولغتها في التواصل، فالمؤلف سيجد نفسه يستحضر صور المجاز والبديع في اللغة التي يستعملها، فالإنذار لن يعني إلا قرع الأجراس، وتفسير المظاهر سينساق وراء ما يشبع روح المتلقي في لغته.. وهنا أيضا نقف على خط فارق، بين مثال ألواح الخشب وهذا الوافد على ثقافة أخرى، إنها محنة ومأساة صامتة، عبر عنها المرحوم مالك حداد بالمنفى، عندما أرسل صرخته الشهيرة »الفرنسية منفاي«، والمنفي محروم من مجتمعه الأصلي، ومغترب عنه، وإن كان الاغتراب طوعا، وهو محروم من الاندماج التام في المجتمع الآخر، لأنه مهما علا فليس ابننا سليلا لذلك المجتمع.. غربة مضاعفة، تكوي أصحابها وتعذب ضمائرهم، لكن أغلبهم لا يملك شجاعة مالك حداد، فيريح ضميره بالاعتراف، فيكابر ويناور، ويسب الدهر ويلعنه، ويلعن أهله وبني قومه، فهم لم ينساقوا خلفه ليتبعوه في كريق الشوك والعثار، ويلعن في همس أولئك الذين ظن أنهم سيحتفلون به، ويهللون باسمه، فلا ينال منهم إلا ابتسامات صفراء تخفي احتقارا، لأن الكريم هو الذي يكرَّم في قومه، فلا تجد له ذكرا في برامجهم الدراسية، ولا في المنتديات الراقية، ولكن »وَلاتَ حين مَنْدم« !