يقول الباحث الفرنسي بول فيريلو Paul Virilio ، بأن أسلحة الاتصال تفوقت، في زمننا هذا ولأول مرة في تاريخ الحروب، على القدرة التقليدية للأسلحة التدميرية. نفس الفكرة يبلورها أيضا الكاتب (آلبار لونشون) Albert Longchamp الذي يؤكد بأن من يراقب الإعلام والاتصال هو الحاكم المفترض للكرة الأرضية. إذن فالاتصال، في زمننا هذا، لم يعد مجرد بذخ أو مجرد رغبة يمكن أن نحققها أو نتجاهلها؛ بل غدا من المجالات الإستراتيجية التي توليها الحكومات والمؤسسات في العالم أهمية خاصة. في هذا العالم الذي يسير أكثر فأكثر، وبسرعة فائقة، نحو مجال افتراضي بلا حدود ولا ضوابط، أصبحت فيه مسألة التحكم –حتى لا نقول السيطرة- في وسائل الاتصال عنصرا أساسيا في استراتيجيات السيطرة وفي حروب تضليل وتوجيه وتحريك الجماهير عن بعد. منذ حرب العراق، أدخلت تغييرات كثيرة على الإستراتيجية العسكرية للولايات المتحدةالأمريكية وكذلك على استراتيجيات بعض الدول الغربية التي لازالت تحن لزمن الاحتلال والسيطرة على مناطق معينة من العالم. مرحلة ما بعد الحرب الغربية الأولى على العراق شهدت ظهور مجموعة من الدراسات، في أمريكا وأوروبا، والتي تناولت بالكثير من التحليل دور الاتصال في هذه الحرب التي قيل وقتها أنها كانت أول حرب اتصالية في العالم، ولعل أهم ما كتب في هذا المعنى هو كتاب الباحث الفرنسي بودريار الذي أختار له عنوانا مثيرا: حرب الخليج لم تقع. في كتابه، يقول بودريار، أن هذه الحرب تختلف كثيرا عن الحروب الأخرى التي أعتدنا عليها فهي تشبه إلى حد كبير ألعاب الفيديو. "العاب الفيديو". لعله أحسن وصف يمكن أن توصف به الحروب الحديثة فهي تخاض من وراء كاميرات القنوات التلفزيونية وبوسائل ملتوية وبأسلحة غير تقليدية وغير تدميرية أحيانا لكنها شديدة المفعول. أسلحة لا تدمر المنشآت ولا تقتل جسم الإنسان لكنها تدمر إرادات البشر في التحرر وتقضي على رغبة الشعوب في العمل والتطور. هي تزرع الفتن وتشجع الفساد وتدعو إلى الانعتاق مما تسميه بالطابوهات وكل ما له علاقة بالوطن والوطنية. المحتوى التضليلي والتنويمي نكاد نلمسه يوميا في مختلف القنوات التلفزيونية التي أصبحت تعد بالمئات في المنطقة العربية وحدها والتي تتنافس فيما بينها من أجل اختراق بيوت المواطنين العرب والوصول حتى إلى مخادع نومهم. قنوات من كل الأنواع والأشكال: من تلك التي تخصصت في الأخبار المنتقاة حول مناطق دون غيرها والتي تقدم حصصا تستضيف ضيوفا يبدؤون حواراتهم بالصراخ وينهونها كما بدأوها مختلفين غير متفقين على شيء وغير مقدمين لأية حلول لما يعانيه المواطن العربي. قنوات أخرى تتابع، على مدار اليوم، سباق الخيل التي تعرض لساعات طويلة متتالية سباقات الإبل مرورا بالقنوات الدينية التي يمارس أصحابها ما يسمونه بالرقية الشرعية على المباشر ويصدرون الفتوى البليدة؛ وتلك التي تدعو الناس إلى الانزواء والدعاء وترك أمور الدنيا. كل شيء أصبح موجودا في عالم الاتصال إلا الموضوعية. هناك قاعدة في مجال الاتصال تقول بأن الحياد غير موجود إطلاقا في وسائل الإعلام والاتصال وبالتالي لا يمكن أبدا أن ننتظر من أية وسيلة إعلامية دولية، مهما كانت درجة الموضوعية التي تتصف بها، أن تنقل أخبارا وصورا وتصورات حيادية. هذا غير ممكن لأن لكل وسيلة اتصالية خطها الافتتاحي كما أن الاتصال يكلف غاليا خاصة بالنسبة للسمعي بصري وعليه لا نتصور أن هناك، في أية منطقة من العالم، من يبدد ماله من أجل إنشاء قناة تلفزيونية أو إصدار جريدة من اجل أن يقدم خدمة إعلامية صافية بدون أي هدف توجيهي أو تجاري أو تأثيري لأناس معينين. كل وسيلة اتصال لها خطها ولها رسالتها التي تقوم بتبليغها في إطار إستراتيجية اتصالية معينة. هذا هو منطق الأمور في مجال الاتصال. الحديث عن وسائل الاتصال وبهذه الطريقة لا يعني أبدا أننا نلومها على ما تقوم به. لا، أبدا، فهي تؤدي مهمتها لصالح من أنشأها أو مولها. كل اللوم يقع، فقط، على المسؤولين الذين لا يدركون، في الوقت المناسب، مدى الأخطار التي تحدق بالبلد من جراء مواصلة انتهاج سياسة الغلق الإعلامي. الجزائر اليوم هي من البلدان القليلة جدا في العالم التي يواصل القطاع العمومي فيها، رغم هزاله، احتكار مجال السمعي بصري، كما إنها من البلدان القليلة، في العالم، التي لا تملك إستراتيجية اتصالية ولا تولي الأهمية اللازمة لقطاع الاتصال وما تعلق به من بحث وإنتاج وخطط وتكوين راق ومتخصص، رغم ما لهذا القطاع، كما أسلفنا، من أهمية. إن الوضع الحالي هو غير سليم على الإطلاق ويعرض الأمن الوطني لأخطار كبيرة لعل أهمها هو أننا نفتقد للمشارب الفكرية والثقافية والإعلامية والفنية المشتركة، وأن أبناءنا لم يعودوا يتابعون على الإطلاق ما يجري عندنا من أحداث ولا يكادون يعرفون من أمور تاريخنا وبطولات رجالاتنا وسير رموزنا شيئا. القول بأن الغلق الإعلامي، في زمن تكنولوجيات الإعلام والاتصال، يهدد الأمن الوطني ليس مبالغة بل حقيقة واقعة لأن الأمن والدفاع الوطنيين هما أوسع من مجرد حماية الحدود أو تتبع اللصوص ومهربي السلاح. الأمن الوطني يشمل كل شيء في البلد: من الأمن الفكري إلى الأمن الغذائي مرورا بما يمكن أن نسميه بتأمين الأجيال لصالح الوطن.