قد يسجل التاريخ أن الكثير منا تعامل بمنتهى السذاجة مع ما اصطلح على تسميتها بثورة الشارع العربي، فالتسليم بأن الحاصل من احتجاجات تنتقل من بلدة إلى أخر، هي »صحوة« يسميها البعض بالديمقراطية أو حتى بالإسلامية حسب البعض الآخر، تكذبه العديد من الشواهد، والأصح ربما هو التسليم بأن الاستبداد المستشري في الكثير من الدول العربية وتطلع الشعوب في هذه البلدان إلى الحرية والتخلص من فراعنة هذا العصر، التقت في مفارقة عجيبة مع سيناريوهات تطبخ على نار هادئة في الولاياتالمتحدةالأمريكية بمشاركة الكيان العبري ومباركة القوى الغربية الفاعلة، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، ولعل تبشير وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بعاصفة سياسية تضرب الشرق الأوسط، ومطالبتها بالإصلاحات السريعة، يحمل أكثر من معنى ويجيب على الكثير من الأسئلة. وإذا بدأنا بشواهد هذا السيناريو نلاحظ جليا بأن ما فعلته الولاياتالمتحدةالأمريكية وحتى فرنسا وأوربا عامة لما كان الزلزال الشعبي يهز عرش بن علي في تونس هو التأكيد على حق الشعب التونسي في رسم مستقبله بيده من دون تدخل أي قوة من القوى الفاعلة على المسرح الدولي، وتشير الكثير من المعطيات التي توفرت عما اصطلح على تسميتها ب »ثورة الياسمين« أن بعض المليشيات التي كانت تجوب الشوارع وتزرع الرعب وتعمل على تعميق الفتنة ربما تتبع بشكل أو بآخر لجهات استخباراتية وأمنية غربية وإسرائيلية، ثم إن ترك بن علي يسقط كأوراق الخريف اليابسة، بعدما تربّى في حضن فرنسا على الأخص، أمر يطرح الكثير من التساؤلات، ونفس هذه التساؤلات تتكرر في الحالة المصرية مع بعض الفوارق المرتبطة بطبيعة الاختلاف بين تونس ومصر، فمصر، وبحكم حجمها الجغرافي والديموغرافي والسياسي والتاريخي ودورها الاستراتيجي في معادلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والمهمة الموكلة لها لضمان أمن الدولة العبرية من خلال إطالة عمر ما يسمى بمشروع السلام في المنطقة، يجب أن تعامل معاملة خاصة، بحيث يحصل التغيير لكن من دون أن يفر مبارك ورموز الحكم في جنح الليل إلى خارج البلاد، فأي فرار محتمل لمبارك وحاشيته قد يعني الفوضى التي تعني بدورها تضييع خيوط التحكم في الأزمة المصرية مما قد يفرخ قوى سياسية مناهضة للغرب تجعل مصر تعود إلى حظيرة القومية وقيادة العالم العربي في مواجهة محتملة مع إسرائيل مستقبلا كما كان الحال في عهد الراحل جمال عبد الناصر. هناك إذن أشياء كثيرة تؤكد بان »ثورات الشارع العربي« هي حركات مصطنعة، فهي استكمال لمشروع الشرق الأوسط الجديد بوسائل أخرى، أي من دون وسائل الغزو العسكري التي أغرقت أمريكا في وحل العراق، وتسريبات »ويكيليكس«، واندلاع الاضطرابات بكل متسلسل في أكثر من بلد عربي لم يكن مجرد صدفة وإنما أمر مخطط وهو ما سينكشف لا محالة في المستقبل القريب أو البعيد. اللافت ربما هو أنه لأول مرة تلتقي إرادة الشعوب العربية مع مخططات المخابر الأمريكيةوالغربية، وإن كان الهدف والمبتغى مختلف، فالغرب يريد التخلص من مستبدين انتهت مهمتهم وتحولوا إلى عوامل هدامة لإستراتيجيته وأسباب لتصاعد وتيرة التطرف الديني وتنامي الخطر الإرهابي، والشعوب العربية تتطلع إلى حياة الكرامة، وإلى العيش في ظل الحرية وان تنعم بالديمقراطية وتعبر عن مواقفها و أرائها، وتتطلع أيضا للتخلص من رؤوس الفساد الذي ينهش لحمها ومن الكوارث الاقتصادية التي تحول دون حصول التقدم والرقي والتكفل بالحاجات الضرورية للمواطن في مجال التشغيل والسكن، فما أحوج هؤلاء إلى رؤية سماءهم صافية لا تكدرها غيوم حكام ظالمين لا يفقهون إلا السطو والاستبداد والقهر وامتطاء ظهور شعوبهم المغلوب على أمرها، ولا يفقهون إلا تزوير إرادة الشعوب في استحقاقات انتخابية صورية والتمديد والتوريث، وما أحوج الغرب أيضا إلى أنظمة جديدة تتمتع ولو القدر من المصداقية الشعبية قد تكفل لهم تنويم الشعوب العربية لعقود، وتنزع عن أمريكا وحلفائها تهمة رعاية وحماية المستبدين.