منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ التخطيط، على مستوى مخابر البحث العالمي، لتمكين الإسلامويين المتطرفين من السيطرة على بيوت الله والجامعات ومجالات الثقافة والفكر في البلاد العربية. دراسات عديدة، أنجزت حول الظاهرة الإسلاموية، بينت كيف أن الصحافة الغربية هي من روجت لخطاب وصور وممارسات و»جهاد« فئة فرضت، بالعنف والترويع، قراءتها المتخلفة والمتطرفة للدين الحق. سياسيون غربيون كبار شجعوا، ماديا ومعنويا وفي أوقات معينة، هذه الفئة رغم أنها تتواجد بحكم إيديولوجيتها وممارساتها على الطرف الآخر المناقض لكل ما يتعلق بالديمقراطية واحترام الآخر والقبول بالحق في الاختلاف، الخ. الكثير من المفكرين العرب لم يدركوا، في البداية، خلفيات تعامل الغرب مع دعاة القراءات المتخلفة والمتطرفة للإسلام؛ ومع الوقت بدأت تتضح الصورة، حيث تبين أن هذه الفئة قدمت، بجهلها وتطرفها، خدمات جليلة للغرب، نذكر منها: أولا، أوقفت المد الإسلامي في الغرب؛ فمنذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت تظهر الدراسات والكتب التي تتحدث عن »الدين الإسلامي الذي يتمدد«، والتي كانت تشير كلها إلى أن جل الديانات تتقلص وأن الإيديولوجيات (بما فيها الشيوعية) تسقط، والإسلام وحده هو من يكسب يوميا الأتباع الجدد، خاصة في أوساط المفكرين والباحثين. في فرنسا وحدها، أكدت دراسة، أنجزت في نهاية نفس العقد، بأن أكثر من مائة خبير وباحث وأستاذ جامعي من أصول فرنسية تحولوا إلى الإسلام. بعد المجازر والفظائع التي نفذتها الفئة الضالة، في العديد من دول العالم ومنها الجزائر، باسم الدين الحنيف، توقف تمدد الإسلام في الغرب لتبدأ حملات التبشير في عقر دار الإسلام التي بدأت تشهد تحول العشرات من الشباب المسلم نحو المسيحية. ثانيا، أضعفت هيبة الدولة الوطنية وخربت ما أنجزنه هذه الدولة بالذات على مدار عدة عقود من الزمن، كما عطلت مجهودات التنمية في مختلف المجالات. ثالثا، أحدثت شرخا كبيرا في المجتمع ستبقى آثاره لمدة طويلة إن هو لم يعالج بالكثير من الحكمة والشجاعة وعلى أساس دراسات وبحوث الخبراء. رابعا، فتحت المجال للجريمة المنظمة والفساد بكل أنواعه. خامسا، عطلت الإصلاح السياسي الذي كان من المفروض أن ينقل الدول العربية نحو التعددية الحقيقية والفصل بين السلطات وحرية التعبير والتداول الحر على السلطة، الخ. سادسا، أعادت بعض فئات المجتمع، فكريا، إلى مرحلة ما قبل مجيء الإسلام، أو على الأقل –بالنسبة للجزائر- إلى ما قبل بداية الثورة التحريرية الكبرى، فنحن نشهد اليوم عودة الدراويش إلى الحياة العامة، كما نلمس عودة النشاط لأجساد هياكل وأنماط دينية واجتماعية وجدت قبل مجيء الاحتلال واستعملتها الإدارة الفرنسية لتنويم الشعب الجزائري وكنا نعتقد أن دورها قبر مع قيام الثورة التحريرية التي فضحت أدوارها المشبوهة. هذا ما جناه دعاة التطرف باسم الإسلام، أومن اختصروا كل عظمة الدين الإسلامي في مجرد مظهر خارجي مفرغ من لب وجوهر الرسالة المحمدية. بعد أن هدأت الأمور، بفضل تضحيات الشهداء الذين واجهوا المشروع التهديمي، وبعد أن لفظ الناس الإرهاب، يبدو أن نفس المخابر التي شجعت ذلك النوع المتطرف تلجأ اليوم إلى مشروع آخر هو أكثر خطورة من الإرهاب. إنه مشروع التفتيت. يبدو أننا في زمن التفكك بالنسبة للمنطقة العربية كلها. البداية كانت من العراق، الذي أنشطر، بمجرد سقوط السلطة المركزية، إلى ثلاث مقاطعات (شيعة، سنة وأكراد) متقاتلة متناحرة. بعد العراق، كان السودان الذي ربطوه بمعاهدة تقوم السلطة السودانية بمقتضاها بتنظيم استفتاء، مع بداية السنة المقبلة، لصالح أبناء الجنوب السوداني يخيرون فيه بين البقاء ضمن الدولة الواحدة أو الانفصال. كل المعطيات، تقول أن نتيجة الاستفتاء ستكون لصالح الانفصال، خاصة وأن أصوات عديدة بدأت ترتفع من منطقة دارفور لتطالب، هي الأخرى، بالاستقلال. إذن السودان يتعرض، تحت أنظار العرب وموافقتهم بالصمت أو التآمر، إلى التفتيت إلى ثلاث دويلات. اليمن السعيد، يبدو أنه لم يعد كذلك تحت راية الوحدة، فظهر الحراك في جنوبه، وانتقل بعض القوم من المطالب السياسية والاجتماعية إلى المطالبة باستقلال الجنوب والعودة إلى أيام اليمنين. في جو حمى التقسيم هذه، خرج علينا، الأسبوع الماضي، ومن باريس، عاصمة الجن والملائكة، حيث يقيم معظم وقته، من يسمى بفرحات مهني بإعلان يقول فيه أنه شكل "حكومة مؤقتة قبائلية". فرحات مهني هذا يحظى بدعم واضح من السلطات الفرنسية، حيث سبق أن استقبل، كرئيس لحركة الحكم الذاتي لمنطقة القبائل، في وزارة الخارجية الفرنسية وفي الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي). العجيب أن فرحات مهني، المدعم من طرف دولة ديمقراطية ولائكية، يطرح قضية الحكم الذاتي لمنطقة القبائل، على أساس عرقي مع أن المعروف، في الغرب وكما قال السيد آيت احمد رئيس جبهة القوى الاشتراكية، أن كل ما يقوم على أساس عرقي فهو عنصري. العرقية هي إذن كالعنصرية، والعنصرية تؤدي مباشرة إلى التطرف، والتطرف يؤدي إلى الإرهاب. في هذا المستوى يتساوى فرحات مهني مع عنتر زوابري: كلاهما أراد تدمير الدولة الجزائرية الواحدة والموحدة والعصرية. سنعود لدور فرحات مهني في مشروع تقسيم الجزائر في الأسبوع المقبل.