أنهينا مقال الأسبوع الماضي بهذه الجملة: »الجزائر، أدخلت في دوامة الإرهاب، والعراق دمر في ثلاث حروب ثم أحتل وقسم، وفلسطين لم تعد قضية العرب التي توحدهم..«؛ وقلنا قبلها أنه وجدت، لحد نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ثلاثة مرتكزات أساسية في المعادلة العربية: الجزائر والعراق وفلسطين. لم ندخل المرتكز الأساسي الرابع والذي هو جمهورية مصر العربية لأنها أخرجت من المعادلة وحولت إلى قاعدة أمامية لخدمة السياسة الأمريكية وحامية أمن إسرائيل قبل هذا التاريخ بمدة طويلة. لفهم دور مصر، في المنطقة العربية، لا بد من العودة، باختصار شديد، لبداية ما سمي هناك بثورة 23 يوليو 1952 التي أطاحت بالملك فاروق. يومها، قام التنظيم السري الذي أطلق على نفسه أسم »الضباط الأحرار« بانقلاب عسكري، طرد على أثره الملك إلى خارج مصر ثم أنهى الحكم الملكي وأقام النظام الجمهوري بدءا من 18 يونيو 1953. الضباط الأحرار، الذين كانوا كلهم في سن الشباب، اختاروا في بداية الأمر اللواء محمد نجيب لما كان يتمتع به من سمعة كبيرة في أوساط الجيش ليكون رئيسا لأول جمهورية مصرية، غير أن الصراع على السلطة جعل الضباط الشباب يبعدونه بعد فترة قصيرة ليتولى البكباشي جمال عبد الناصر الحكم في 14 نوفمبر 1954 ويستمر فيه لغاية وفاته سنة 1970. موقع مصر، في قلب المنطقة العربية، ونجاح النظام الجديد في إبرام اتفاقية جلاء مع البريطانيين وكذلك الأحداث الدولية والتي من أهمها انطلاق الثورة الجزائرية في أول نوفمبر 1954 وإعلان مصر وقوفها إلى جانبها، ثم العدوان الثلاثي على مصر، جعلت النظام الجديد يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط المصرية والعربية. في فترة قصيرة، تحول جمال عبد الناصر إلى شبه إله تقدسه العامة وتخشاه الخاصة، فقد استطاع الضابط الصغير الآتي من عمق الشعب المصري وبما كان يملكه من قدرة على الخطابة لساعات متتالية من أن يجعل الشعب المصري يتحرك في الاتجاه الذي أراده له الضباط الأحرار وأن يحلم بمصر كبيرة ومتطورة. بالعودة إلى ما كتب وما بث من أفلام وأغاني ومسرحيات وما كان يرفع من شعارات، في فترة 1954- 1967 من حكم جمال عبد الناصر، نلاحظ كيف أن موقف الجماهير المصرية واندماجها مع ما أقنعت به على أنه أعظم ثورة في التاريخ، يشبه إلى حد كبير قناعاتها واندماجها هذه الأيام مع الأحداث التي تقع في مصر والتي تقدم، في وسائل الاتصال المصرية، على إنه أكبر وأعظم ثورة في التاريخ. الشبه كبير بين الحدثين: في 1952، قامت مجموعة من الضباط بطرد الملك من مصر وحلت محله، وأقنعت الشعب بأن الأمر يتعلق بثورة ستعيد له كرامته وتوفر له العيش الرغيد؛ واليوم، في ما يسمى بالربيع العربي، قام الآلاف من الشعب المصري بمظاهرات أدت إلى طرد الرئيس حسني مبارك الذي جثم على كاهل مصر لمدة 32 سنة وسجنه مع مقربيه وتقوم وسائل الاتصال بالترويج للانجاز »الخارق للعادة« الذي حققه شباب مصر بينما نفس النظام لازال قائما. الذين حكموا مصر، بعد سقوط الملكية، كانوا عسكريين لا علاقة لهم بالسياسة ولا بشؤون الحكم وبخلاف جمال عبد الناصر وقلة قليلة جدا من رفاقه الذين كانوا على مستوى عال من الأخلاق والانضباط، فإن بقية الأعضاء تعاملوا مع مصر كلها كملكية مباحة فلم يرحموا لا مؤسسات الدولة ولا المال العام ولا حتى كرامة المصريين. في تعليقه على سلوك رفاقه من الضباط الأحرار، يقول جمال عبد الناصر لأحد مقربيه بأن هؤلاء قاموا بثورة ونجحوا فيها ولم يتمكنوا من نسيان ذلك. سوء البطانة، جعل الفساد يستشري في دواليب الجمهورية الناشئة؛ والتملق للحاكم جعل كل الأفواه الغير راضية على طريقة التسيير، أو التي لها وجهة نظر مختلفة، تصمت أو تكمم أو تتهم بالردة وخيانة الثورة والجماهير. ولأن عبد الناصر المتخرج من الأكاديمية العسكرية والذي شب على الانضباط العسكري، لم يدرك بأن تسيير بلد لا يمكن أبدا أن يتم بنفس الكيفية التي تسير بها الثكنات، مما جعل الحكم يقع في أخطاء بعضها قاتلة؛ ولم يستيقظ الشعب المصري من أوهام القوة التي كان يتجرعها مع نشرات الأخبار وخطب جمال عبد الناصر وتحاليل السياسيين، إلا مع الهزيمة الكبرى التي مني بها الجيش المصري في حرب جوان 1967. في صبيحة 5 جوان 1967، لم يكن أي أحد، في مصر وفي كل العالم العربي، يتصور أن جيش دولة بحجم مصر وتاريخها العريق ينهار تماما وفي ست ساعات فقط أمام جيش دويلة ناشئة لا يتجاوز عدد سكانها المليونين. بينت الهزيمة بأن قيادة الجيش المصري كانت مهلهلة وبدون كفاءة ولا قدرة على التسيير. ليس المقاتل المصري الذي انهزم بل القيادة الفاسدة، ففي حين كانت إسرائيل تجند العملاء وتتمكن من اختراق الجيش المصري، كان قادة الجيش المصري يقضون جل وقتهم في العبث والمجون. الصدمة كانت كبيرة، وتأثيرها على سمعة جمال عبد الناصر كان أكبر، ورغم إن حرب 1967 مكنته من التخلص من الكثير من رفاقه من الضباط الأحرار وعلى رأسهم صديقه المشير عامر، الذي كان القائد الفعلي والوحيد للجيش، إلا أن ضغوطا كبيرة كانت تمارس عليه من كل جهة، مما جعله يرضخ لبعضها عندما عين أنور السادات نائبا له، سنة 1969، حيث يقول حسين الشافعي، في حصة شاهد على العصر التي تبثها قناة الجزيرة، والذي كان نائبا للرئيس جمال عبد الناصر منذ سنة 1963 ، إن هذا الأخير استدعاه ليخبره بأنه قرر تعيين أنور السادات وإلا فان مصر قد تتعرض لأخطار كبيرة. فجأة –كما حدث بعد ذلك مع هواري بومدين- يموت عبد الناصر، بسكة قلبية، في 1970 ويخلفه أنور السادات الذي اختلفت الآراء حول دوره المتواضع في ثورة يوليو 1952 وحول علاقاته مع جهات أجنبية، بما في ذلك ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، كما قيل الكثير حول محدودية تفكيره وضعف شخصيته وقلة مؤهلاته. بدأ أنور السادات عهده بما سماه »ثورة التصحيح« التي مكنته من القضاء على ما أعتبره مراكز القوى (15 ماي 1971) ليلحق ذلك، في نفس السنة، بإصدار دستور جديد؛ ثم استغنى، في 1972، عن خدمات حوالي 17 ألف خبير سوفييتي. بالتخلص من كل المقربين من جمال عبد الناصر وبوضع دستور جديد وطرد الخبراء السوفييت، تمكن أنور السادات من نقل مصر من وضع الدولة العربية المناهضة لمصالح القوى الغربية في المنطقة إلى وضع جديد ستتحول فيه، مع الوقت، إلى قاعدة أمامية للولايات المتحدةالأمريكية لتقوم بدور المخرب لقوى التحرر العربية والمعطل لكل المبادرات المفيدة للمنطقة. بمصر، تم تدمير العراق واحتلاله، وبها دخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، سنة 1982، وأخرجت منه المقاومة الفلسطينية، وبمباركتها وقعت حرب لبنان في سنة 2006 وضرب قطاع غزة وقسم السودان. في الأسبوع المقبل، نتناول الدور المصري في المنطقة العربية، من عهد السادات إلى سقوط حسني مبارك، ومنه نحاول فهم طبيعة الانتفاضة المصرية الحالية ومآلها.