بعد أيام قلائل سوف يحل شهر رمضان مع كل طقوسه التي باتت معهودة، الأسعار ارتفعت بالفعل وبمقاييس عابثة بكل قرارات الحكومة ووعود المسؤولين، والمبادرات السياسية في حالة ترقب، انتظارا لما ستؤول إليه التطورات الداخلية والخارجية، والمسلسل الوحيد الذي سوف ينشط رتابة هذا المشهد هي جلسات الاستماع التي سوف تجمع الرئيس بالوزراء. جلسات الاستماع هل تعود؟ مما لا شك فيه أن الوزراء قد أعدوا منذ أشهر تقاريرهم المقرر تقديمها خلال شهر رمضان، في جلسات الاستماع التي دأب رئيس الجمهورية على تنظيمها كل سنة، وكالعادة سوف يعرض الوزراء أمام كاميرات التلفزيون الوطني، الوفي جدا لهذا التقليد، تفاصيل تلك الانجازات التي من المفروض أنها عملاقة، وأنها ساهمت فعلا في التخفيف من مشاكل الناس• لكن الذي يحصل في كل سنة، أن نسبة الاحتجاجات تزداد ولعل السنة الحالية وبالرغم من تلك التقارير الغاية في الايجابية - حسب الوزراء - تعد الأكثر احتجاجا بالنظر إلى عدد الاعتصامات والاضرابات التي شهدتها كل مدن وولايات ودوائر الجزائر، وبشكل يومي، فأين المشكل إذن؟ هل هو في عدم إطلاع المواطنين على تلك الانجازات، أم في نكرانهم لها؟ أم أن هناك جهات سياسية تقف وراء هذه الاحتجاجات لكي تقضي على تلك الانجازات التي رصدت لها الملايير، وضاعت منها الملايير في أرقام وصفقات الرشوة والفساد، كما تنشر الصحف الوطنية يوميا؟ وهل أن رئيس الجمهورية مقتنع حقا بتلك التقارير، بدليل عدم إقدامه على أي تعديل حكومي، وإذا كان العكس من ذلك فلماذا الاستمرار في هذه الجلسات الاستماعية، ولماذا لا يتم التفكير في وسائل رقابية على عمل الوزراء. قد تكون هذه التساؤلات استباقية أكثر منها مؤكدة، ولكن لا تبدو في الأفق معالم استراتيجية سياسية جديدة وبديلة لتلك السيناريوهات المستهلكة سياسيا وجماهيريا وإعلاميا• هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، خاصة وأن الأوضاع تشهد غليانا غير مسبوق، فهل غياب المبادرات هو من قبيل الاستخفاف بالحركة الاحتجاجية في الجزائر، أم أن المعلومات لا تصل بالشكل الصحيح والكامل لصناع القرار؟ لقد كتبنا مرارا بأن هناك فراغا سياسيا وفكريا واعلاميا كبيرا في الجزائر، لابد أن يملأ بطريقة مضبوطة ومتحكم فيها عبر التعاون بين السلطة والطبقة السياسية، قبل أن تملأه أطراف أخرى قد تكون لها حسابات مغامراتية• لكن يبدو أن أهل الحل والربط لا يزالون يؤمنون بأن سياسة الصمت والجمود وعدم المبادرة والتركيز على كيفية التهدئة دون المعالجة في العمق، هي أفضل الاستراتيجيات لضمان بعض التوازنات، التي لا يمكن أن تصمد طويلا في وجه الرغبة الجامحة نحو الاصلاح التي يريدها المواطنون، خاصة عنصر الشباب• فهل ستكون مرحلة شهر رمضان وبداية الدخول الاجتماعي المقبل خالية من المبادرات السياسية، أم أن السلطة ستفرج قريبا عن حزمة الاصلاحات التي سوف تسمح بها في حدود ما تفرضه وتيرة المطالب والاحتجاجات؟! أي استراتيجية للأفلان؟ نفس السؤال الذي طرحناه حول نوايا السلطة نطرحه نحو الأحزاب، فهل أعدت هذه الأطراف خطة محكمة خلال الفترة المقبلة واستثمار شهر رمضان لتصحيح مساراتها ومحاولة تقويم أدائها، أم أنها هي الأخرى سوف تجعل هذا الشهر فرصة للراحة السياسية؟ لابد من القول بأن المرحلة المقبلة ستكون حقا منعطفا حاسما قد يحدد مصير العديد من الأحزاب، لأن التاريخ علمنا بأن هناك من يعمل دوما على استغلال هكذا فرص لتصفية الحسابات السياسية، خاصة مع حزب جبهة التحرير الوطني• لقد حصل هذا فعلا بعد أحداث أكتوبر 1988، وأيضا في بداية التسعينات، وهناك مؤشرات حالية على نفس التوجه، وهذا ما نلمسه من خلال القلاقل والأحداث التي تحدث داخل الحزب من خارجه، وخارج الحزب من داخله• إدراكا لهذه الحقيقة، يبدو أن الوظيفة الرئيسة لحزب جبهة التحرير الوطني ستكون خلال الأسابيع القليلة القادمة، إعادة اللحمة للحزب من خلال تفضيل سياسة الحوار والنقاش والبحث عن الحلول للخلافات المثارة مؤخرا داخل إطار الحزب، كما كان يحصل دائما• كما علمتنا الأحداث الأخيرة في الجزائر، بأن هناك دوما صلة ما بين التحولات الكبرى ووجود الحزب، فهل هذه التحركات هي جزء من معالم المرحلة التحويلية المقبلة؟ وأي سيناريو يحضر؟ مما لا شك فيه أن حزب جبهة التحرير الوطني بوصفه أكبر الأحزاب وأقدرها على قياس النبض السياسي للجزائر، يعلم جيدا بأن هناك خيارين لتحديد معالم جزائر المرحلة المقبلة، هناك جملة المقترحات الإصلاحية التي سوف يعلن عنها رئيس الجمهورية في الوقت الذي يحدده، وهي المقترحات التي شارك الحزب في صياغتها، وهناك خيار عودة النبرة المطالبة بالاصلاحات دون وجود حزب جبهة التحرير الوطني، كما يتضح من خلال تصريحات بعض الخصوم، وأيضا من خلال بعض الممارسات التي استهدفت منذ فترة الحزب وسعت إلى إضعافه، مما يستوجب - كما يقول المناضلون المخلصون - ترقية أدائه وتنقية تركيبته وتكييف توجهاته مع تطلعات الشباب في العصرنة والحداثة والتشبيب، وهي كلها كانت محاور الندوات التي نظمها الحزب لاستخلاص وثيقة الاصلاح الذاتي ، بناء على مقترحات القاعدة والخبراء• تعليقا على بعض الاضطرابات التي تشهدها بعض المحافظات قال النائب بن علي مسعود بأن "الأزمة التي يمر بها الحزب العتيد هي أزمة غير عادية، تقف وراءها أطراف خفية، تعمل ليلا نهارا بهدف إنهاء المسار التاريخي والسياسي للحزب، ومسحه نهائيا من خريطة النشاط السياسي في البلاد من أجل تهيئة الجو وتعبيد الطريق لأشباه السياسيين للعبث بمصير البلاد"• هل يعني هذا الكلام وجود مؤامرة حقيقية ضد حزب جبهة التحرير الوطني بوصفه رمزا للنضال ضد الاستعمار، وأحد الشواهد على حقبة تريد فرنسا محوها من ذاكرة الجزائريين بمساعدة بعض الجزائريين؟ هذا غير مستبعد بالنظر إلى تجارب سابقة حاولت خلالها بعض الأطراف تقديم الحزب ككبش فداء مقابل الحصول على رضا ودعم فرنسا، فهناك من يحتاج لدعم فرنسا ورضاها وهو مستعد للتضحية بكل ما يرمز لجزائر الجهاد ضد الاستعمار، وأولها حزب جبهة التحرير الوطني• هذا أيضا احتمال، كثيرا ما تحدثت عنه بعض الشخصيات الوطنية والأسرة الثورية، والتي تربط بين التطور والتحول السياسي في الجزائر وذهاب الأفلان حتى في المراحل التي يكون فيها الحزب الضحية الأولى• وإذا كان صحيحا أن المؤامرات موجودة باستمرار عندما يتعلق الأمر بحزب جبهة التحرير الوطني وبتاريخ الجزائر النضالي، فالصحيح أيضا أن الحزب مطالب بترتيب البيت من الداخل والابتعاد عن بعض السلوكيات والشخصيات التي لا ترقى أخلاقيا لرسالة الحزب في الماضي والحاضر، لهذا فمثلما ينتظر الشارع وثيقة الاصلاحات السياسية العامة والتغييرات التي قد يحدثها رئيس الجمهورية خلال الدخول الاجتماعي المقبل، فإن الشارع يتوقع أيضا أن تبادر الأحزاب بإحداث تغييرات داخلية، تؤهلها للتكيف مع متطلبات المرحلة المقبلة، التي سيكون التغيير الجذري جوهرها• لعل ما يعزز دور الأفلان ويقوي مناعته ضد ما يحاك ضده، هو عدة عناصر: أولا : لقد اكتسب الحزب تجربة طويلة في كيفية الإفلات من هذه المؤامرات، بفضل خبرة كوادره وعدم تخلي القاعدة النضالية عنه لما يمثله من رمزية تاريخية• ثانيا : استطاع حزب جبهة التحرير الوطني في كل المرات تحويل الأمور لصالحه، بما في ذلك تلك التي أعدت مسبقا لكي تكون ضده، وهذا بدوره يعود لكونه يملك الكثير من الأوراق التي يوظفها حسب الحاجة• ثالثا : بقدر ما تمكن من المحافظة على تلاحمه وعلى وفاء قواعده النضالية، وأبناء الشهداء، وقواعد طلابية وشبابية ونسائية، بقدر ما فشلت الأحزاب الأخرى حتى تلك التي وجدت أساسا لطمس الأفلان في التحول إلى الشكل الجماهيري. الآن يوجد الحزب في نقطة مفصلية بين مرحلتين، وهو مطالب، بالنظر إلى عبء الرسالة التاريخية، بأن يكون في طليعة قوى الاصلاح والتغيير نحو الديمقراطية، وتكريس دولة القانون وقيم حقوق الإنسان، وكل المعاني الراقية التي تضمنها بيان أول نوفمبر، الذي يجب أن يبقى المرجعية الأولى للحزب، كما أن الاستحقاقات المقبلة فرصة لكي يبرهن الحزب على أنه قادر على ترقية أدائه، وذلك من خلال إبعاد المال السياسي عن الحزب وتطهير الصفوف واعتماد الكفاءة السياسية والعلمية في إسناد المسؤوليات.. ذلك هو رهان الأفلان المستقبلي•