هزمت حركة ميدان التحرير حسني مبارك ودفعت به إلى الرحيل بعد ثلاثة عقود كاملة حكم فيها البلاد حكم الأباطرة والدكتاتوريين المستبدين، وارتفعت كلمة المنتفضين اللذين قضوا أياما طويلة ينادون برحيل من نعتوه بالطاغية، ويبدو أن ما اصطلح على تسميتها بثورات الشارع العربي تشق طريقها نحو أقطار أخرى بعد مصر وتونس، فأين ستحط حركة الشارع الرحال لتسجل »ملحمة جديدة « تصنعها شعوب لا أحد يدري بالضبط منتهاها و أي مصير ستسلكه في ظل مواقف الدول الكبرى التي تبدو أحيانا محايدة وفي أحيان أخرى مساهمة وفاعلة، بل قد تكون هي المهندس الحقيقي للظاهرة التغيير عبر الشارع التي تجتاح العالم العربي لأول مرة في التاريخ. سلم حسني مبارك السلطة وترك كرسي الرئاسة الذي تمسك به طيلة ثلاثة عقود كاملة، وبعد خطاب الاستفزاز الذي جدد من خلاله إرادته في قيادة المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية، سلم حسني مبارك بإرادة الشارع المصري، وانحنى وطأطأ رأسه أمام إصرار الآلاف وربما الملايين الذين غزوا ميدان التحرير بالقاهرة، واجتاحوا كل ميادين المدن الكبرى في مصر. لقد تولى الجيش المصري زمام السلطة عبر مجلس أعلى للقوات المسلحة يرأسه وزير الدفاع السابق، وأعلن الجيش المصري عن جملة من الإجراءات تصب كلها في إطار تحقيق مطالب المحتجين أو من يسمون بشباب »ثورة 25 يناير«، أهمها رفع حالة الطوارئ بعد انتهاء الظروف الاستثنائية التي تعيشها مصر، والنظر في الطعون المتعلقة بالانتخابات الخاصة بمجلس الشعب المصري »البرلمان«، وتعديل عدة مواد في الدستور مع تعليق العمل بالدستور الحالي خلال المرحلة الانتقالية. بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر أكد بان العسكر لا يشكلون بديلا للشرعية، ومثل هذا الكلام يحمل طمأنة من أن مصر لن تقع تحت حكم العسكر،ولن يحكمها جنرالا أخر لعقود أخرى، وبطبيعة الحال فإن ما صدر عن الجيش المصري موجه للداخل وللخارج في أن واحد، فهو تأكيد للقوى الحية في مصر وللشعب المصري بأن الجيش لن يستولي على منحازات ما يسمونها بالثورة، وللقوى الكبرى بأن مصر لن يحكمها مستقبلا مستبد على شاكلة مبارك يمارس القهر في أوج صوره ويحول الشعب المصري إلى قنابل مهيأ للانفجار في أي لحظة. لقد ظهر من خلال تصريحات قادة الدول الكبرى أن التغيير في مصر كان منتظرا إن لم يكن مدبرا، فحتى وإن لام الرئيس باراك أوباما على مخابرات أمريكا عدم توقعها ما حصل في مصر، وتونس قبلها، ودعا الرئيس الأمريكي إلى ترجمة طموحات الشعب المصري في الديمقراطية في ارض الواقع، وأكد استعداد أمريكا لمواصلة مساعدة مصر، وأمطر الجيش المصري بعبارات الشكر والإطراء على تصرفه الحضاري اتجاه المتظاهرين، فإن ما جاء على لسان قادة ألمانيا وفرنسا وقوى غربية أخرى تؤكد بأن سقوط مبارك مرحب به من قبل الغرب، بل ومن قبل إسرائيل حتى وإن حاولت تل أبيب تبيان تعاطفها مع النظام المصري ومع مبارك شخصيا منذ اندلاع الانتفاضة المصرية، وتخوفها من أن تلد »ثورة الشارع« نظاما غير متصهين يرمي في النيل بمعاهدة كامبديفد أو معاهدة الذل والمهانة التي حولت دولة في حجم مصر بتاريخها وبثقلها الديموغرافي والتاريخي والسياسي والاستراتيجي إلى مجرد دويلة خانعة وتابعة لإسرائيل تأتمر بأوامرها وتسير في ركبها وتيسر لها سبل الهيمنة على المنطقة وارتكاب المجازر النكراء بحق الفلسطينيين في غزة والضفة وفي لبنان. سيسجل التاريخ بلا شك أن الجيش المصري قد تصرف بمنتهى التحضر مع ما سمي ب »ثورة 25 يناير «، ويسجل أيضا بأن هذا الجيش الذي لا يزال يعتبر مفخرة للمصريين منذ ملحمة العبور، تحرك كما تتحرك جيوش الدول المتحضرة فلم يلطخ أيادي جنوده بدماء المصريين في ميدان التحرير أو غيره، ولعب دور الحامي للجميع لما قرر مبارك وزبانية النظام في مصر إشعال نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ودفعوا ب »البلطاجية« بحسب التعبير المصري، ليدوسوا بجمالهم وأحصنتهم العزل بميدان التحرير، لكن مع هذا لا يمكن أن نجزم بان الجيش المصري لم يكن معنيا بما حصل فلولا هذا الجيش لما استطاع مبارك أن يحكم مصر لثلاثة عقود ولما صمد أياما طويلة في وجه زحف الشعب المصري، ولولا هذا الجيش لكان مصير مبارك كمصير شاوسيسكو ومن على شاكلته من المستبدين قديما وحديثا. السؤال الذي يضل معلقا لأيام أو ربما لأسابيع وأشهر أو حتى سنوات هو هل ستتغير مصر فعلا نحو الديمقراطية، وهل تضحيات أكثر من 300 مصري قضوا برصاص نظام مبارك لن تذهب سدا، ولن يتم الاستيلاء مجددا على السلطة لعقود باسم شرعية »ثورة يناير«، بعدما قبض مبارك على رقاب المصريين لعقود باسم شرعية أكتوبر؟ ما قاله أوباما وغيره من زعماء الغرب عن »ثورة« مصر وقبلها تونس يجعل كل ذي عقل يخاف على مستقبل العالم بالعربي والإسلامي، فالتغيير ليس عيبا بحد ذاته، بل هو حاجة ماسة لكل الشعوب المقهورة في العالم العربي والإسلامي التواقة إلى الحرية والديمقراطية، لكن الخوف وكل الخوف هو أن يوجه التغيير حسب أهواء القوى الكبرى التي من دون شك تقف "وراءه إن لم تكن هي من تصنعه، والخوف كل الخوف هو أن يتخذ الشارع العربي كمعول لهدم بعض الدول العربية بعدما عجزت أمريكا وحلفاؤها الأوربيون عن هدم هذه الدول بآلة الحرب أو بالآلة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. ويبدو من هذا المنطلق أن ما يطبخ لكي ينفذ في الجزائر لا يقل خطورة، رغم أن الأوضاع في الجزائر هي مختلفة تماما عما هو الحال في مصر أو تونس والعديد من الدول العربية الأخرى، ورغم أن حركات الشارع عرفتها الجزائر منذ مدة طويلة، وقد أغرقت هذه الحركات البلاد في مرحلة انتقالية لم تنته بعد سنوات طويلة وفي أزمة متعددة الأوجه فرخت إرهابا لا يزال يقتل ويدمر وينهك كاهل السواد الأعظم من الجزائريين. وما من شك أن سياسة العصا في التعاطي مع حركة الشارع في الجزائر لن تجدي نفعا، وإذا كانت الجهات المبادرة بمسيرة السبت نكرة ليس لها جذور في الوسط الشعبي، وليس لها امتداد حقيقي بين الجزائريين، فهذا لا يعني بأن الشارع لن يتحرك والتسليم بأن الجزائر تختلف عن مصر وتونس، خاصة إذا كانت الجزائر معنية بمسلسل ما يسمى بالثورات الشعبية، ومعنية بحركة الشارع لأهداف معروفة. وسواء ما حدث في مصر وتونس وما قد يحدث في بلدان عربية أخرى هو انتفاضة حقيقية أم تحريك مدبر مهدت له مسرحية ويكيليكس، فلا بد من الإقرار بان الجزائر تعيش وضعا استثنائيا يحتم على الجميع، سلطة وطبقة سياسية بموالاتها ومعارضتها وكل القوى الحي بان تعمل من أجل تفادي السقوط مجددا في الفتنة التي قد تكون كارثة على أمن البلاد واستقرارها، خاصة وأن الجزائر لا تزال تعيش تهديدا إرهابيا قد يعيدها إلى نقطة الصفر في أي لحظة، وبهذا فإن أي مغامرة لن تكون في صالح دمقرطة البلاد وإنما في صالح الداعين إلى القضاء على أي وجه من أوجه الحرية والديمقراطية في الجزائر. لقد تقدمت السلطة على لسان الرئيس بوتفليقة في أخر مجلس للوزراء بالكثير من التنازلات، أهمها إلغاء حالة الطوارئ، وقد تم الشروع فعلا في ذلك، ونفس الشيء يقال عن فتح الإعلام الثقيل في وجه المعارضة، يضاف إلى ذلك إجراءات الأخرى ذات الطابع اقتصادي والاجتماعي، والمطلوب فقط هو القليل من الصبر لقياس هل هناك نية حقيقية في أعلى هرم السلطة للتفتح أكثر على المجتمع وعلى المعارضة وإعادة النظر في الممارسة السياسية والإعلامية في البلاد. لقد عاشت الجزائر زلزال أكتوبر الذي نقلها من الأحادية إلى التعددية، وعرفت البلاد محطات من العنف التي أوصلت البلاد إلى حمام من الدماء دام سنوات بطويلة، والحديث عن التغيير في الجزائر عبر الشارع هو كلام لا يبدو أنه يصدق على الحالة الجزائرية التي سبقت مصر وتونس بسنوات عديدة.