* لم يكونا وحدهما في تلك الرحلة الطويلة من عمان إلى بغداد ,فالحافلة التي أقلّتهما حوَت جمعاً من المثقفين العرب، الذين جاءوا محملين بوزر أيديولوجية البعث في أوطانهم، آخذين الثمن مسبقاً، ومعولين عن المزيد لاحقاً، رافقهما شاعر جزائري شارك عدة مرات قبل حصار العراق في مهرجانات مربد حيث الشعر ديوان العرب في الماضي وتسليتهم في الحاضر، وخلق كثير من موريتانيا والسودان ومصر، وتونس، والأردن.. الخ. بدا الطريق البري طويلاً، وبالفعل كان كذلك، وشد انتباههما تلك الصخور والرمال السوداء التي ذكرتهما ببداية الخلق، ثم برحلة الرسل حين كان الناس أمة واحدة, وعلى طول ساعات الرحلة حذّرهما " عبدا لعال " الشاعر الجزائري والصحفي المخضرم ، الذي عاش مناضلاً يسارياً ضد أنظمة الحكم المتعاقبة، وحين هبت نسائم الديمقراطية، فضّل مناصرة أهل الحق حتى لو كان ذلك على حساب القناعات والمبادئ.. فقد كان مثقفاً عضوياً، اختار أن يكون في صف الشعب رغم الإنتقادات التي وجهت إليه من الأقربين والأبعدين . قال عبدا لعال ناصحاً شهرزاد : - عليك أن تلتزمي الصمت ولا تعبّرين عن خلفيتك الدينية، وإلا كلّفك ذلك الكثير؟ - سألته شهرزاد مستغربة: - هل يعادون المتدينين هنا؟ - هم ضد الدين، حين يتعلق الأمر بمواجهة الفكر البعثي، ولكن ليسوا ضده تطبيقاً. توقف لحظة ثم توجه إلى العربي قائلاً : - أما أنت ، فأنا أنصحك بملازمتي لأن الحماس الجزائري لا ينفع هنا ، وإياك من نقدك الواضح للأوضاع ، لأن هذا سيكلفك حياتك ثمناً ، و قد لا نجد لك أثراً . ضحك العربي ، رغم العناء الذي شعر به من طول الرحلة ثم قال : - يبدو أنك تهول الأمور كما هي كعادتك . - سترى إن كان ذلك صحيحاً أم مجرد افتراء . كان عبدا لعال يتحدث من عمق التجربة خلال سنوات الرفاهية في العراق ، حيث السلطة القومية ليست على العراقيين فقط ، بل على العرب أيضاً ، فكثير من الذمم باعت نفسها بثمن بخس وأخرى بثمن غال ، ولم تنج لا هذه ولا تلك من متابعة ومطاردة نظام " صدام حسين " ، وقد عاشت تلك الشخصيات التي أبدعت في دنيا الكلام ، وحولت العروبة إلى سلعة رخيصة أو كرهت الآخرين فيها ، سنوات لاهية عن محن الأمة, وحاضرة ، مطمئنة, لما تناله من فتات على موائد السلطان . البيع العلني والمكشوف للذمم لم يكن عائقا كما جاء ذلك واضحاً في شهادة قدمت نصيحة من عبدا لعال لشهرزاد والعربي ، حين قال لهما : - مهرجانات الشعر في العراق أو غيرها من المهرجانات الأخرى لم تجمع أولئك الذين أعادوا تاريخ الشعراء العرب إلى بلاط الملوك في الزمن الماضي ، وإنما جمعت أيضاً أصحاب الهموم والقضايا ,لكن الكثرة الغالبة منهم كانت للذين باعوا أنفسهم للحكام ، ورغم كثرتهم فعلينا النظر للذين شاركوا من منطلق إثراء الشعر العربي . - هل إخلاصهم في القول ينفي عنهم المساهمة في إعطاء شرعية للحاكم على مستوى الدعم الثقافي ؟ - بالتأكيد أن التاريخ لن ينصفهم ، فالحكم دائماً يؤخذ بالغلبة والكثرة ,لكن قصائدهم الشعرية ستظل دليلاً إدانة أو براءة ,وبالطبع علينا أن لا نحتكم لمطلع تلك القصائد ، وإلا كنا رفضنا الشعر العربي كله ، خصوصاً في مرحلة الخصوبة . بدا حديث عبدا لعال إدانة مسبقة لنظام الحكم في العراق وهو الذي توعد في الجزائر الدفاع عن صدام ومواقفه، بما في ذلك غزوه للكويت ، فكيف ينتقده هنا من منطلق التجربة، وكذلك الحالة بالنسبة لشهرزاد التي كانت ترى في كتاباته ، ومواقفه موتا للظهير ، فكيف القبول إذن بمواقفه الآن، وتساءل العربي، ما الذي غيّر " عبدا لعال " ؟ * بغداد في جوف الردى * بقي السؤال يؤرقه لساعات طويلة، حتى إذا ما بدت بغداد في الجزء الأخير من الليل نائمة كأنها في جوف الردى وهو قائم، تمر بها المصائب تلو الأخرى على مر التاريخ ، ومع ذلك يبدو وجهها وضاحا وثغرها لا تفارقه الابتسامة. مشاعر لا توصف، وحب دافق يصل إلى مياه دجلة والفرات ويعود متدفقاً في نفس العربي ، وذكريات ألف ليلة وليلة تبعث من الماضي إلى الحاضر، فترى نفسها شهرزاد، هي تلك القاصة، الحامية لنفسها من القتل، وذرفت الدمع السخي، نتيجة ذكريات آلمتها، متسائلة داخل نفسها: - أيعقل أن تحاصر وتدمر هذه البلاد كلما لاح في الأفق بصيص للخروج من التخلف؟ أيقاتلنا العالم كله حتى نظل بعيدين عن المساهمة في الحضارة الإنسانية؟ أين سأجدك يا شهرزاد العراق, التي قالوا أن اسمك فارسي؟ يلاحظ العربي الدمع في عيني شهرزاد، والحافلة تدخل بغداد والناس فيها نيام ، فيسألها : - ما الذي يبكيك ، وقد حلمت بزيارة بغداد فتحول الحلم إلى واقع ؟ - من يقرأ التاريخ العربي ، يأخذه الشوق إلى الأمكنة والبلدان لقيمتها ..هنا العلو والسقوط ، الانتصار والهزيمة ، الحقائق والخيال ، العدل والظلم ..هذه بغداد من يصلها سالماً عليه أن يحمد الله كثيراً ، ومن يخرج منها سالماً فقد كتب له عمراً جديداً، إذا قامت جلس العالم كله ، وإذا نهضت اهتز ، وإذا نزلت بعلمها على الدنيا ربت عقولها وأنبتت فكراً مميزاً ، وإذا سقطت لا قدّر الله سقطت معها كل العواصم والقيم والعلاقات. يتعجب العربي من حديثها، في الوقت الذي كان " عبدا لعال " يغط في سبات عميق ، ثم يقول لها مستفسرا لما بداخلها ؟ - أكل هذا لأن اسمك ارتبط بتاريخها ؟ - ليس لأن اسمي ارتبط بتاريخها كما تقول، وإنما لكونها البداية والنهاية في تاريخنا ، فهذه الدولة المحاصرة ، هي كذلك على مر التاريخ ، وهل تحاصر المدن إلا إذا كانت فاعلة ومغيرة ، أو فيها من الخيرات بما يسيل لعاب الأمم الأخرى فتبدو مثل الكلاب الضالة؟! ، وبغداد ليست عاصمة الرشيد فقط ، لكنها عاصمة " أهل الرشد " وإن ضل من جاء بعدهم ، ولو كان منها "الحسن البصري" في الماضي فقط ، أو "محمد باقر الصدر" في الحاضر فقط ، لغدت أهم مدن المسلمين جميعها . وقفت الحافلة بالقرب من فندق الرشيد ، وأيقظ المرافقون العراقيون ضيوفهم، عندها كانت الساعة تقارب الثالثة صباحاً، وحين هم الجميع بالدخول والتعب قد أخذهم، والشوق إلى النوم والراحة قد جذبهم ، فرح العربي بتحول الحلم إلى حقيقة .. فمنذ زمن طويل ، ومنذ أن أخذ على عاتقه مسؤولية الوقوف إلى جانب العراق في حربها ضد الغرب، أو هكذا خيل إليه ، تمنى رؤية العراق من الداخل .. وها هو يصل إليها ، وعلى عكس الآخرين زال عنه التعب وفتح عينيه لمشاهدة كل الأشياء، ولكنه فوجئ بالرئيس الأمريكي جورج بوش في مدخل فندق الرشيد ومن هنا بدأت رحلة الخوف ! الرشيد.. وبوش الأب الدخول إلى فندق الرشيد يتخذ طريقين، لكن على أرضية واحدة، تقود الأولى الزائر إلى أمجاد الماضي.. إلى أيام هارون الرشيد، الذي كان يحج سنة ويغزو سنة وهو بلا شك – مهما انتقده الذين لا عمل لهم إلا العيش على أفعال السابقين – ماضي مجيد، والطريق الثاني: يقود إلى الزمن الأمريكي بقيادة جورج بوش ، والعلاقة به ليست غارقة في الماضي البعيد، لأن تلك الحرب الضروس ليست بعيدة عنه, ولأول مرة في التاريخ، يتحد أهل الإيمان وأهل الكفر علىضرب فريق من المؤمنين حتى يخرج من الكويت صاغراً ومداناً ومرهوناً للمستقبل " . مدخل فندق الرشيد حيث تأخذ صورة " جورج بوش الأب " حيز المكان كله يعتبر عقبة كأداء للزائرين العرب وللغربيين على وجه الخصوص ، لكن لن يفلت أحد منهم ، لأنهم ما داموا في ضيافة الدولة العراقية فإن عليهم اقتحام العقبة، وحين يتخطوها عليهم أن يمدحوا الذين قاموا بهذا الفعل ، وحققوا انتصاراً مزعوماً أو وهماً على أمريكا الظالمة ، وبوش الأرعن. المارون عليها – وما أكثرهم – كلما داسوا بأقدامهم صورة بوش اختلفت مشاعرهم , وقلما أعلنوا أن هذا لا يقبل في الأعراف والعلاقات الدولية ، لأن معظمهم يشفي غليله من ذلك القصف المتواصل الذي صمدت أمامه بغداد في شتاء 1991 ، ما عدا العربي ، الذي كان في أيامه الثلاث التي قضاها هناك ، ينتابه خوف من المستقبل ، رغم المتعة التي يتمتع بها كلما داس بقدميه على صورة بوش الأب، مع أن الدوّس على الصورة المرسومة على البلاط يتحول مع الوقت إلى روتين ، ثم لا يعود شيئاً مذكوراً . في اليوم الأول للزيارة انتظر الضيوف لساعات استقبال " عدي " لهم وانتهى ذلك بلقائهم ، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي يرى فيها العربي وشهرزاد " ابن الرئيس " عن قرب . وقف الضيوف طابوراً اتخذ شكلاً دائرياً توسطه " عدي " بحيث يبدأ الأول بمصافحته ، ثم يأتي من بعده .. وهكذا حتى تغلق الدائرة . وبدا الجزائريون الثلاثة في ذلك اللقاء ، أغراب عن جماعة مثقفين جاءت لتقديم الولاء ، وتجديد التبعية لحزب البعث ، الأمر الذي استفزهم ، حتى إذا ما بدأ " عدي " نقد الإعلاميين العرب حيث قال : - لقد مولناهم ، ودعمناهم، وعندما اشتدت الظروف والخطوب تخلوا عنا ، وانضموا إلى الفريق المعادي للعراق . سكت الجميع ، مطرقين رؤوسهم ، ومؤيدين ما يقول إلا الجزائريون الثلاث لم يتحمسوا لكلامه ، وجاء قول العربي صارخاً : - لقد دعمتم الأسوأ من المثقفين العرب لذلك لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة وأضاف عبدا لعال : لا يمكن تعميم الحكم ، عن الإعلاميين جميعهم ، فهناك من يدافعون عن العراق في كل مكان .. لكن لا تعرفونهم لأنهم يقومون بعملكم ذاك دون انتظار لجزاء أو شكر من أحد . * الزعيم.. والبرقية * تغيرت ملامح " عدي " ، لكنه لم يعلق ، غير أن ما ظهر على وجهه كان إشارة معروفة لأجهزة الأمن مضمونها : راقبوا هذه المجموعة وتم ذلك بالفعل ،حتى إذا ما حل المساء ، عقدت ندوة حول " السبل الكفيلة بدعم العراق إعلامياً بهدف رفع الحصار " ، فلم تعط للجزائريين الثلاث الكلمة ، مما دفع عبدا لعال إلى المطالبة بصوت عال : - ارفعوا الحصار عن هذه القاعة ، ثم طالبوا العالم برفع الحصار عن العراق . - لم يبال أحد بما يقول ، ذلك لأن ما قام به ثلاثتهم من البداية كان مزعجا وأمراً مرفوضا على مستوى العمل السياسي في العراق ، إذ أجمعوا على رفض إرسال برقية تأييد للرئيس صدام حسين ، وحين سئلوا عن السبب ، قال العربي : - نحن لم نقطع مسافة بعيدة ، ونأتي من الجزائر لإرسال برقية للزعيم صدام حسين ، ولو أبلغتمونا قبل الزيارة بهذا البرنامج لبعثنا إليكم وإلى الرئيس صدام حسين ببرقية ونحن هناك . وأضاف عبدا لعال : - إرسال البرقيات أسلوب قديم عفا عليه الزمن ، وهو خاص بالداخل, وعلينا التفكير في أسلوب جديد للتعامل مع الخارج . وحين سأله رئيس الجلسة عن الذي يعنيه بشكل أكثر وضوحاً ، قال : - فك الحصار عن العراق لا يكون بإرسال برقيات التأييد للرئيس ولا باستضافة الذين لا وزن لهم في مجتمعاتهم ، وإنما بالعمل الدؤوب من قوى فاعلة ومؤثرة على الصعيد العالمي . أثارت هذه الإجابة صخباً وفوضى لأنها مست الضيوف حتى أن أحد الحاضرين وكان من السودان قال : - لسنا في حاجة لمن يعطينا دروساً في العمل السياسي ، ثم كيف يقال أننا لسنا قوة مؤثرة ؟. رد عليه عبدا لعال بمنتهى الصراحة قائلاً : - أنا لا أقصد أحداً منكم بشكل منفرد ، ولكن أعني جميعنا ، فكلنا نكرة داخل مجتمعاتنا لجهة التأثير ، أي ليست في أيدينا صناعة القرار ، والأخوة العراقيين يعرفون هذا ، ولا أدري لماذا دعونا ؟ وما يغني عنهم جمعنا ؟ لم يعهد المسؤولون العراقيون تلك اللغة، ولا الخطاب السياسي الصريح من العرب الزائرين ، الذين اعتبروا في جل زياراتهم أن العراق بقرة حلوب ، وأخذتهم عزة المال بإثم المواقف ، وأصبح الجزائريون محل شك ، وقد نسوا أنهم جاءوا من بلد تصنع مستقبلها السياسي بالدم ، وقد خرج أهلها من ضيق سلطة الحزب الواحد إلى رحابة التعددية ، وقد وضعت عنهم أغلال أيديولوجيا والشعارات . بدا الجزائريون مختلفين عن الآخرين ، بالرغم من أن شهرزاد ، التي كانت من بين أربع نساء عربيات يحضرن هذا التجمع لم تنبس ببنت شفة في كل الجلسات الرسمية ، ذلك لأنها جاءت من أجل عراق آخر، عراق حفر في ذاكرة التاريخ أخدوداً ، ووجدته في كتب التاريخ ، مقتنعة أن رجال الحاضر الذين يحكمونه لا يصنعون التاريخ ، لذلك لا داعي لمناقشتهم ، واكتفت بالملاحظة والتأمل والمقارنة أحياناً . شبح الحزب الذي يطارد المسؤولين العراقيين – على مستوى الدرجة الثانية والثالثة - وسوط السلطة الذي يجلد عقولهم قبل أجسادهم وعدم وجود فضاء آخر للحركة ، عوامل زادت من صلابتهم وقوة عزيمتهم كما هو ظاهر ، يحيون من جاءوا إليهم من العرب ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، متقين شح الأنفس رغم أيام الحصار الصعبة ، ولم يكن ذلك محاولة للتأثير الإعلامي ، ولكنه كان قناعة قومية تجذرت في عقول وقلوب المسؤولين العراقيين . سأل العربي أحد المسؤولين العراقيين ، كان يجلس مع جماعة من الضيوف إلى مائدة العشاء : - أراكم لا تمدون أيديكم إلى الطعام ، فهل أنتم ممنوعون من ذلك؟ - لسنا ممنوعين ، ولكن نفضل العشاء في البيوت مع أفراد الأسرة . - هل يفهم من هذا أن الطعام في البيت أحسن ؟.. هكذا سأل العربي . - العكس تماماً فأنتم قد لا تعلمون أننا مثل المواطنين نأخذ حصصاً من الغذاء، والأكل هنا أفضل، غير أننا نسعى لتقديم صورة جميلة عن العراق لإخواننا العرب. - أهذا ترويج إعلامي؟ - لو كان المقصود ذلك لأريناكم ما نأكل وندخر في بيوتنا، وأنا متأكد أنكم لو زرتم بيوتنا أنتم أو رجال الإعلام والفكر والثقافة الغربيين لعرفتم ماذا يعني الحصار! لم يستطع العربي مواصلة الحديث، لأن واقع العراق، ذكره بالشاعر عنترة العبسي حين قال : وإني لأبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل ومثلما تذكر عنترة شعراً ، عادت إليه صورة رجل رآه يقدم نحوه وقد اشتعل رأسه شيباً .. إنه أستاذه يوسف الذي فارقه منذ ثلاث عشرة سنة ، بالحضن التقيا، واسترجعا ذكريات الماضي ومواقف الحاضر . الشيوعي.. وصداّم الزعيم حين جلسا معاً يتبادلان أطراف الحديث ،ظن العربي أن أستاذه الدكتور يوسف، لم يزل صادقاً في أقواله القديمة ، تلك التي اتخذت من التوجس خوفاً ، حيطة وحذر من زملائه الأستاذة العراقيين في جامعة قسنطينة ,غير أنه حين حاول العودة به إلى حيث البدايات نقداً لتجربة نظام حكم العراق بسفك الدماء وقطع الرقاب ، أوقفه الدكتور يوسف مصححا بصوته الهادئ أخطاء يقع فيها العرب حين يأتي حديثهم دائماً ناراً وليس برداً وسلاماً على رجل قاد أمة نحو الانتصارات ..هنالك بدت الدهشة والحيرة على وجه العربي ، وسأل أستاذه القديم الذي لم يعد يعرفه : - دكتور كيف لك أن تدافع عن نظام شتت الحزب الشيوعي و ذبح أبناءكم وهتك عرض نسائكم, وفي ذلك بلاء عظيم ؟ - ذاك في الماضي ، أما الآن فقد تغير ، وعلى فرض أنه لا يزال بقبضته الحديدية ، فاليسار العراقي اختار الدفاع عن الوطن إلى جانب صدام مترفعاً عن الزلات القديمة ، فمن أجل الوطن نضحي ، ولا غرو في ذلك . - هذا أمر جديد بالنسبة لليسار أليس كذلك ؟.. سأل العربي . - مواقف اليسار العربي ، وبالذات الأحزاب الشيوعية ، قامت على حب الوطن ، بغض النظر عن استبداد الحكام أو عدلهم ، حيث نقترب أو نبتعد من هذا الحاكم أو ذاك بقدر تأييده للمبادئ التي نؤمن بها ، ألم يؤيد الشيوعيون المصريون عبد الناصر وهم في السجون ، وكذلك الحال بالنسبة للشيوعيين الجزائريين في عهد حكم هواري بومدين ، مع أنهما – عبد الناصر و بومدين – قتلا من الشيوعيين الكثير,وعذبا واستعبدا منهم أكثر مما يمكن أن نتصور . - لم تقنع العربي هذه المقارنة ، وأراد معرفة المزيد ، فسال أستاذه الذي كان يسحب نفساً طويلاً من غليونه, بدا غريباً في يده ذات الأصابع القصيرة : - ولكن ألا يحمل تأييدكم لنظام " صدام حسين " نوعاً من المجازفة ؟ - ليست مجازفة وإنما مجال الإختيارات أماكن محدود، فإما أن نكون مع الوطن في حصاره ، ومواجهة قوى دولية تريد تقسيمه ، وإما أن نقف إلى جانب الدول التي تحاصره ، ونعمل معها من أجل إسقاط النظام . - أليست هناك بدائل أخرى ؟ - البدائل الأخرى غير متوفرة ، والهجرة للعمل في دول أخرى أو المعارضة من الخارج لم تعد مجدية ، ولذلك فضلنا البقاء ، ولم يحدث أن الشيوعيين العراقيين عارضوا من الخارج ، فلقد صبرنا في الماضي ، ونحن اليوم على استعداد لتقديم التضحيات من أجل العراق . - ألا يعطي دعمكم لنظام حزب البعث مزيداً من الشرعية ؟ - نظام البعث شئنا أم أبينا موجود بشرعية القوة والسلطة ، ثم أنه الأقرب إلينا مقارنة بالتنظيمات السياسية الأخرى ، وهو كما تعرف نظام علماني ، وليس دينياً يمثل الرجعية والظلام والتخلف . - أ لهذا أيدتموه في الحرب على إيران؟ - لقد أيدنا النظام الحاكم في حربه على إيران ليس لكونه علمانياً فقط ، وإنما لأن الوقوف ضد النظام في ذلك الوقت كان يعني الوقوفا ضد الوطن ، وتلك خيانة عظمى في حقه ، فنحن لم نؤيد نظام البعث ولكن وقفنا إلى جانب العراق ، الشعب والدولة . - هذا عن النظام ، فماذا عن صدام ؟ - بالنسبة لنا الآن ، فهو رجل وطني، يمثل إجماعاً ، وعلينا مؤازرته, فالعراق تحت الحصار ، ولا يعقل أن ندفعه إلى الفتنة من أجل الصراع على السلطة . - هل يفهم من كلامكم أن صدام في حال من الضعف ؟ * - لم أقل أنه ضعيف ، ولا يعنيني كيف هو الآن لأن الثورة عليه غير واردة في الوقت الراهن ليس خوفاً من بطشه فحسب ، وإنما لأن الظروف غير مواتية ، فالحصار وحّدنا ، وتلك ضربة للقوى الغربية التي أرادت إسقاط النظام بحرب أهلية داخلية ، وبالتالي تقسيم العراق . * من كلمات أستاذه القديم أدرك العربي أن الخوف على الوطن يدفع بالناس إلى تقديم التنازلات ، ونسيان الماضي المؤلم ، ذلك لأن غيابه تحت أي مسمى، يعني غياب " الستر "، وكشف العورات, حيث البقاء داخل الوطن تحت حكم جائر أفضل من عدم وجود وطن على الإطلاق. * أيعقل أن يجد الرئيس صدام هذا الدعم ثم لا يغير من حاله؟ .. هكذا سأل العربي ، شهرزاد حين التقاها في مساء ذلك اليوم ،الذي بدا مزعجاً بعد حواره مع الدكتور يوسف ,الذي يأمل في تغير الحال نحو الأحسن ؟ وجاءت إجابتها على غير توقع منه ، وذلك حين قالت : * - ما أنبأك به الدكتور يوسف هو حال من الخوف اتخذت شكلاً بطولياً ، فهو مثل الذي يحول الهزيمة إلى نصر على مستوى الألفاظ والكلمات . * - ولما لا تقولين أن الحزب الشيوعي العراقي تغير من أجل أهداف كبرى ؟ * - الأحزاب الشيوعية وغير الشيوعية، مثل الثعابين تغير جلدها في فصول بعينها ، لكنها تظل ثعابين تتحين الفرص لنفث سمها في الكائنات الأخرى ، وقد تكون معذورة في طريقة دفاعها ، لكن علينا نحن أن لا نعول على ما تقول ، أو نؤمن بمقولاتها . * كان العربي في الزمن الماضي ينقل لشهرزاد آراء الدكتور يوسف الشيوعية المعادية للنظام العراقي ، والتي لا يعلنها إلا حين يحس بالأمان الكامل ، وبغياب الأساتذة العراقيين الآخرين ,وبناء على خلفية مواقفه في الماضي لم تقتنع بكلامه في الحاضر ، مع أن عباراته جاءت برداً وسلاماً على قلب العربي الذي كان إلى قبل زيارة بغداد يحب الرئيس صدام حباً جماً ، حتى إذا ما حل ببلاده تحول الحب كرهاً ، وقد رأى مأساة الناس في ذلك الأستاذ الذي يجوب شوارع بغداد متسولاً ، وزار بيوت آخرين في أطراف بغداد فوجدها خالية على عروشها * رأى العربي الكنب تباع في شارع " أبو الطيب المتنبي " ، وأهله غريبي الوجوه والأيادي دون الألسنة ، واكتشف وجود طبقة عاثت في البلاد فساداً بسبب الحصار ، فلو بعث خلفاء بني العباس وقبلهم خلفاء بني أمية لأحتاروا في مساكنهم وأموالهم ، أما تلك القصور الخاصة بالرئيس ، فرغم جمالها الأخاذ بدت وصمة عار بأعلى جبين النظام الحاكم زينه الشعراء والصحفيون وبعض المفكرين . * * لقد رحل الكرم عن أهل العراق بعد أن جعلهم الحصار أذلة في يد النظام ودول الغرب ، ففي الماضي كانوا يعانون من آفة واحدة ، أما الآن فهم يواجهون تكالب الأمم عليهم . * لم تعد صفات الجمال التي صبغت أهل العراق ، وجعلت من قصورهم وعطاءهم الحضاري مفخرة لهم منذ إهداء الساعة في عهد هارون الرشيد لإعجاز العالم وإدخاله الحضارة الإسلامية بقوة العقل ، إلى إهداء سيارات المرسيدس في عهد " صدام " لشراء الذمم ، الفرق شاسع ، ومع ذلك لا يزال العربي يعول على هذا الرجل الذي يسمى " صدام " مادام يواجه الغرب ببقية من آثار قوة جاءت في تلك العقول المبدعة ، التي أزعجت الغرب ، واحتل المنطقة من أجلها . * كان ذلك حديث لنفس ، الذي أصر العربي على أن يظل داخله لا يبرح مكانه ، محاولاً معرفة إن كان له سند عند العراقيين وإخوانهم العرب الذي سكنوا بلادهم ، واقتسموا معهم الرغيف والمعاناة ، فإذا بهم ينفقون مما جمعوا على سنوات الحصار, رغم أنها في ذلك الوقت كانت في بدايتها . * * النّهب المصري لثروات العراق * العرب المقيمون في العراق أمة واحدة بقوة القومية وجهاز حزب البعث,ولا أحد منهم يملك الحديث عن خصوصية مجتمعه أو موطن النشأة الأولى ، فهو بعثي ، وإن لم يحمل بطاقته أو ينخرط في التنظيم ، لذلك فلهم نفس الحقوق مثل العراقيين تماماً ، وأحياناً أكثر ، وعليهم نفس الواجبات ، وأحياناً أقل ، ولا يحاسبون عن الجرائم والخطايا مثل أبناء الرافدين . * العرب من دول شتى جاءوا إلى العراق، بهدف العمل، و حل مشكلات عجزوا عن حلها لعقود في دولهم ، ولكن بعد الحصارعانوا مثل العراقيين, ولم يستطيعوا من بعد حرب الخليج الثانية الرحيل ، على أمل أن يعود العراق إلى سابق عهده ، ويعودون معه إلى تحقيق أمنيات أجبروا على حملها ولم يستطيعوا التخلص منها . * هم محبوبون عند أصحاب القرار، فما كان لهم ولا ينبغي أن يناقضوا مواثيق الوحدة وعروبة الدولة, و من يتخلى أو يتحايل أويرفض هذا الحب من العراقيين,حتى لو كان مسؤولاً, يبقى في أقبية السجون ثم يتحول إلى نسياً منسيا. ويقول عندها: يا ليتني اكتفيت بعروبتي دون وطنيتي، يا ليتني ما طالبت بالحقوق واكتفيت بتأدية الواجب . * على أصداء تلك الأفعال الظالمة تربت أغلبية العراقيين فاختاروا طريق النجاة وجنحوا للسلم رغم جنوح النظام الحاكم للحرب وللفتنة وللإنتقام, وأسعد ذلك الفعل الوافدين من كل الدول العربية الأخرى ، التي اكتفت بالإنجاب وحملت العراقيين التربية والدعم والعمل والتعليم ، وما خارت قواهم إلا عندما عجزوا عن أقواتهم في أيام الحصار ، ومع الأيام نبتت الكراهية غير المعلنة ، جاءت واضحة في قول صحفي عمل لسنوات في وكالة الأنباء العراقية، وسنوات أخرى في جريدة الجمهورية حين تحدث للعربي على انفراد : * - لقد نهب العرب قبل الحصار ثروة العراق بأمر النظام الظالم ، حتى أن الصحفي العربي المتعاون يأخذ على المقال الواحد أربع أضعاف ما أحصل عليه ، مع أنه كاتب من الدرجة الثالثة . * - عن أي عرب تتحدث ، فهم قلة هنا ؟ * - حديثي منصب بالأساس على الإخوة المصريين ، فقدوا أصبحوا ليس في المجال الإعلامي فقط ، بل في كل الميادين ، شركاء في ثروة العراق. * استغرب العربي من القول ، فسأل صلاح : * - يشتم من حديثك رائحة القول بوجود غزاة يسمون أدبا بالأخوة المصريين . * - بالله عليك كيف تسمي عمالة مكونة من اثنين مليون ، أي ما يقارب عشرين بالمئة من حجم السكان ، أليسوا شركاء أو غزاة كما قلت؟! * _ يجب أن تقارن هذا بالعملة العربية الوافدة في دول الخليج , فقد فاقت النسبة الموجوة في العراق بكثير..فهل يقال عنها أيضاً أنها شريكا في تلك الدول . * - الوضع مختلف ، دول الخليج العربي بحاجة إلى العمالة الوافدة أما نحن فالملايين منا لا يجدون العمل ، وهناك من يعانون الفقر . * - هذا خطأ المسؤولين العراقيين . * - أنا لم أحمل المصريين الخطأ ، ولكن ذكرت بخطورة وجودهم . * لم تكن عبارات الصحفي العراقي " صلاح " تمر دون أن يربطها العربي بذلك الحكم الذي أصدره "بده عيشوش " منذ سنوات حين حذره من المصريين ، فها هم قد تحولوا في العراق إلى كابوس مزعج لم يعبر عنه صلاح فقط ، بل جاء أيضاً من مثقفين آخرين ، وهذا على خلاف تلك القناعة التي كان المسؤولون العراقيون يؤكدون عليها في مناسبة و كل مكان ، حتى أن أحدهم قال للعربي حين سأله عن انزعاج أبناء العراق من وجود المصريين في بلادهم : * - هذا كلام فارغ ، المصريون عمروا العراق ، وأضاعوا أعمارهم فيها ، ثم هم كعرب وحزب البعث لا يفرق بين أبناء الأمة الواحدة ودعك من آراء النخبة المثقفة ، فهذه لا تؤمن بالأمة إلا على مستوى الشعارات ، ولو تركناها ، لأفرغت العراق من عروبته و لتحالفت مع الشيطان من أجل تدمير البلاد، وإحضار أمم أخرى بدل العراقيين ، وليس العرب فقط . * صمت المسؤول العراقي الذي كان يتحدث بإيمان راسخ ، وقناعة واضحة، وقد بدت عليه ملامح الغضب، ظهرت على وجهه وفي حركة يديه، ثم قال مواصلاً حديثه : * - إذا أردت أن تعرف حب العراقيين للعرب ، وخصوصاً المصريين فلا تسأل النخبة المثقفة وإنما اسأل عامة الشعب العراقي ،واسأل أصحاب القرار, فهذان الفريقان هما الأولى بالسؤال ، واذهب إلى متحف الشهداء ، واقرأ أسماء المصريين الذين قاتلوا إلى جانب العراقيين في حربهم ضد إيران ، وحربهم ضد أمريكا في 1992 ، هناك ستعثر على الإجابة . * وأخذ العربي بنصيحة المسؤول العراقي ، وطاف بغداد باحثاً عن الإجابة ، ووجدها عند العامة من الشعب العراقي ، وفي صور الشهداء وأسمائهم ، فالمصريون حاضرون في كل مكان ، ولا يشعر بأقوال النخبة العراقية إلى القلة منهم ، هم جزء من الشعب العراقي تفاعل إيجابياً ، ولم تؤثر في علاقتهم به تقلبات السياسيين، واختلاف المواقف بين القاهرة وبغداد . * ليس المصريون فقط هم من صاروا جزءاً من المجتمع العراقي فهناك الفلسطينيون أيضاً ، وهؤلاء لا حديث عن أخطائهم حتى من طرف النخبة, لأن قضيتهم راسخة في وجدان معظم العراقيين وليسوا محل خلاف، ذلك ما لاحظه العربي وشهرزاد حين التقيا ببعض الفلسطينيين الذين لجأوا إلى العراق منذ ثلاث عقود خلت . * * الحب ألعراقي * من الجلسات واللقاءات والأحاديث المنظمة، والأخرى ذات الطابع العفوي خرج العربي وشهرزاد برؤية مشتركة ، وإن اختلفت في الأصول والنتائج من أن العراقيين يحبون من هاجر إليهم من إخوانهم العرب ، وأن بعضاً من العرب يبادلونهم نفس الشعور ، وكثير منهم جاء باحثاً عن لقمة العيش أو أملاً في تغير حياته قبل أن ينزل الدينار العراقي من عليائه ، ويحاصر ويفقد قيمته في التداول . * الحب العراقي حالة سابقة عن نهايات القرن العشرين ، لأنها ارتبطت بالعزة والكبرياء ، ظهرت في تلك المدارس الفقهية والترجمات والتراث الإسلامي ، والمواجهة الحضارية ، هكذا كانت ترى شهرزاد العراق وأهله عبر التاريخ ، أما العربي فقد ربط حاضر اليوم بموقف القوم من أهلهم ، فالقومية العربية من خلال سياسة البعثيين هي التي أوجدت القلوب الرحبة التي وسعت كل الجنسيات العربية ، في الوقت الذي ضاقت فيه دول عربية أخرى بما رحبت ، ورغم الاختلاف النسبي بين شهرزاد والعربي في النظرة لموقف العراقيين من العرب في زمن قصير , إلا أنهما كانا يعولان على المستقبل كثيراً . * لقد ذهبا وهما يراقبان الحاضر إلى الماضي البعيد ، فنسيا أن بغداد ، تلك العاصمة والمدينة التي حاول العرب القادمون إليها من ثقيف ، وبعدهم بقرون الأجناس الأخرى القادمة من وراء البحر محو وجهها الحضاري لم تعد مدينة الرشيد ، ولا حتى مدينة الرشد كما كانت تدعوها شهرزاد ، ولا ذكر لياليها الخاليات ، لأنها اليوم عاصمة صدام ، وما أصعب أن تنسب مدينة على عظمة ومجد بغداد لرجل واحد ما قدرها حق قدرها ، حسب شهادة المستضعفين من أهلها , سقاها عندما مسك زمام أمرها بأنهار من دم ، وبنى بعض أحيائها على ركام من الجماجم، ومع ذلك ظل وجهه وضاحا غير مبال بدعوات الخلق إلى بارئهم بقولهم في كل حين: * - اللهم نجينا من هذا الرئيس الطاغية وأخرجنا من المدينة الظالم حزبها ! * كانت الدعوات تأتي همساً ، أو تقال عند الشدة من أجل تصحيح رؤى جاءت من أهل الأطراف، حين دفعها الشوق مثل كثيرين من أهل المركز إلى البحث عن البطل الهمام المنقذ ، والذي يختطف الأمة كلها على ظهر حصانه - مثل أساطير العرائس – فتبتعد عن المخاطر ، وحين تجسدت على أرض الواقع ، غرقت الأمة وبقي البطل الهمام محاصراً ، منبوذاً ، ومع ذلك ظل مخيفاً لعشيرته الأقربين . * حين بلغ مسامع العربي آهات الناس وشكواهم ، و رأى ذلك في تعابير وجوههم ، كره البطل ، الزعيم ، القائد ,إلى درجة الموت ، وقال أمام جمع من العراقيين الأعضاء في الحزب : * - لن أزور العراق مرة أخرى وصدام في الحكم . * حولت الكلمات السابقة العربي من حييب وصديق ، ومدافع عن العراق إلى عدو لدود ، وبدأت التساؤلات تلو الأخرى بين المسؤولين في الدرجات الدنيا الذين كانوا برفقته : * - من يكون هذا الشخص؟ وكيف له أن يدلي أو يهذي بمثل هذا الكلام؟ * * صور العراقيين والعرب الشهداء * لم تأت الأسئلة السابقة علانية كما هي طبيعة الأسئلة التي تتحول إلى إجابات ,ولكنها بدت في المراقبة الشديدة لكل حركاته في الذهاب والعودة ، ومع ذلك لم يتم اكتشافه وهو يصور قصور صدام في أطراف المدينة ، كما لم يكشف وهو يدخل الفنادق الكبرى التي حوت أبناء الطبقات الغنية وأبناء السياسيين. * كان يرافقه في المواقف وفي الجولات زميله " عبدا لعال " ، ذلك الرجل الذي يعشق روح المغامرة ، ويعرف " بغداد " مثلما يعرف مدينة الجزائر العاصمة، من كثرة زياراته لها بدعوات في سنوات الرخاء العراقي ، حين عدت زيارة العراق مكسباً لكل الشعراء والأدباء والمفكرين العرب وغير العرب . * لم تكن الجولات الباحثة عن المعرفة في زوايا بغداد كافية لإعطاء إجابات عن أسئلة المعاناة ، كما لم تكن مطمئنة لشهرزاد ، فمنذ أن أعلن العربي على عدم زيارة " بغداد " ما دامت تحت حكم صدام ، أدركت بأنهم لن يعودوا إلى بلادهم مسرورين ,ما لم يفكروا في الخروج من المأزق ، جاء ذلك في قولها للعربي : * - مثلما أن الكلمة يمكن أن تدخل صاحبها إلى النار ، فإن نقدك لنظام الرئيس صدام سيلحق بنا الأذى . * - ماذا تعنين ؟ * - دعك مما أعنيه، وأجبني: إلى متى وأنت تظهر ما تبطن؟ هل هناك من طلب رأيك في نظام صدام؟ ثم من طلب منك زيارة بغداد مرة أخرى؟ ومن أدراك أن بغداد ستظل موجودة ؟ * - أراك خائفة . * - نعم أنا خائفة عنك ، فهذه المدينة على طول تاريخها ، حولت البشر إلى جزء من التراب .. إلى رميم في لمح البصر بسبب كلمة أو موقف ، أنت لا تعرف ماضيها لذلك تتحدث بشجاعة عن حاضرها . * - لم يستطيعا مواصلة النقاش حين دنا منهما " عبدا لعال " الذي قال بمجرد أن وصل : * - لنتحرك في زيارة قصيرة داخل المدينة ، وحين ذهبوا بعيداً عن فندق الرشيد قال : * - علينا أن نغادر الليلة بغداد في جنح الظلام ! * - وسأله العربي مستغرباً : * - أتقوم بذلك دون أن نشعر أحداً ؟ * - المطلوب أن يتم هذا في سرية تامة . * - كيف ، وكل الأعين ترقبنا منذ أن انتقد العربي نظام البعث .. سألت شهرزاد . * - تمهل عبدا لعال حيناً ثم قال : * - تقصدين منذ أن قلنا ارفعوا الحصار عن من في الداخل أولاً ، قبل المطالبة برفعه من الخارج ..! لا تقلقي ، فسأتدبر الأمر . * * صور العراقيين والعرب الشهداء * وما إن حلت الساعة الثالثة صباحاً حتى غادر ثلاثتهم فندق الرشيد وداسوا بأقدامهم للمرة الأخيرة على صورة بوش الأب ،غير مبالين بما يحمله الغد القريب ، تركوا بغداد بما من فيها ، حاملين منها ذكرى مآسي العرب في ملجأ العامرية ، وصور العراقيين والعرب الشهداء في حروب فتنة ضد المسلمين اشتعلت بسبب مزاج الحكام أو إحساسهم بالعبن من الأقربين . * في الطريق إلى عمان ، والشمس ترسل أشعتها على الأرض السوداء ذات الصخر الأصم ، سأل العربي شهرزاد : * - أترانا سنزور العراق مرة أخرى ؟ * - نظرت شهرزاد إليه ملياً ثم قالت : * - ألم تحلف بأن لا تزورها ما دام صدام يحكمها ؟! * - تدخل عبدا لعال مشاركاً في الحديث : * - إذن لن تزورها بعد اليوم . * - هل تعني أن الرئيس صدام سيعمر إلى عقود من الزمن ؟ هكذا سأل العربي . * - أقصد أن رحيل صدام سيؤدي إلى الفوضى في العراق ، وحين يغيب عنها الأمان لن تزورها أنت ولا غيرك . * حين وصل ثلاثتهم إلى عمان ، لم يستطيعوا التخلص من بغداد الحاضر، وبعدها بساعات حين وصلوا الجزائر، والدم لا يزال ينزف بسبب العمليات الإرهابية ، تذكروا مرة أخرى جروح العراقيين عبر الأزمنة والسنوات لم يعد مهماً بالنسبة لهم أن يفكروا ببقاء صدام أو رحيله ، بقدر اهتمامهم بفك الحصار ، غير أن ذلك ظل مجرد حديث بين الفينة والأخرى ، محاولة لإثبات الانتماء ، ولم يعد الحذر من السلطات هو غاية همهم، وإنما الحيطة من الإرهاب ، وهكذا انشغلوا بالحرب الداخلية في الجزائر عما سواها ، حتى إذا ما دعي العربي وشهرزاد إلى ندوة في قطر حول "التنمية والتعاون في الوطن العربي" عادت إليهما العراق من جديد، وتحرك الشعور القومي مرة أخرى. * * الحلقة الخامسة عشرة والأخيرة * المصريون في زمن الدوحة.. والوصية الأخيرة