كان البرامكة من أعظم الناس شأنا وأنداهم يدا وأخفهم مديحا على ألسنة الشعراء.. كان ذلك على عهد الخليفة المهدي ثم عصرا من خلافة ابنه هارون الرشيد أيام الدولة العباسية المجيدة. لكن شاءت الأقدار أن تدور الدوائر وتفعل الأيام بهم فعلتها، فانقلبوا من حياة الترف والعز إلى وحشة السجن والأسر.. وأمام هذا الوضع الجديد، سأل جعفر بن يحي البرمكي أباه وهما في قيد الخليفة هارون الرشيد؛ يا أبت، أبعد الأمر والنهي والأموال العظيمة صيرنا الدهر إلى القيود والسجن ولبس الصوف..؟ فقال له يحي بن خالد -وقد كان حكيما-: يا بني، لعلها دعوة مظلوم سرت بليل فغفلنا عنها ولم يغفل الله عنها..؟! فكم دعوة أطلقها فقراء العرب من الخليج إلى المحيط، وطوال أعصر مديدة من الظلم والاستبداد.. وكم منها دعوات غفل عنها حكام العرب ولم يعيروها حقها..؟ فلا غرابة اليوم إذا، إن شهدنا زلزلة بعض العروش وانهيار البعض الآخر، فالظلم مآله حتما غياهب الظلمات.. كان ذلك ولا يزال وسيبقى سنة ماضية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي الله عزاء المستضعفين في كل الأزمنة والأمكنة. الفقر، التخلف، الجهل، الأمراض، سوء التغذية، غياب الحريات.. وحالات من اليأس والقنوط لم تجد في غير الوطن العربي أرتع ولا أمتع ميدانا لغرز جذورها ومد فروعها، فيكبر بذلك حجم الأزمة وتتشعب مآسيها، ليصبح الوطن العربي موطنا لكل الأوبئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. ولم يعد العالم المتقدم ينظر إليه إلا من باب أنه مصدر مهم ومضمون للطاقة والخامات.. والإرهاب، أو أنه متحف مفتوح على بقايا حضارات وآثار أمم خلت كانت قد مرت من هنا، أو أنه في أحسن الأحوال، وطن للسكينة والسياحة والاسترخاء. وبالنظر إلى ثقل هذه التراكمات، لم يعد في حسبان أحد أن ينتظر من الشعوب العربية هبة أو نهضة أو ثوران، ولذلك جاء حراك الشارع التونسي ثم المصري مفاجأة من العيار الثقيل كما يقولون، خاصة وأن الشباب في هذين البلدين قد استعملوا أكثر الوسائل التكنولوجية تقدما لرص الصفوف ولم الشمل وتبليغ الرسالة. لقد انبهر العالم وأصيب الكثير بالذهول، وهم يرون أكوام البشر تلك تتحول في ظرف قياسي إلى أمواج عاتية رهيبة تغمر الشوارع والمدن فتبعث فيها الحياة والعنفوان وتكنس عنها ألوان الكآبة والأحزان المديدة. لقد حولت الأنظمة العربية المجتمع برمته إلى مجرد قطعان هائمة.. يجمعها ناقوس وتفرقها عصا. الشيء الذي جعل من النشاط السياسي المعارض خطرا داهما لا يجرؤ أحد على ممارسته، وبالتالي صارت الأنظمة تعبث كيف تشاء وعلى رأسها مستبدون أبدعوا في تجسيد "الحكمة" العربية القائلة بأن السلطان كالنار؛ إن اقتربت منه كثيرا احترقت بحره وان ابتعدت عنه مت بردا..! أنظمة مفلسة جعلت من المواعيد الانتخابية والمحطات الديمقراطية كرنفالات للتهريج ليس إلا. ويتضاعف الشعور بالازدراء لهذه الأمة من لدن المتابعين للشؤون العربية وما أكثرهم، عندما يقفون على مدى هشاشة الوعي السياسي الذي يحكم الشارع ويؤطر المجتمع.. هذا المجتمع العريق الذي لازال يبحث عن نفسه وسط متغيرات كثيرة متسارعة يعيشها العالم. أثناء تنظيم الانتخابات المصرية الأخيرة، شحنت السلطة أنصارها وأخرجته إلى الشارع لمواجهة أي شكل من أشكال المعارضة، فظهر الشارع المصري بوجه لا يجلب له الاحترام؛ فلغة الشتم والتهم والمواجهات بالنعال والعصي والسكاكين وحتى السيوف.. فكان الجرحى والموتى من أجل انتخابات محسومة النتائج سلفا. وبالطبع لم يكن ذلك الأسلوب الأمثل الذي كان لابد أن يتبناه مجتمع بمستوى التاريخ المصري العظيم..! إنها الاهانة الممنهجة من طرف السلطة لزرع الإحباط وتأصيل الانهزامية وتقزيم طاقات المجتمع. وبالحديث عن مصر لابد من الإشارة إلى وضع الكيان الصهيوني الذي قام على أشلاء الأبرياء بفلسطين منذ أقل من ستين عاما، هذا الكيان الإرهابي استطاع بثلة من القتلة والمجرمين أن يبني ديمقراطية حقيقية في مجتمع لقيط وبشعب شتات.. على الأقل أن قادته على صلفهم لم يجعلوا من مواعيدهم الانتخابية مسرحيات ومهازل للفرجة تتناقلها وسائل الإعلام على سبيل الشماتة والفكاهة والاستخفاف، ولم يجعلوا من المجتمع الصهيوني مسخرة تتداول حكاياتها الجرائد والقنوات وكل وسائل الإعلام العالمية. لما كان الفراعنة -قدماء المصريين- ملوكا وأصحاب شأن في السياسة والعلوم، يبنون أكبر الحضارات وأعظمها على الإطلاق، لم يكن العبرانيون سوى عبيدا وخدما لفلح الأرض وجلب الماء ورعي البهائم على ضفاف النيل..؟! أما اليوم وبعد ثلاثة آلاف سنة، صار "العبيد" يعلمون سادتهم أصول الديمقراطية ومبادئ المنافسات الانتخابية النزيهة، وأصبح "نتانياهو" زعيم العصابة الدموية لآل صهيون يفخر أمام العالم بأنه زعيم بلد الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كله. والأغرب منه أن يصبح هذا المجرم محاميا ومدافعا مستميتا عن "الريس" ونظامه الموصوف "بالحكمة" والاعتدال، وذلك بمنطق الصهاينة طبعا. لقد أصبح الميزان الحقيقي لقياس درجة الكرامة والكبرياء للأمم والشعوب، يكمن في مدى تبني الوصفة الديمقراطية واحترام نتائجها بصورة نزيهة وشفافة تكون تكريسا للثراء الحضاري والموروث الثقافي والتواصل الاجتماعي.. وقد يتجلى كل ذلك من خلال مواعيد انتخابية شريفة تتساوى فيها الفرص وتحترم فيها الآراء وتقدس فيها الأصوات. الآن وقد انفجر الوضع ولم يعد يحتمل العودة إلى الوراء، ها هي مصر تواجه نفسها بنفسها وتقرر مصيرها بإرادة أبنائها وبقيادة شبابها.. فإن كان شأن تونس قد قارب النهاية وأن أهداف الثورة الشبابية قد أتت على الأقل نصف أكلها، من منطلق أن أي نظام سيأتي لا يمكن أن يكون أسوأ مما مضى وبالتالي فإن الرسالة قد وصلت. أقول؛ فإن الأمر لا زال في مخاض بميدان التحرير في قلب القاهرة، وأن العالم بأسره يتابع باهتمام بالغ ما يجري على الأرض وكأن شيئا كبيرا سيحدث لا محالة. إلى حد الساعة لازال "الريس" يتحدى الجموع المطالبة برأسه، والظاهر أنه نجح ولو نسبيا من خلال ما أظهر من مقاومة شرسة لزلزلة عرشه إلى درجة أنه استطاع درء الضغوط الأمريكية التي قادها البيت الأبيض من أول يوم من أجل عزله ثم تنحيته على الطريقة التونسية. لكن شباب الميدان لهم رأي آخر لا هو أمريكي ولا سلطوي، لا شرقي ولا غربي، رأي يقوم على قناعات من رحم المعاناة كان ميلادها، وعلى أرض مصر كان مهدها. رأي صار بسرعة البرق عقيدة تبنتها ملايين الأعين والقلوب. وبذلك يكون شباب "التحرير" –رمزا وليس مكانا- قد دوخوا الجميع؛ السلطة والمعارضة، الداخل والخارج.. الكل وجم ولم يستطع أحد أن يتوقع ما يمكن أن يحصل..؟ البيت الأبيض الأمريكي، وعلى عكس الأيام الأولى التي ظهر فيها "أوباما" من خلال تصريحاته ومواقفه وكأنه يسارع الزمن من أجل تبني موقف يكسب من خلاله ود الحراك الشبابي، بدأ يتلكأ بعدما تأكد بأن من يرفض مبارك ونظامه يرفض قطعا أمريكا وسياساتها. الكيان الصهيوني لا زال يتحرك تحت الصدمة وكأنه ينتظر معجزة تعيد الأمر إلى ما كان عليه قبل الأحداث.. فلم يتجرأ على معاداة المتظاهرين كما أنه لم يخف تعاطفه مع "الريس" ونظامه. بقية المواقف الغربية طبعا لا يمكنها أن تنظر من غير النوافذ التي تفتحها لها الإدارة الأمريكية. العرب متوجسون؛ الأنظمة خائفة من نجاح باهر للثورة، والشعوب خائفة من خمود الجذوة وتذهب رياح الرفض والانتفاضة. ففي الوقت الذي استبشرت فيه الشعوب خيرا بميلاد نهضة شبابية شعبية، توارت الأنظمة وراء بعض المواقف المبهمة والعريضة والتي تحتمل أكثر من معنى، على سبيل؛ نتمنى الاستقرار لمصر في أسرع الآجال..؟ فإن سقط مبارك -إن شاء الله- قالوا استعجلنا سقوطه، و-إن لا قدر الله- فشلت الثورة قالوا استعجلنا خمودها. النشاز الوحيد في خضم هذه الأحداث، هو الموقف الصريح لبعض علماء البلاط السعودي –وليته لم يكن- الذين سارعوا إلى استهجان ما يحدث في مصر وما حدث في تونس، وذلك من باب درء الفتنة وادعاء أن ما يحدث وراءه أمريكا التي لا ترجو الخير للبلاد الإسلامية، وتريد جرها إلى الفوضى والفساد..؟ هؤلاء "العلماء" ليست هذه خرجتهم الأولى بهذه الغرابة، فقد باركوا أمريكا من قبل وهي تنزل بالشعب العراقي أعتى حروب الإبادة وأقذر الجرائم في حق الإنسان والأرض والحيوان. وعليه فإن موقفهم لا يعدو أن يكون مجرد لغو في سياق القافلة تمر.. والبقية يعرفها الجميع. لقد بلغ الظلم في بلادنا العربية أوجه، ويكفي قياس حجمه بذلك البعد الرهيب بين مستوى ثروة "الريس" وعوز أي مواطن مصري؛ الأول بأكثر من سبعين مليار دولار والثاني بأقل من ثلاثة دولارات..؟؟ فهل من الإسلام أو من أي ديانة أخرى تحترم الإنسان، أن يجمع رجل مهما كانت مسؤوليته أكثر من ملياري دولار في السنة، وأن مواطنا بكامل كرامته وحقوقه المدنية لا يتمكن من جمع دولارين في اليوم..؟ ثم ما ذنب هذا المواطن في أن يجد وطنه محاصرا من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ونوادي باريس ولندن ونيويورك وثقلا رهيبا من المديونية الخارجية.. ما ذنبه والأموال قد ذهبت باسمه إلى جيوب غيره...؟ هذا هو الظلم الذي أغفله أمثال "الريس" من حكام العرب. إن "فتية التحرير" من رجال الله الذين صدحوا بالحق في وجه الظلم والاستبداد.. فتية شاءت الأقدار أن يكون خلاص شعب برمته على أيديهم، وأن تستعيد الأمة شبابها وعنفوانها بتوهجهم وانطلاقهم وخوضهم معركة التغيير بكل قوة وبلا هوادة؛ من الغضب إلى الرحيل إلى الصمود والتحدي.. إلى رسم خارطة الوطن الجديد الذي على هيأته سوف يعاد رسم خرائط الشرق الأوسط كلها.. وهذا هو الوضع الذي لم تحسب له أمريكا حسابه. فأين هي الحرب الاستباقية الأمريكية أو الضربة الوقائية كما أرادها الرئيس الأسبق "بوش"، وأين هو الذكاء الأمريكي الخارق في استشراف ما يمكن أن يحدث في أي مكان من العالم..؟ أم أن كبيرهم سيقول؛ إن هذا أمر دبر بليل..؟ لقد أربك الفتية العرب صناع القرار في العالم وعلى رأسهم جهاز الاستخبارات الأمريكية، فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يفاجأ الغرب بهكذا هبة غير منتظرة وثورة عارمة لم تكن في الحسبان. ستسقط نظريات وستبعث أخرى، وسيعاد النظر في كثير من الأحكام والحسابات.. والأهم من كل ذلك أنه بعد اليوم سيحسب للعرب ألف حساب. فعصر الأعراب قد ولى وحكم القبائل قد انحسر، فلا مبارك بعد اليوم ولا بن علي ولا غيرهم من حكام بالوكالة سيحكمون رقاب العرب.. لقد تحطم جليد الرعب وانهار جدار الخوف وتبددت سحائب الشك والريبة، وبات من الجلي أن إرادة الشعوب من إرادة الله، وأن إرادة الله لا تقهر.. وهذه هي الرسالة التي لابد أن يفقهها زعماء الغرب عن العرب، الرسالة الحقيقية التي تصنع إرادة الإنسان المشرقي في أصعب ظروفه.. ذلك أن جبروت حاكم مستبد قد يقهر بعض الناس لبعض الوقت، لكنه أبدا لا يستطيع قهر كل الناس كل الوقت.