انتهينا، في الأسبوع الماضي، إلى أن كلا من عنتر زوابري وفرحات مهني يلتقيان حول نفس المشروع الواحد: كلاهما أراد تدمير الدولة الجزائرية الواحدة والموحدة والعصرية. الأول لجأ إلى الإرهاب لتدمير الجزائر وإعادة تشكيلها وفق نموذج غير موجود إلا في خياله أو على محططات المخابر التي كانت تريدها دولة متخلفة ومتطرفة وظلامية ومتجاهلة لكل تاريخها وتضحيات شهدائها من أجل بناء الدولة الحديثة؛ أما الثاني فقد أولى ظهره لكل التراث الحضاري للجزائر ولوحدتها التي تشكلت عبر قرون من الصراعات التي خاضها أبناء هذه المنطقة من شمال إفريقيا ضد كل الغزاة الذين أرادوا الاستيلاء عليها أو تدميرها أو ربطها ببلد الاحتلال واعتبارها جزءا لا يتجزأ منه. هو أعلنها صراحة بأنه يريد الحكم الذاتي لمنطقة القبائل، والحكم الذاتي، حسب التجارب السابقة في هذا المجال وفي جهات عديدة من العالم، لن يكون سوى مرحلة أولى تطور وبسرعة، وفي ظروف الحرب الأهلية، إلى استقلال كامل. هذا ما يريده فرحات مهني: تفتيت الوحدة الوطنية لإقامة دولة قبائلية غير موجودة إلا في خياله أو على خطط المخابر الغربية التي تبرمج لإدخال الجزائر في صراعات عرقية لن تخرج منها سالمة. لقد فشل مشروع الدولة الظلامية، فهل يفشل مشروع التقسيم خاصة وأن صاحبه مدعم من طرف قوى عظمى يستقبل فيها على أعلى المستويات؟ هذا السؤال لا بد أن يطرح، ولا بد من البحث في خلفياته وفي الآثار المترتبة عنه؛ كما لا بد أن يدرك كل من له ذرة من الوطنية بأن الأمر يحمل شيئا من الخطر على مستقبل وسلامة الجزائر. أن أخطر ما يبلى به أي بلد هو وجود حركات تدعو إلى الصراع على أساس عرقي، وتثير النعرات من خلال الإيحاء بأن المنطقة كلها مهمشة وأن ما يعانيه أبناؤها من حرمان هو بسبب انتمائهم لعرق معين أو دين معين أو لأن الجهة كلها مغضوب عليها. مواجهة الإرهاب، كخطر يهدد الدولة، هي أسهل بكثير من مواجهة كل تمرد يكون على أساس عرقي، لأن الإرهاب كان عاما وضرب الجميع وواجهه الجميع، أما التمرد العرقي فيتعلق بمنطقة أو بمجموعة سكانية معينة لا يمكن بأية حال مواجهتها قتاليا، وفرحات مهني وكل الدول الغربية ومعها إسرائيل يعرفون ذلك ويراهنون على مشروع تقسيم هذا البلد الذي يساوي بمساحته أربع مرات دولة فرنسا، ويزعج بمواقف شعبه كل دعاة التطبيع في المنطقة العربية، ويقلق بسياسته الرافضة للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول كل القوى العظمى التي أنشأت قيادات عسكرية بهدف التدخل للسيطرة على منابع الثروة. بالعودة إلى السؤال المطروح أعلاه: هل يفشل مشروع التقسيم؟، نقول أنه رغم المعطيات الكثيرة والأساسية التي تصب، الآن ولسنوات مقبلة، في اتجاه تدعيم الوحدة الوطنية وليس العكس فأن ذلك لا يعني بأن الفكرة لن تجد طريقها إلى التنفيذ، على المدى البعيد؛ كما أن أصحاب هذا النوع من المطالب كثيرا ما يتمكنون، كما فعل الإرهاب، من تجنيد مئات الشباب البطال والثائر على الأوضاع وكل أنواع الحقرة التي يشعر بها، والفاقد، في نفس الوقت، للقدرة على التمييز بين الجيد والرديء. يومها ستجد الدولة نفسها في مواجهة فئة من أبنائها ينادون بالانفصال، ويومها أيضا ستجد الدولة نفسها أمام ضغوطات كل المنظمات الغير حكومية والهيئات الدولية التي ستتهمها بالتصفية العرقية. قد يرى البعض في هذا الكلام أنه مجرد سيناريو خيالي لا يمت للواقع بصلة، وأن فرحات مهني هو مجرد طفل سياسي يستعمل، من طرف فرنسا خاصة، للضغط على الحكومة الجزائرية وأن لا وجود فعلي له ولأمثاله في منطقة القبائل. هذا الكلام صحيح، ومع ذلك فالاحتياط هو من أهم واجبات السلطة السياسية خاصة وأن علة وجود أية سلطة هي الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية والتهيؤ للمستقبل؛ سنعود لقضية كيف نحتاط، في الأسبوع المقبل. المتفائلون بفشل مشروع فرحات مهني يبنون تحاليلهم على النقاط القوية التالية: أولا، الوحدة الوطنية الجزائرية، ليست حديثة بل تحققت عبر قرون من الزمن، وقد عرفت المنطقة هجرات عديدة مما جعل البربر والعرب يختلطون ويمتزجون مع بعضهم البعض، ولعل الكثير من المقيمين في منطقة القبائل هم من أصول عربية، كما أن المقيمين في مناطق أخرى، منذ قرون، قد يكونون نزحوا إليها من منطقة القبائل. ثانيا، أن الثورة التحريرية الكبرى، كانت شاملة لكل الجزائر، وجعلت أفرادها يقاتلون تحت أسماء غير أسمائهم وفي أماكن غير قراهم ومداشرهم. كل وحدة من الوحدات القتالية للثورة كانت مشكلة من مجاهدين من مختلف جهات الوطن ولا أحد كان له الحق أن يسأل من أين جاء رفيقه. الثورة قضت على النزعة الجهوية والنعرات القبلية. ثالثا، أبناء القبائل المعروفون بحيويتهم وإقبالهم على النشاط التجاري خاصة، هم موجودون اليوم في كل جهات الوطن ولا تكاد تجد مدينة واحدة في الجزائر لا يوجد فيها قبائلي أو أكثر يمارس التجارة، وهؤلاء يعرفون جيدا بأن الجزائر كلها لهم وبالتالي لن يقبلوا بالانكماش في ثلاث ولايات على أكبر تقدير: تيزي وزو، بجاية وبويرة. رابعا، مهما يقال في المدة الأخيرة عن الشباب الذين غيروا دينهم والذين لا يقبلون على تعاليم الدين، فأن منطقة القبائل تبقى جد مرتبطة بالإسلام، فلا تجد مدينة أو قرية بدون مسجد كما أن أكبر عدد من الزوايا موجود في ولايات بجاية وتيزي وزو. المفكر الجزائري الكبير مولود قاسم نايت بلقاسم، رحمه الله، كان من القلائل الذين أدركوا أهمية الدين الإسلامي في حياة القبائل وقد بذل مجهودات جبارة لتصفية الدين الحق مما ألصق به من شوائب وكان يدرك جيدا بأن الدين الإسلامي هو روح مواطني هذه المنطقة وبدونه فسيكونون مفرغين من روحهم، كما انه إسمنت الوحدة الوطنية. خامسا، منطقة القبائل أمدت الجزائر بقادة كبار، كان لهم شأنهم ودورهم في مجرى تاريخ الجزائر ككل. هؤلاء العظماء، فضلوا باستمرار الوطن على الجهة، والدولة على العرش. يكفي أن نذكر من هؤلاء: عميروش شهيد الجزائر الذي يريدون تحجيمه في القبائل وحدها، آيت أحمد الذي كان من مفجري الثورة الكبرى، عميرة الذي فضل الجزائر على الديمقراطية، مولود قاسم الذي ترك كما هائلا من الكتابات والأفكار؛ هؤلاء وغيرهم، فهم كثيرون واجهوا جحافل الجيش الفرنسي من أجل الجزائر كلها. لا نتصور أن أبناء من خاضوا أعنف المعارك ضد الجيش الفرنسي لاستعادة السيادة الوطنية يقبلون اليوم بقطعة من دولة جاهد الآباء من أجلها كاملة غير منقوصة. لكل الأسباب السابقة ولغيرها، يمكن أن نتفاءل ونقول بان أبناء القبائل لو خيروا بين دولة قبائلية والجزائر لاختاروا الجزائر. مع ذلك لا بد من اليقظة تجاه هذا النوع من المطالب الانفصالية. نواصل، في الأسبوع المقبل، حول كيفية قبر فكرة الانفصال.