هل من حق المواطن العربي الذي يولد ويكبر ويهرم ويشيخ تحت إمرة حاكم واحد تلاحقه صوره عبر كل زوايا المجتمع المفتوحة على الظلمة، أن يخرج عن المنطق، فيشنق نفسه أو ُيضرِم النار فيها، احتجاجا على حالة التخلف المفروضة عليه من ذلك الحاكم، الذي يقول كما قال الذي تعثّر به نظامه بعد ثلاثين عاما من الحكم الاستبدادي، إنه ليس طالب سلطة، ولا راغبا في المسئولية ؟!؟ لا أناقش »الظاهرة« من الزاوية الدينية، فأنا كمسام أُومِن أن الإقدام عليها- وهو الحالة القصوى من فقدان الأمل في رحمة الله- كبيرة من الكبائر، غفرانها بيد خالق الحاكم والمحكوم عليه، وأترك الخوض فيها إلى المختصين الحقيقيين، المُسلَّحين بفقه الدِّين والمعرفة العلمية المتحرِّرة من سطوة الحاكم، فقد يصلون بالحاملين حبالهم وبنزينهم ويتأهبون إلى السفر المحرَّم إلى منجاة من هذه »الجائحة« التي أصبحت تستقطب المزيد من »المُريدين« من الشباب والكهول والشيوخ ومن الجنسين، في المجتمع العربي المسلم، ولكني أحاول أن أستحضر هذه الحالة المستجدّة علينا وأتحدّث عنها، من حيث كونها أداة جديدة فعَّالة لإثبات الذات، والوسيلة الأكثر إبرازا لفكر صاحبها والأشدّ إيلاما للمجتمع في الوقت نفسه، أمام الإقصاء السياسي والتعسّف الاجتماعي العام، ولو أدى ذلك إلى إحراق النفس التي حرّم الله قتلها، أو شنقها حتى الموت عن سبق إصرار وتعمّد، أو عن سقوط حرٍّ للعقل، في لحظة لم ُيبقِ فيها النظام العربي أمام مواطنيه مكانا إلا للجنون، بعد كل المظالم السياسية والاجتماعية التي ألحقها به . بعد أن حوّل النظام العربي- في العموم- وسائل الإعلام التقليدية، التي كان يمكن أن تنقل معاناة المسحوقين في الظل، أو المتفحّمين بالأضواء الحارقة، ومع استمرار المعاناة مدة طويلة، كان الشباب »الكتلة« البشرية الأكثر تبرّما بالواقع، لأنه يعتقد أن هذا الواقع هو مجرد سجن كبير بلا قضبان، ولكي ُيعبِّر عن رفضه لما هو مفروض عليه، التجأ إلى الوسائل الفتّاكة العابرة للقارات، والتي لا تخضع إلى سلطة الحاكم، وبدت المنتديات الاجتماعية عبر الأنترنت وكأنها منصات إطلاق صواريخ الثورة، التي لم ُتصِبها صواريخ »باتريوت« كثيرة الانتشار وعديمة الفاعلية، وبدأ يدكّ بها نظام الحكم العربي انطلاقا من تونس، فأسقط فيها صاحب القبضة الحديدية، ولن ُينهِي عمله بمصر، التي أصبح حاكمها يترنّح تحت وقْع أصوات ملايين المطالبين برحيله وأقدامهم، ولكن بدل أن يرحل راح يناور بكل الأساليب القذرة، التي لا يهمه إن أساءت إلى حضارةٍ هي من أقدم حضارات العالم وأرقاها، أو تسبّبت في إيقاف نبض قلب الأمة العربية ولو إلى حين، وقد كان الذين أشعلوا النار في أنفسهم، هم مَن أضاء الطريق لهؤلاء وأولئك، كي يمتطوا انتفاضة مباركة في شكل انفجار شعبي، سرعان ما تحوّلت إلى ثورة سلمية، لم يشهد التاريخ السياسي العالمي مثيلا لها . تغيَّر دَوْر الشارع العربي إذن بعد أن تعطّر برائحة المحترقين، وتحوّل إلى أكبر وسيلة للاتصال الجماعي، التي تكسّرت تحت هديرها في مصر القوة البوليسية، الأكثر بطشا في المنطقة العربية، بعدما ُسدَّت الوسائل الأخرى للعمل الإعلامي والسياسي التي احتكرها نظام الحكم، وأحال كل العاملين فيها إلى مجرّد أجراء مأجورين، مكلّفين بمهمة تضليل الرأي العام، وزرْع الدعاية لصالح النظام، والتحريض على معارضي الحاكم، الذي يبدو أنه- مع رئيس مصر غير المرغوب فيه شعبيا- تخلّى كلية عن نخوة العروبة وشيّم الإسلام وحتى المبادئ الإنسانية العامة، حيث َسدّ أذنيه عن سماع أصوات الملايين الذين يطالبونه بالرحيل عن قيادتهم، وأغمض عينيه عن رؤيتهم وهم يقولون له كفاية، وُيقسِمون في ميدان التحرير المصرية، أنهم لن يرحلوا إلا برحيله، وكأنه أميٌّ لا ُيحسِن القراءة، ينتظر من يترجم له اللافتات المرفوعة بواضحة »ارحل« الرافضة لوجوده، التي نشرتها عبر العالم مئاتُ الفضائيات، أو يقرأ له سفر الأمة التي أسعفها شبابها في اللحظات الأخيرة، أو كأنه أعمى يحتاج إلى دليل، يخرِجه من أنقاض الخراب- الذي حاول تعميمه بزرع فوضاه البوليسية- إلى خارج الوقت المصري، الذي لم يعد له مكان فيه على الإطلاق، بعدما وصلت الحرائق إلى أعتاب قصره . إذا كانت النخب السياسية والثقافية الراضية بلعب َدوْر الأجير الذليل، ممن اعتبرهم النظام- ومازال- ذخيرته التي يقذف بها شعبه المناهض له، فإن الشعب المنتفض الثائر، قد ردَّ على الحاكم صكّ رعيته، وافتكّ منه مواطنته، ومعها استرجع عزّته وكرامته التي ديست، ومع ذلك فإن هذا النظام- الذي تآكلت محتوياته- مازال يمانع في ترْك ظهر الأمة الذي أدماه، وُيصِرّ على ركوبها قسرا، بإعادة توظيف أدوات قمعه، التي تربّت عناصرها على ثقافة خنق الرأي الآخر، بكل وسائل الإهانة والإذلال والقتل، وتم التعبير عن ذلك من خلال الميليشيات التي ظهرت في تونس عقب سقوط بن علي، وانتشرت بشكل مكشوف مع بداية تهاوي نظام مبارك، رغم انهزامها أمام أصحاب الحق المعتصمين المرابطين في ميدان التحرير، المؤازَرين بمئات الآلاف من المتظاهرين في كل المدن المصرية . الغرب كان مطمئنا إلى حلفائه المستبدين، وهو الذي لا يريد ديمقراطية في الوطن العربي، رغم كل شعاراته المرفوعة، لأنه لا ينظر إلى هذا الوطن إلا من زاويتين׃ أولاها أن تظل هذه الرقعة، مصدرا لتحريك ماكنته الاقتصادية بما لديها من ثروة طبيعية ضخمة، وسوقا كبيرة لفائض إنتاجه بما عندها من أفواه تتكاثر أعدادها، والثانية أنها البؤرة الحيّة- الواجب طمسها- للنهضة الإنسانية البديلة لحضارته التي فقدت آدميّتها، وبدأت رحلة سقوطها، حتى بادر الشارع العربي هذا الغرب بانتفاضةٍ ما كاد ُيجمِع قوّته ليلحق به، حتى فاجأه بثورةٍ في مصر، لم يستطع معها إلا أن يتمفصل في منطقة وسطى، بين مساندة نظام يراه يتساقط في كل لحظة، وهو يحاول إصلاح ذاته للبقاء، ومباركة ثورة تتزايد عددا وقوة وانتشارا وإصرارا على اجتثاث ذلك النظام، تؤشّر أنَّ ولادة ًلشرق أوسطٍ جديد بدأت تشكّله إرادة الشباب الرافض للإهانة وفرْض التخلّف، برغم محاولات شيطنة الثورة، بهدف عزلها عن دعمها الشعبي، ومن ثم الانقضاض عليها من طرف نظامٍ هو اليوم كالفيل المجنون، يحاول إعادة الوضع إلى أسوأ مما كان عليه، وعندما يتملّك الرعب الصهاينة مما يجري في مصر، وُيجهِر بعضهم بمناصرة الحاكم الذي تهالك، وحينما يدعو الغرب المتطرّف، إلى الإسراع في احتواء الثورة، حتى لا تحدث المفاجأة كما أعلن ذلك عرّاب الحرب على العرب والمسلمين انطلاقا من العراق السفاح توني بلير، ُندرِك لماذا خرجت الشبيبة المصرية، لتعيد للشعب عزته التي داسها الصهاينة بمباركة مبارك، ويعود المصريُّ ليفتخر بمصْريّته التي كان يستحي بها كما قال شاب يعيش في أوروبا . لقد حوّل النظام في مصر الشعب المصري، إلى أكبر مومياء يتفرّج عليها العالم، ويضحك عليها أعداؤه، ولكن هذه المومياء، تحوّلت في لحظة غضب عاصف إلى غول أو عنقاء، عندما زرع فيها الشباب المصري الحياة، لتُزعزِع أركان النظام، وتزرع الرعب في حفائه و»زملائه« من أصحاب البطش الأكبر، بكل مَن يرى غير ما يروْنه، ولم تنفعه صناعة التخويف بالإسلام التي برع فيها، ويحاول إعادة تسويقها في الوقت المستقطع من وجوده، علّه يستنفر الغرب للدفاع عن مصالحه، التي يدّعي أنها في مهب ريح الإسلاميين، وعلى رأس تلك المصالح إدارة الكيان الصهيوني، وإن لم يجد النظام الهالك مَن يسمعه غير حلفائه الصهاينة، فإن خوف هؤلاء لا ينبع من أن مصر ستشن حربا عليهم، إنما كونهم يعلمون أن مصر الجديدة مهما كانت قيادتها، ستحدّ من غطرستهم، وتُحجِّم تطرّفهم، ولن تقف إلا مع مَن يريد السلام العادل فعلا لكل شعوب المنطقة ويسعى إليه، لأنها ستنحاز إلى نفسها التي خرجت منها لأكثر من ثلاثين عاما . يبدو أن الحاكم العربي، لم يعد يعرف أنه- فقط- كبير موظّفي الأمة، يتلقّى أجْرَه من جيوب شعبه، وأنه من حق هذا الأخير، أن يعيد اختيار حاكمه في أوقات معلومة، فيزكّي العامل المخلص لفترة محددة، ويعزل المتقاعس خائن الأمانة متى شاء، وقد ثبت أن الحاكم العربي- الذي يعتبر الرئيس المصري عيِّنته السيِّئة- ما إن تمكّن من الحكم، حتى سخّر كل مؤسسات الدولة وأدوات عملها، إلى إحداث فجوة بينه وبين مَن يحكم، أثرَى فيها- بإنتاج الفقر لشعبه- حتى اقترب من أكثر العائلات الثرية بالعمل المنتج في العالم، فوظّف الثروة والسلطة كأكبر أداة لردع كل مَن يقول بما يخالف قوله، أو مَن يريد أن يبحث لنفسه عن مكان تحت شمسه الصقيعة ، ويكون بذلك هو من أسّس إلى حالة الانتحار، التي وُلِدت نتيجة القنوط واليأس، اللذيْن تمدّدا على كل الشرائح، ولم يستثنيا جيلا من الأجيال، حتى لم يعد لأيٍّ منها مستقبل ُيذكَر، مما جعل الجيل الأخير الأكثر حركية واندفاعا وشجاعة، يسعى إلى إخلاء مكانه في الوطن المحجوز لغيره، فإن لم يستطع، فإلى الخروج من دنيا لا يرى فيها إلا زين العابدين ومبارك وأمثالهما، في رحلة ذهاب بلا عودة، ولعل الولادة العسيرة الجديدة للأمة العربية، التي نرجو ألا تكون لحمل كاذب أو لجنين ميّت، أو ضحية اختطاف من طرف الجبناء الذين يسترزقون على هوامش النظام، ستعيد الرشادة للحكم العربي، بإعادة مؤسساته القائمة إلى القيام بدورها الأساسي، المتّسم بالاستقلالية عن الجهاز التنفيذي، بما في ذلك المؤسسة الدينية، التي يجب أن تنأى بنفسها عن العمل تحت عباءة الحاكم، وتبتعد عن فتاواها التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتُدلِّل على أننا فعلا أمة غارقة في التخلف، أجَّرت دينها للحاكم المستبد، كتلك الفتوى الأخيرة التي حرَّم فيها صاحبها المطل من أحد قصور مملكة الحرميْن، ظهور المعارضة ومقارعتها- سلميا- للحاكم عندما يحيد ويعيث في أمته فسادا، لو فعلت هذه المؤسسة ما أقرّه الشرْع الذي لم ُيسقِط العقل من الإنسان المسلم، بل جعله في مرتبة أسمى ، لاستعادت هذه المؤسسة المتّهمة داخليا وخارجيا مصداقيتها، ولسمع لها مَن بيدهم الأمر، فيخافون ربهم من آثام رموْا بها شعوبهم والأمة قاطبة، ويُنصِت لها المُقْدِمون على الإبحار عبر الانتحار، فيقللون- على الأقل- من أعدادهم المسافرة...