يظهر أن القوم في بلادنا استهوتهم المآسي التي تجري في بلدان أشقائنا العرب فالبعض بطريقة أو بأخرى يرغب أن يستنسخ تلك المآسي والمهازل التي حولت هذه الدولة أو تلك إلى لعبة بين جموع الشباب ، بوعي أو بدون وعي إلى عنف وكراهية واقتتال بين أفراد البلد الواحد، أو العشيرة الواحدة أو المدينة الواحدة إلى أعداء متقاتلين وفي نهاية الأمر الجميع منهزمين، إنها فرجة ومسرحا للتلهي، وميدانا للتجارب في ميدان العلوم الاجتماعية، والسياسية وفرصة للتنظير، واكتشاف المستور لحقيقة المجتمعات العربية التي كانت تعتقد أن لديها كيان الدولة بالمفهوم الغربي الذي أنشأه هذا الكيان ونظّر له فلاسفته وفقهاءه منذ دولة المدينة لدى الإغريق، و على الدوام مفهوم الدولة، وفكر الدولة، وعلاقات الدولة، ورجال الدولة ينمو، ويتطور ويتحسن عندهم ..، ويباغتنا في بلداننا من صنفوا أنفسهم مفكرين ، ومحللين، وخبراء سياسيين، ومتتبعين فراحوا يصبون الزيت على النار ، بما يزعمون من حقائق ومحاكمات على كل ما هو حتى اخضر وجميل في هذه البلاد إنها ثقافة الفكر المنهزم واللون الأسود والمعاناة والبؤس...الخ كما هو معروف اكتشاف علم الحساب، ونظرية الأعداد كانت وسيلة جذب نحو الحقيقة الخالدة، ومدها بروح فلسفية تحملها على النظر إلى أعلى،لا، إلى الأسفل الخ.. وفي هذا الشأن يقول أفلاطون في جمهوريته:" ليست مهمة العلم الرياضي خدمة التجار في عملية البيع والشراء، كما يعتقد الجهّال، بل تيسير طريق النفس في انتقالها من دائرة الأشياء الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة الخالدة...." إذا ما وضعنا نصائح واجتهادات بعض رجال السياسة عندنا هذه الأيام من خلال ما تنقله الصحف الوطنية أكاد أقول يوميا، من خلال رسائل موجهة إلى إحدى مؤسسات الدولة ، أو من خلال رسائل موجهة إلى الرأي العام لإقناعه على ما يبدو، وفي مجملها وكأنها وصفات علاجية جاهزة لمرض استعصى علاجه، وبقدرة قادر وكأن الله ألهمهم الحكمة والعلم فتقدموا بأنواع الإرشادات الطبية ووسائل العلاج السلسة.... يمكن توزيع وسائلهم العلاجية، بل مطالبهم وما يحقق مصالحهم ما ظهر منها وما بطن إلى ثلاث اتجاهات: 1 الاتجاه الأول: ربط ما يسميه بالأزمة السياسية في الجزائر بما يجري في بعض بلدان العالم العربي، وان الجزائر تحتاج إلى تشييد سياسيي كبديل لطريق الفوضى والعنف..، وان غياب الديمقراطية الحرية للأفراد والشعب ، وكذا العدالة والمواطنة هي سبب الاحتقان، والتشنج والمرض السياسي بصفة عامة، وان دولة القانون تقوم على أساس عقد وطني اجتماعي وسياسي، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق مجلس انتخاب مجلس تأسيسي، وبذلك تتحقق عظيمة كما يتوهمون بان تصبح السياسة غير منفصلة عن النشاط المدني الحقيقي... وحسب زعمهم أن ذلك سيؤدي إلى إنهاء الصراع الدائم داخل الحزب لكسب مواقع داخلية. كذلك تكسب الأحزاب النشاط اليومي والدائم ولا يبقى نشاطها مرتبطا ما بين موعدين انتخابيين، ويزول التفاوض على الامتيازات بين مناضلي الأحزاب والأجهزة، وان لاتبقى البلاد بين طاعون الحرب الأهلية، وكوليرا الدكتاتورية السياسية أوالدينية.... هذه النتائج المبشر بها لم يتوصل إليها حتى جون جاك روسو في كتابه الثمين " العقد الاجتماعي" تلكم هي أهم المبررات،والنتائج التي تتحقق حسب التوهم ووجهة الرأي السياسية.. التي على أساسها تم اقتراح انتخاب مجلس تأسيسي...الخ بهذه الحساب والترتيب والضم والجمع والناتج والحاصل المتمثل حسب هذا الزعم في اقتراح انتخاب المجلس التأسيسي ، وكأنه نتيحه حتمية ونهاية منطقية ، كما كان للتحليل السطحي القائم على أن ما يحصل أو سيحصل في الجزائر هو امتداد لما تعرفه الدول العربية من مطالب واضطرابات واقتتال الخ.. كحجة أيضا لتعزيز المسعى بالطلب الجديد القديم.. وهي مغالطة أخرى ، واستنتاج غالط لما سنوضحه في حينه. وحتى يبقى التاريخ شاهدا على الأحداث والوقائع والمواقف ، التي مازالت مدونة ومحفوظة إلى يومنا هذا دون زيادة أو نقصان، كما أن شباب الستينات مازالت ذاكرته حاضرة وأمينة، ومسجلة للحدث والحديث، لذلك فلا يعقل أن نقوم بمثل الحماقة ونغالط الرأي العام وان نضلل الشباب الصاعد بمثل هذه الترهات الخ.. إن مطلب المجلس التأسيسي ظهر كرد فعل وبرنامج عمل ، منذ الدخول في العارضة الغير قانونية آنذاك والمخالفة لقوانين الجمهورية، وعن خلفية واضحة كتعبير عن عدم الرضا ، بعد إن انتهى الأحرار الثوار من ترتيب البيت بعد الاستقلال وبالاتفاق الجماعي بالنسبة لميثاق أو برنامج طرابلس، الذي صادق عليه با لإجماع المجلس الوطني للثورة الجزائريةبطرابلس في جوان 1962. من حيث محتواه الديمقراطي، ومحتواه الشعبي، ومحتواه الاقتصادي ،والاجتماعي والثقافي، تحت عنوان:" من اجل تحقيق المهام الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية الشعبية. " وبعد الشروع في توزيع المهام السياسية والإدارية على أعضاء المجلس الوطني وإطارات الثورة التحريرية حصل الاختلاف وعدم رضا بعض رموز الثورة آنذاك، وتجسد ذلك الاعتراض في اللجوء إلى تأسيس حزبين معارضين بطريقة مخالفة لقوانين الدولة يحمل كل منهما الاختيار الاشتراكي كمبدأ وهدف الخ..، احدهما مازال مستمرا وأصبح ينشط بصفة رسمية منذ دستور1989 إلى يومنا هذا.. تم الاستفتاء في نفس المرحلة حول صلاحيات الجمعية التأسيسية، وذلك بتاريخ 20 سبتمبر 1962، كان التصويت عليها (بنعم) يتمثل في حوالي: 5.265.377 وما التصويت ب (لا) فيتمثل في : 18.637. وبعد ذلك جاء الاستفتاء على دستور 1963، بتاريخ 8 سبتمبر ، بعد أن صادق عليه المجلس الوطني يوم 28 أوت 1963. بلغ عدد الأصوات المعبر عليها (نعم) ب: 5.166.185، وبلغت الأصوات المعبر عليها ( لا) ب: 105.817، جاء هذا الدستور مطابقا للخط الإيديولوجي الذي رسمه مؤتمر طرابلس. كان الرهان معقودا بعد الرجوع إلى الوطن وممارسة المهام السياسية والإدارية والعسكرية ، وجو الحماس الشعبي كفيلة بتضميد الجراح والقضاء على الخلافات بسبب توزيع المهام والمسؤوليات وبصفة عامة كل الاختصاصات الشرعية لاستلام القيادة، وخاصة بعد إنهاء مهام الحكومة المؤقتة، وانتهاء أزمة صائفة 1962، بين الولايات الخ.. اختفت المبادئ التي قامت عليها الثورة، وبدأ الصراع على السلطة خفيا ثم أصبح جهارا، وبدأت الأهواء الشخصية تسيطر على مجرى الأحداث من اجل السلطة والجاه، والميل للمغامرة ورغبة شديدة للقيام بدور البطل الثوري، وعرفت الجزائر المستقلة محنة أخرى بالتحريض للصعود إلى الجبل مرة أخرى..وقد ذهب ضحية هذا الطيش المتهور الذي قامت به جماعات ساخطة متذمرة وقيامها بتحريض جهات معينة للدخول في هذا الصراع ، ونتج عن هذه المغامرة استشهاد مجاهدين، لا لسبب الاّ لأنهم رفضوا المغارة ، ورفع السلاح ضد شعبهم وإخوانهم المجاهدين بعد أن حرروا الجزائر بتضحيات جسام.. ومجمل القول أن المطالبة بمجلس تأسيسي لا يوجد ما يبره لا تاريخيا ، ولا سياسيا، ولا أخلاقيا ، وقد يكون الإبقاء على هذا المشروع ذكرى من ذكريات مرحلة من تاريخ الجزائر الحديثة الاستقلال، وذكرى لمعارضة غير دستورية مارست نشاطها في الخفاء ، واتخذت من ارض الدولة المستعمرة نفسها سابقا قاعدة للتنظيم والتشويش، أما إحياء المشروع من جديد كمعالجة للأزمة الجزائرية على حسب زعم هذا الرأي التي تندرج بصفة طبيعية في إطار الأزمات الجارية في اغلب البلاد العربية، مثل هذا الاستدلال الخاطئ لا يحتاج إلى بذل مجهود من اجل تتفيهه، وتسفيهه ذلك أن ما يحدث من عنف وفوضى في بعض الدول العربية، إنما الجزائر قد عاشته منذ مؤامرة 1988، وقد كرص هذا الانتقال دستور23 فيفري 1989، الذي سمح بالتعددية السياسية، والحزبية، والحريات الأساسية، والفصل بين السلطات، ودولة القانون، وحرية الشعب في اختيار ممثليه، باعتباره مصدر السلطة في الجزائر، بهذه القواعد الديمقراطية، والقيم الإنسانية التي لاتختلف عما هو متعارف عليه لدى اعرق الدول الغربية في التطبيق الديمقراطي ، ومع ذلك فباب الإصلاحات ، وتحسين الأسلوب الديمقراطي لا يمكن آن تستغني عنه حتى من تمثل قبلة الديمقراطية والحريات الفردية كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ومن باب أولى النموذج الجزائري الذي بلا شك يبقى باب التعديل والتحسين فيه ثابتا من ثوابت الحياة السياسية في بلادنا، وهذا المسعى مثل ويمثل دعوة ملحة من حزب جبهة التحرير، من اجل الإثراء و التحسين المستمر لمنظومتنا التشريعية في جميع جوانبها، أما الذين اكتشفوا بان الجزائر ليست موجودة إلاّ بعد أن حصل وما زال يحصل في أنظمة بعض الدول العربية، وأرادوا استنساخ ذلك لزرع بذور الفتنة ، وإحياء زعامات ومغامرات مضى عليها ما يقارب من نصف قرن وبالتدقيق ما بعد 1962، ذلك هو مشروع الجزائر في الماضي. أما جزائر الحاضر والمستقبل فهي باختصار جزائر ما بعد د دستور 1989، وما لحقه، ويلحقه من تعديلات ضرورية ومفيدة لتنظيم الحياة السياسية في بلادنا ، من اجل تثمين وتفعيل الحياة الديمقراطية ، ودولة القانون في بلادنا من منظور مؤسساتي مسئول يزن الأمور بأوزانها ويضع الأوضاع في أماكنها، لامكانة فيها للضغوط ، والمساومات، والانتهازية بعيدا كل البعد عن التهريج السياسي ، والإعلامي، جزائر ما بعد المصالحة الوطنية، الجزائر الآمنة جزائر المخطط الخماسي الذي يجسد انشغالات الشعب قولا وفعلا، أما الأبصار والبصائر التي اعمتها الأنانية وجاذبية المحراب فسوف يحاكمها غدا الشعب وحينها ترجع إلى أوكارها تجر خيبة الأمل والمشاريع المهزومة...