يؤكد المرحوم عبد الرحمان فارس رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة للدولة الجزائرية في مذكراته، السياسية المعنونة ب "الحقيقة المرة" La cruelle vérité »، (أن يوم 3 جويلية، هو الموعد التاريخي للاستقلال، وليس 5 جويلية، كما تقرر فيما بعد). أحيينا بالأمس، الذكرى السادسة والأربعين لعيد الاستقلال، التي تصادف يوم 5 جويلية من كل سنة ، و لقد اجتهدت المؤسسات الرسمية، والجهات المعنية في الدولة والمجتمع المدني، في إبراز مظاهر البهجة و الفرح على النفوس، إشادة، وتنويها، واحتفاء، بهذه المناسبة، وتعظيما، وتبجيلا، وإجلالا لها. ومما لا شك فيه، أن الأمم الراقية، و الشعوب المتحضرة، تعتز بسالف أيامها، و تعتد بماضي أعوامها، وتزهو بغابر أمجادها، وتفتخر بالانتصارات، التي حققتها على امتداد تاريخها، ومسيرتها الطويلة، وتاريخ بلادنا، الموغل في القدم، مليء بالانتصارات المشرفة، حافل بالذكريات الجميلة، التي ترمز، إلى أصالتنا، وتبرز عراقتنا، و تعبر عن إسهاماتنا، العديدة و المتنوعة، في بناء الحضارة الإنسانية، وفي صياغة تاريخ البشرية. إن يوم 5 جويلية، أعتمد في بداية السنوات الأولى، لاسترجاع استقلالنا، كعيد للشباب، و لجبهة التحرير الوطني، ثم أضيف إليه عيد الاستقلال، و ظل كذلك إلى اليوم، مع تعديل طفيف، تمثل في حذف جبهة التحرير الوطني فقط، تماشيا مع أوضاع التعددية الحزبية، المكرسة بموجب دستور1989 . منذ عدة سنوات، وأنا أجتهد في التحري، والاستقصاء، والبحث عن الدلالات والمعاني، التي تكون كامنة، وراء اختيار يوم الخامس من جويلية، كعيد للاستقلال، منطلقا من قناعتي الراسخة، بأن عيد الاستقلال، يجب أن ينتقى له تاريخ معبر، يحمل من الرمزية، أسمى المعاني، و أنبل الدلالات، وقد أعياني البحث، ولم أهتد إلى أي شيء إيجابي، أو ذي بال، حصل في هذا اليوم، خلال مقاومتنا، و كفاحنا ضد المحتل الفرنسي، لكن وعكس ذلك، يمثل هذا التاريخ، في ذاكرتنا الوطنية الجماعية، ذكرى النكبة والهزيمة والانكسار، والاندحار، والاحتلال، ففي هذا اليوم من سنة 1830، سقطت عاصمة دولتنا، في أيدي القوات الغازية، وفيه وقع الداي حسين، داي الجزائر، صك الاستسلام، وتم تسليم قلاع وحصون المدينة، إلى الجنرال دوبرمون قائد الغزو الفرنسي، وفي هذا اليوم، عمت المحنة بلادنا، و اشتد الكرب والبلاء على شعبنا، وبدأت مآسينا تتفاقم، وأحزاننا تتعاظم، و غابت البسمة عن شفاه أجدادنا، وداهمهم شر مستطير، و حل بهم هم وغم، ودخل وطننا، في مرحلة حداد دائم، مستمر، متواصل، طيلة، 132 سنة، سوداء حالكة، مظلمة، أرخت سدولها المدلهمة على وطننا، فاتكة، بمصير أبنائه، عابثة بمقادير شعبه. للتذكير فقط، فإن جيوش الغزو، نزلت بسيدي فرج، في يوم 14جوان 1830، ثم شرعت في الزحف نحو الجزائر، وبعد أن هزمت جيش الداي، بقيادة الأغا إبراهيم، في معركة اسطوالي، خلا، لها السبيل، وتسلمت مفاتيح العاصمة في يوم 5 جويلية 1830. في تقديري، يوم 5 جويلية، يرمز في ذاكرة شعبنا، ووجدان أمتنا، إلى يوم الاستسلام، والقهر، والتخلي عن حصن الجزائر، وقلاعها، لفائدة الجنرال دوبرمون، يوم توقيع وثيقة الهزيمة. لم أجد في سجل الانتصارات، وفي ركب الزمان، ومسلسل المجد، ما يعبر عنه يوم الخامس من جويلية هذا . من المعروف أن يوم أول نوفمبر، يرمز، إلى أغر يوم في تاريخنا، ففيه اندلعت ثورتنا، وانطلق مارد الجزائر، ليعصف بالظلم والجبروت، ويعد في نظر شعبنا، مطلع فجر، ومغير مجرى الحياة كلها، وحري به، أن يكون عيدا للثورة، ويوم 19 مارس، هو اليوم الذي رفع فيه الجيش الفرنسي الغاشم، الرايات البيضاء، وأقر صاغرا، بندية جيش التحرير الوطني أمامه، وأوقف إطلاق النار، بعد أن كان يراهن، على سحق جيش التحرير الوطني، في ربع ساعة فقط، وعليه فإن اختيار يوم 19 مارس، كعيد للنصر اختيار مناسب وملائم، يتوافق، و معاني الفوز والانتصار، وكسب الحرب. أما بالنسبة ليوم الخامس جويلية، فلم أعثر في دفاتر الخلد، وسجلات المآثر، على أي أثر له، بل وجدته، ماثلا، شاخصا، في سجلات الهزائم والاستسلام، والدموع والآلام. إنه إذا كانت الأمور، على ما هي عليه، فلم اتخاذه عيدا للاستقلال، والشباب، ولجبهة التحرير الوطني؟ لقد حرصت بعناية، على، ألا تتشابه، علي، الوقائع التاريخية، فإستجليت الأمور بكل وضوح و دقة، وتوصلت، إلى أن عملية الاستفتاء، على استقلال الجزائر، جرت يوم فاتح جويلية 1962، وأعلن رئيس اللجنة المركزية، لمراقبة الانتخابات، يوم 3 جويلية 1962 بأن إجابات الناخبين، جاءت مؤكدة لاستقلال الجزائر، وأنه في نفس اليوم قرأ الجنرال دوقول، رئيس جمهورية فرنسا، نص الإعلان، عن استقلال الجزائر، أمام مجلس الوزراء الفرنسي، وقد سلم السيد فوشي (FOUCHET) المحافظ السامي الفرنسي، المرفوق بالسيد تريكو(TRICOT) ، رسالة الجنرال دوقول،إلى السيد عبد الرحمان فارس، رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة، المتضمنة، الاعتراف باستقلال الجزائر، على الساعة 11 صباحا من نفس اليوم، كما أعلن في الوقت نفسه، عن تعيين السيد جان مارسال جونيني Jean Marcel Jeanneney ، كأول سفير لفرنسا، لدى الجزائر، و رفع العلم الجزائري ذي الألوان الثلاثة الخالدة، على الساعة الثانية عشر12) من يوم 3 جويلية 1962، بصفة رسمية، على مقر الهيئة التنفيذية المؤقتة، المستقرة ببومرداس، (rocher noir) وعلى مقر المحافظ السامي الفرنسي، وتم في الآن نفسه، تحويل الصلاحيات، ونقل السلطات. إن المرحوم عبد الرحمان فارس، رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة، يؤكد في مذكراته السياسية المعنونة ب " الحقيقة المرة" « La cruelle vérité » "أن يوم 3 جويلية، هو الموعد التاريخي للاستقلال، و ليس 5 جويلية ،كما تقرر فيما بعد". إذا كان الاستفتاء، جرى كما هو ثابت، يوم الفاتح جويلية، وإعلان النتائج، وإمضاء رسالة الاعتراف، وتعيين سفير فرنسا، ورفع العلم الجزائري بمقر الهيئة التنفيذية المؤقتة، بصفة رسمية ببومرداس، في يوم 3 جويلية، فما المغزى، والغاية، من اتخاذ يوم 5 جويلية كعيد للاستقلال، بدلا من يوم 3 جويلية، مع إقران، عيدي الشباب، وجبهة التحرير الوطني بهذا التاريخ. إن الأمور تشابهت علي فعلا، ولم أجد لها تفسيرا مقنعا، أو مسوغا منطقيا، مقبولا، ويبقى في نفسي، من الأمر شيئا، وفي قلبي منه ريب، فأنا لا أستطيع هضم اختيار يوم يرمز إلى الأحزان، والآلام، والدموع، والانكسار، والاندحار، ليكون يوم فرح و مرح وابتهاج واحتفال، يحمل معاني، ودلالات الفتح،والفوز، والانتصار، واسترجاع الاستقلال. إن مزج الحزن بالفرح، وجمع الكآبة مع البهجة، وازدواجية الضحك مع البكاء، تعد في واقع الحال، معادلة معقدة، استعصى علي، أنا العبد الضعيف، حل مجاهلها، فهل من ماهر، حاذق، أريب، لبيب، يقوى على سبر الأغوار، وكشف الأستار، لينئني، عن كنه عيد، و مكنون ذكرى وطنية، تنطوي في الآن معا، على دواعي الغبطة و دوافع السرور، و أسباب وبواعث الاكتئاب والحزن، بما يبكي، ويضحك الأمة، في ظرف زمني واحد.