انتظرنا خطاب السيد رئيس الجمهورية بكثير من اللهفة لأننا كنا شبه متيقنين بأنه سيحمل أنباء سارة عن فتح مجال السمعي بصري أمام الخواص الجزائريين، لكن ذلك لم يحدث. كل ما جاء في خطاب الرئيس، في ما يتعلق بهذا الموضوع، هو أن قنوات متخصصة ستنشأ وأن القنوات العمومية ستفتح أمام الرأي الآخر وأن حرية التعبير ستضمن في هذا الإطار. صاحب هذه الكلمات يناضل، بالكلام والكتابة، منذ سبع سنوات تقريبا من أجل إقناع المسؤولين الجزائريين بضرورة فتح السمعي بصري وذلك ليس لرغبة في إنشاء قناة تلفزيونية ولا بهدف إيجاد منابر للتعبير عن آراء معينة أو مواقف خاصة. لا هذا ولا ذاك، لأن الأولى غير ممكنة بسبب عدم توفر المادة والثانية لا نبحث عنها لأن كل ما نريده هو سلامة الجزائر ووحدتها ورقيها. نحن ننطلق، في الدعوة إلى فتح مجال السمعي بصري، من حقيقة أن النضال، كما يقول أحد الباحثين الفرنسيين، من أجل تلفزيون وطني هو مثل النضال من أجل مدرسة وطنية وثقافة وطنية. التلفزيون في زمننا هذا لم يعد مجرد وسيلة للفرجة أو أداة لإبراز الحاكم في صورة الزعيم الفذ المنقذ، ولا هو بقى في حدوده القديمة كوسيلة إعلام تستعمل لإخبار المواطنين بأحداث الوطن والعالم والترفيه عنهم من خلال بث بعض الأفلام والمسرحيات والمسلسلات. التلفزيونات اليوم هي عبارة عن مؤسسات إستراتيجية تولى لها كل الأهمية والعناية. لعله من الضروري التذكير بأن التغيير، في هذه الوسيلة الاتصالية، بدأ مع البث عبر الأقمار الصناعية، وكانت أول تجربة لاستعماله في تضليل الرأي العام هو أثناء الإطاحة بالرئيس الروماني شاوسيسكو. ما قامت به بعض القنوات التلفزيونية الأوروبية وعلى رأسها القناة الفرنسية الخامسة وقتها اعتبر في ما بعد أكبر عملية تضليل في التاريخ. حادثة شاوسيكو، أصبحت نموذجا يدرس في معاهد الاتصال عبر العالم الغربي، وهي نفسها الطريقة التي طورت لتخرج في سيناريو جديد أعد خصيصا للعراق حيث تابع العالم أجمع الدور الذي قامت به القناة الأمريكية »سي آن آن« وتصريحات المسؤولين على مستوى العالم الذين قالوا بأن هذه القناة هي عضو آخر كامل الحقوق بمجلس الأمن. تصريحات ومذكرات قادة العالم الذين لعبوا أدوارا بارزة في السياسة الدولية خلال العشرين سنة الأخيرة تؤكد بانهم كثيرا ما كانوا يجدون أنفسهم متورطين في قضايا دولية ومضطرين لاتخاذ قرارات استعجاليه تحت ضغط القنوات التلفزيونية الدولية التي كانت تنقل صورا تجعل الرأي العام يتحرك في هذا الاتجاه أو ذاك. العالم العربي الذي بقى بعيدا، لسنوات عديدة، عن تأثير القنوات الدولية بسبب اللغة التي كانت مستعملة في هذه القنوات لحد بداية الألفية الثالثة حيث كانت النخبة المتعلمة والتي تجيد اللغات الأجنبية وحدها من تتابع ما كان يبث في هذه القنوات، هذا العالم العربي أصبح يستقطب في هذا الوقت بالذات أنظار العالم واهتمام القنوات التلفزيونية الدولية. التلفزيونات الدولية، هي ظاهرة عصرية ولعل المنطقة العربية هي اليوم من بين المناطق الأكثر تعرضا للبث الدولي. إضافة للقنوات الدولية التي نشأت في المنطقة العربية كالجزيرة والعربية فأن قنوات دولية عديدة أصبحت لها نسخا باللغة العربية. ولأن الاتصال هو تأثير في حد ذاته فأنه لا مجال للحديث عن الحياد في التلفزيون إذ لا توجد وسيلة اتصال واحدة حيادية. كل قناة تلفزيونية لها خطها الافتتاحي ولها أهدافها الظاهرة والخفية وهي أهداف تكاد لا تلتقي أبدا والمصلحة الوطنية والوحدة الوطنية لأية دولة كانت. هذا الوضع، الذي أصبح عليه العالم في مجال الاتصال عبر الفضاء، جعل الأوطان مفتوحة أمام كل الآراء التي تصل بدون أي حاجز، ولأن الشعب الجزائري ولأسباب عديدة هو من أكثر الشعوب اهتماما بالأمور السياسية وبما يقع في محيطه، فانه أصبح من الشعوب الأكثر استهلاكا للرسائل الاتصالية الوافدة عبر القنوات الدولية والأجنبية. بالملاحظة، نستنتج بأنه لم يعد هناك بيت جزائري، بما في ذلك البيوت القصديرية، ليس على سطحه أو على نافذته مقعر هوائي. الدراسات العديدة التي أنجزت من طرف طلبة علوم الإعلام والاتصال كلها تؤكد بأن عدد الجزائريين الذين بقوا أوفياء للتلفزيون الوطني هو في تناقص مستمر وينحصر هذا العدد في من تجاوز سنهم الأربعين سنة ولا يتعدى الحجم الساعي لاستقبال القناة الوطنية بضعة دقائق في اليوم. المعروف، حسب دراسات عديدة أنجزت في الغرب، أن التلفزيون العمومي لا يمكنه أبدا، مهما كان مستوى العاملين به أن يلبي رغبات معظم المواطنين وأن يستجيب لأذواق مختلف الشرائح والفئات. هذا معروف، والمعروف أيضا أن التلفزيون العمومي الجزائري لا يمكنه لأسباب عديدة، قد نعود إليها في مقال آخر، أن يكون تلفزيونا متفتحا على كل الآراء وأن يضمن التعبير الحر لكل الجزائريين والجزائريات. الوضع اليوم هو كالتالي: تلفزيون عمومي جزائري يفتقد للمبادرة والجرأة السياسية وتتحكم فيه أطراف عديدة، ويتلقى التعليمات من جهات مختلفة، ويتعرض لضغوطات المسؤولين وغضبهم عندما لا يبث نشاطاتهم العادية، وهو لا يتوفر ولو على خلية بحث وتقييم تقوم بتنبيه المسؤولين عنه إلى ما يجب وما لا يجب فعله. المسؤولون عن هذه المؤسسة لا يهمهم من أمر المواطنين شيء، فكل ما يعنيهم هي نشرة الثامنة التي يسهرون فيها على ترتيب الأخبار بطريقة بروتوكولية تفتقد لأدنى حدود المهنية. هذا الوضع الذي هو عليه التلفزيون العمومي، يواجهه عزوف فعلي من المواطنين على برامجه. الرأي العام الجزائري هو اليوم في متناول القنوات الأجنبية توجهه كيفما شاءت وإلى حيثما شاءت ولعل الانتفاضات التي تقع هذه الأيام في المنطقة العربية ما كان لها أن تكون وبالشكل الذي تجري به لولا القنوات العربية الدولية. السقف اليوم منزوع والخطاب الوحيد الذي يستمع إليه الرأي العام الجزائري ويقتنع به هو ما تقوله القنوات العربية الدولية. السقف منزوع حقا ومئات القنوات تستقبل في بيوتنا فكيف لا يحق للجزائري أن يستقبل قناة جزائرية تنشأ من طرف جزائريين حسب قانون جزائري وببرنامج أعباء واضح وتحت أعين عقلاء المهنة الذين يعينون أو ينتخبون في مجلس أعلى للسمعي بصري؟ إن الأمة التي تفتقد للرموز الوطنية وللفكر الوطني والتي لا تتوحد مواقفها حول القضايا الوطنية الكبيرة، خاصة ما تعلق منها بالأمن الوطني والوحدة الوطنية هي أمة تسير نحو الخطر. إن الخطر لكبير وتأثير القنوات الدولية على الأمن الوطني نلمسه في كل يوم أكثر فأكثر، وأمام كل هذا لا نفهم ولا نستطيع استيعاب موقف السلطة في بلدنا من مسألة فتح مجال السمعي بصري أمام الخواص الجزائريين. نحن نتكلم عن خواص جزائريين بمال جزائري نظيف وببرامج جزائرية مهنية تعيد غالبية الجزائريين إلى البيت الجزائري لنناقش قضايانا الجزائرية بيننا ولنساهم في التعريف بالجزائر في الخارج. هناك كفاءات جزائرية مهمشة وأخرى اضطرت للهجرة إلى القنوات الأجنبية وهي من تحقق الكثير من الرواج لمحتوى هذه القنوات. لعل ما ينقص الجالسين في أعلى هرم السلطة هو شيء من الثقة في كفاءات ووطنية وإخلاص الشباب الجزائري للجزائر أولا وأخيرا.