لا تزال الاحتجاجات تهدد الاستقرار، خاصة في ظل حركة الشارع التي تجتاح العديد من الدول العربية على غرار مصر. ويبدو أن التهديد بالخروج إلى الشارع، وتنامي ظاهرة الانتحار على »الطريقة البوعزيزية«، تحول إلى أشبه بالكابوس الذي يقض مضاجع الجميع، في وقت تتحرك فيه بعض أوجه المعارضة للاستثمار في الغضب الاجتماعي وتحوّله إلى سلاح فتّاك يوجه في وجه السلطة، بل وفي وجه استقرار البلد برمته. شرعت وسائل الإعلام في الترويج لتغيير حكومي استنادا إلى بعض المصادر التي توصف بالمطلعة والمقربة من محيط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتحدثت عن تعديل وزاري جزئي يمس بعض الحقائب التي لها علاقة بالتكفل بالمصالح العاجلة للمواطنين، وإن كانت مصادر أخرى تتوقع أن يجري رئيس الجمهورية تعديل جذري للحكومة يمس منصب الوزير الأول، بحيث تسند هذه الحقيبة الهامة، استنادا إلى ببعض التسريبات، إلى أحد الوجوه في الحكومة الحالية، حتى وإن رأى البعض في ذهاب أويحيى نوع من المبالغة في الظرف الحالي، فإن لجوء الرئيس إلى هذا الخيار يبقى قائما انطلاقا من الإستراتيجية المعتمدة التي تجعل من اللجوء إلى أمين عام الأرندي مسألة ظرفية تكون خصوصا في المراحل التي يراد فيها اتخاذ إجراءات قاسية أو اللجوء إلى قرارات غير اجتماعية. وبغض النظر عن صحة الخبر من عدمه فإن التعيير الحكومي قد يشكل أحد الخيارات المستعجلة للرئيس بوتفليقة، والهدف هو بطبيعة الحال امتصاص الغضب الاجتماعي المتصاعد، رغم تجاوز الصدمة الأولى المتمثلة كما هو معروف في الاحتجاجات العنيفة التي مست 20 ولاية منذ أيام، فالتغيير الحكومي قد يعطي الانطباع بأن السلطة تتعامل ايجابيا مع مطالب المواطنين، ويوحي أيضا بأن هناك رغبة في التغيير ومعالجة النقائص التي تعاني منها المنظومة السياسية والاقتصادية فيما يتصل بعملية التنمية، والتكفل بالانشغالات المستعجلة للمواطنين المتعلقة بأسعار المواد الأساسية وبالسكن..الخ لكن ومن ناحية أخرى فإن السلطة لم تنتظر التغيير الحكومي لمعالجة هاجس الاحتجاجات العنيفة التي تهدد العالم العربي بأكمله، فمنذ الاحتجاجات الأخيرة اتخذت الحكومة العديد من التدابير أهمها دعم المواد الاستهلاكية الأساسية للحفاظ على أسعارها السابقة، كما كان الشأن بالنسبة لمادتي الزيت والسكر، فيما تتجه وزارة التجارة نحو تسقيف أسعار المواد الغذائية لتفادي ارتفاعها المفاجئ كما حصل مؤخرا. قد لا يدرك المواطن العادي خبايا الاقتصاد، ولن تقنعه التقارير التي تصدر هنا وهناك عن حالة الاقتصاد، لكن هذا لا يمنع من القول بأن هذا الاقتصاد، يتطور في الاتجاه السليم رغم العوائق الكثيرة التي لازال يواجهها، والمشاكل العويصة التي يتخبط فيها باعتباره اقتصادا ريعيا يعتمد بشكل كبير جدا على عائدات النفط، فهذا صندوق النقد الدولي يثمن المجهودات التي تبذلها الحكومة الجزائرية لتحسين نوعية الإنفاق العمومي ومواصلة إصلاحات نظام الميزانية، ويدعو الجزائر إلى تنويع اقتصادها وتقليص نسبة البطالة بين الشباب. وما من شك أن البطالة تشكل التحدي الكبير الذي يواجه الحكومة وهو ما جعل الولاة يراسلون وزارة الداخلية بغية البحث عن حلول ناجعة لمشاكل الشغل التي قد تفسر حالات الانتحار على طريقة محمد البوعزيزي، الشاب الذي ألهب انتحاره كل تونس وأرغم الرئيس بن علي على الفرار بجلده نحو السعودية. الحكومة تتعامل بجدية مع ظاهرة الانتحار مخافة من أن تؤدي إلى عودة الاحتجاجات العنيفة إلى شوارع الجزائر، فما يحصل في مصر، خاصة بعد جمعة الغضب الذي أحرق مصر وأدخلها في احتجاجات غير مسبوقة، يؤكد بأن العالم بالعربي كله معرض لثورات على طريقة ما اصطلح على تسميتها ب »ثورة الياسمين« في تونس التي قلبت الوضع في هذا البلد رأسا على عقب. لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن الوضع في الجزائر لا علاقة له بالوضع في تونس أو مصر أو العديد من الدول العربية الأخرى التي تقدم للمواطن البسيط العصا، بدلا من أن تحل مشاكله المستعصية. فإذا كانت ثورة الياسمين قد اندلعت بسبب دكتاتور تونس الذي أهلك الزرع والنسل في هذا البلد الذي يقتات فقط على السياحة، فإن »ثورة الكرامة« في أرض الكنانة هي ثورة على دكتاتورية لا تقل قسوة، وعلى مساعي التوريث وعلى سياسة الانبطاح أمام الكيان الصهيوني والمشاركة في الجرم المرتكب على أهل غزة، والتأمر على الأمة برمتها، وعلى سياسة البطش والتجويع التي يمارسها نظام مبارك ضد أكثر من 80 مليون مصري يعيش السواد الأعظم منهم حياة الفاقة. الجزائر تخرج لتوها من مرحلة من العنف الإرهابي الأعمى الذي دمر البلد وقتل ورمّل الآلاف، مرحلة ضاعت فيها بوصلة البلد التي لم تسترجع إلا بفضل سياسة المصالحة الوطنية التي قضت على سياسة »الكل أمني« التي ساهمت في تضييع فرص الحل في البلد، فالجزائر تعيش منذ سنة 1999 مرحلة من استعادة الأمن والكرامة واستعادة الاستقرار وعودة التنمية، مرحلة تسمى بحق مرحلة البناء وترميم ما دمر، فالانجازات إلى تحققت في كل المجالات خلال العشرية الأخيرة من خلال مخططات تنموية صرفت عليها ملايير الدولارات، تجعل المواطن البسيط يحس فعلا بأن وضعه يسير نحو الأحسن، وهو ليس بحاجة للعودة إلى سنوات الدم والدموع، وسنوات الدمار، وحتى محاولات الاستثمار التي تقوم بها بعض أوجه المعارضة للغضب الاجتماعي ظهرت حدودها، بل منيت بالفشل الذريع كما بدا جليا خلال المسيرة الفاشلة التي حاول حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية تنظيمها بالعاصمة. والواقع أنه من الصعب الحكم على خلفيات الاحتجاجات التي تجتاح العديد من الدول العربية، خاصة في ظل وجود طرحين، طرح يرى بأن العنف الاجتماعي إنما هو ثورة عفوية انفجرت في وجه حكام العرب المستبدين ويعتبرها بمثابة إعلان ساعة الحقيقة التي انتظرتها الشعوب العربية لتغيير أوضاعها والتخلص من الديكتاتوريات، لكن البعض الآخر يرى فيها تجسيدا لسيناريو خطير طبخ على نار هادئة في واشنطن وتل أبيب وفي بعض العواصم الأوربية كلندن وباريس، وردود الفعل التي سمعناه بعد تحرك الشارع المصري من أمريكا وكندا ودول غربية أخرى قد تؤكد هذا الطرح. الغرب الذي يرعى أمن بعض الدكتاتوريات العربية، تفطن ربما إلى حقيقة أن الاستبداد المستشري قد يشجع على تنامي التطرف الديني وتصاعد حدة الإرهاب الذي أضحى يهدد الغرب عامة وأمريكا بشكل خاص، والحل ربما في إسقاط الأنظمة عن طريق الشارع والتأسيس لأنظمة جديدة قد تتمكن ولو مرحليا من دمقرطة الحياة السياسية والتكفل بالانشغالات الكبيرة، خصوصا شريحة الشباب التي تعتبر حطب الإرهاب وهدف للجماعات المتطرفة. ويبدو أن حديث الاحتجاجات و»موضة« الانتحار حرقا وما إلى ذلك من القضايا المتعلقة بالخبز والسياسة جعلت الملف الأمني يتراجع، وتتراجع معه هواجس الخطر الإرهابي، حتى داخل الجزائر التي غابت عن يومياتها أخبار الإرهاب ما عدا الخبر المتعلقة بالقضاء على خمسة من عناصر تنظيم القاعدة المغاربي بمنطقة تقع على الحدود مع النيجر، يضاف إليه خبر احتضان جيجل لمقر لواء شمال إفريقيا للقوة العسكرية الإفريقية الجاهزة، الذي تلقى وبسرعة البرق مساعدات أمريكية في شكل عتاد عسكري وبرامج للتدريب، مع أن اللواء هو ترجمة لرغبة إفريقيا في الاستقلال عن القوى الكبرى في مجال مكافحة الإرهاب، وهذا للواء هو دليل على أن الأفارقة ليسوا بحاجة إلى القيادة العسكرية الأمريكية الموحدة للقارة السمراء المسماة اختصارا ب »الأفريكوم«. ولم تشفع المعلومات التي روجت بخصوص استهداف أنصار الإسلام التابعة للقاعدة لكنيسة القديسين وأن هذه الجماعة قد تضرب أهداف أخرى في مصر، للنظام المصري ولم تساعده على إخماد نار الغضب الاجتماعي المتصاعد، كما أن الاتهامات المضحكة التي تنشرها بعض وسائل الإعلام المغربية حول ما تسميه ب »العلاقة بين البوليساريو والقاعدة«، لن تفيد الرباط في محاولتها لطمس معالم الحق الصحراوي أو التستر على الجرائم التي ترتكب بحق الصحراويين، فالتقرير السنوي الأخير الذي أصدرته المنظمة الحقوقية »هيومن رايت ووتش« حول الانتهاكات بحق الصحراويين وحتى المغاربة الذين يعارضون سياسة جلالته في الصحراء الغربية، يدين بشدة النظام المغربي ويعريه أمام العالم أجمع.