لعل الصم ألعمي وحدهم من لا يحسون ولا يلمسون خيوط المؤامرة الكبرى التي تحاك من أجل تفتيت الدول العربية الكبرى أو تلك التي تملك ثروات بشرية وباطنية تؤهلها، لو يستقيم عودها السياسي، لتنمو وتتحول إلى قوى محلية لها تأثيرها على المنطقة كلها. بداية التخطيط للمنطقة العربية من لدن القوى الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، بدأ مع سقوط الشيوعية واندثار القطب الاشتراكي. انتهاء مرحلة الحرب الباردة ترك المجال مفتوحا أمام أمريكا لتبسط نفوذها، في غياب أي رد فعل دولي، على المناطق التي تتوفر على الاحتياطات المعتبرة من الثروات الباطنية. في نهاية السبعينيات، كانت الكثير من الدراسات الاقتصادية تشير إلى أن الدولتين العربيتين اللتين تحققان مستوى من التنمية البشرية والاقتصادية يمكنهما، إن هما واصلا السير بنفس الوتيرة، من اللحاق بمجموعة الدول المتطورة هما الجزائر والعراق. الدولتان استفادتا من ارتفاع سعر البترول، من 2 دولار للبرميل الواحد في بداية السبعينيات إلى حوالي 12 دولار مع نهاية نفس العقد من القرن الماضي، لتطلق العديد من مخططات التنمية ولتعمل خاصة على نشر التعليم وجعله إجباريا على كل الأطفال البالغين سن التمدرس. بالنسبة للجزائر، فقد أقنعت القيادة السياسية المنصبة على إثر وفاة الرئيس هواري بومدين، رحمه الله، بأن تسعى إلى تغيير النمط الاقتصادي المختار من طرف القيادة السابقة وأن تتوجه نحو الانفتاح على العالم الخارجي. تلك الفترة، عرفت صدور العديد من الكتابات والدراسات التي توجه النقد إلى أسلوب الصناعة الثقيلة الذي اختير من قبل، كما فتح المجال واسعا، في إطار ما عرف ب "الباب" أي البرنامج المناهض للندرة، لاستيراد كل "الخردة" الأوروبية وبيعها لمواطنين كانوا محرومين من الكثير من المنتوجات التي لم تكن الدولة تسمح باستيرادها. برنامج "الباب" رافقته أيضا عملية الشراء عن بعد بحيث يقوم الجزائري بطلب سلعة ما من شركة بتسديد ثمنها عن طريق حوالة بريدية. هذه العملية، وحدها استنزفت أموالا معتبرة من الخزينة العمومية وقيل وقتها أنها، أي العملية، أنقذت المئات من الشركات الفرنسية التي كانت على شفى الإفلاس. كلام كثير يمكن أن يقال عن هذه المرحلة التي توقفت فيها كل المشاريع الاقتصادية المنتجة في الجزائر رغم أن سعر البترول ارتفع خلالها ليبلغ الأربعين دولارا، كما أنها المرحلة التي بيعت فيها العقارات المملوكة من طرف الدولة للخواص بأسعار رمزية، وفتحت فيها أيضا أبواب الخزينة العمومية أمام آلاف الأسر الجزائرية التي منح لكل فرد منها حق تحويل مبلغ ألف دينار جزائري، حيث كان الدينار أغلى من الفرنك الفرنسي، إلى العملة الصعبة. العراق، من جانبه، واصل عملية التنمية ليصبح من الدول العربية التي تكاد تنعدم فيها الأمية كما استطاع أن يبني كل الهياكل القاعدية الضرورية للتنمية وأصبح واضحا أن هذه الدولة تسير بخطى واسعة نحو الانتقال من دائرة دول العالم الثالث إلى دائرة الدول المتطورة. مثلما حدث بالنسبة للجزائر التي انتقل فيها الرئيس هواري بومدين إلى بارئه (ديسمبر 1978)، وجاءت بعده مجموعة عملت على تغيير مسار الجزائر، أدخل العراق، في نفس الفترة تقريبا، بدءا من 22 سبتمبر 1980، في حرب ضد إيران بلغت كلفتها 400 مليار دولار بالنسبة للطرفين وثلاثة ملايين من شباب الدولتين الذين قتلوا في حرب لم تخدم لا العراق ولا إيران ولا العرب ولا المسلمين بل خدمت مصانع السلاح الغربية التي كانت تبيع للطرفين وعطلت نمو الدولتين الإسلاميتين )العراق وإيران( وساهمت، إلى حد بعيد، في تسهيل تنفيذ المخطط المعد للمنطقة. نفس الفترة، عرفت أيضا حدثا بارزا في المنطقة، فقبل وفاة بومدين بأشهر قليلة، عقدت مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل وهي الاتفاقية التي أخرجت مصر نهائيا من الصف العربي وحولتها، طبقا لبنود الاتفاقية، إلى حارس لأمن إسرائيل بحيث تلغي هذه الاتفاقية كل الاتفاقيات السابقة واللاحقة التي أمضتها أو تمضيها مصر مع أي طرف كان إذا تناقضت في محتواها وأهدافها مع محتوى وأهداف اتفاقية كامب ديفيد. من وقتها، إلى اليوم، حولت مصر من دولة حاضنة لقضايا التحرر العربي وفي إفريقيا ومساندة لها إلى دولة منفذة للسياسة الأمريكية في المنطقة وحامية لمصالح إسرائيل ولو على حساب المقاومة الفلسطينية. ثلاثة مرتكزات أساسية في هذا العالم العربي، أو هي ثلاث دول فقط، في المنطقة العربية كلها، تملك فعلا مقومات الدولة الحديثة وكان بإمكانها التحول وبسرعة إلى قوى إقليمية تساهم في استتباب أمن المنطقة كلها. هذه المرتكزات الثلاث تعرضت تباعا لمؤامرة كبيرة أدت إلى إخراج الأولى )مصر( من الصف العربي يتحويلها إلى مناهض لكل محاولة عربية للتغيير ولو على مستوى هياكل الجامعة العربية؛ وإلى احتلال وتفتيت المرتكز العربي الأساسي في الخليج )العراق( بتحويله إلى ثلاث مقاطعات )شيعة، سنة، أكراد( متناحرة ومتقاتلة، أما الدولة الأساسية في المغرب الكبير )الجزائر( فقد سلط عليها، منذ نهاية الثمانينيات، الإرهاب الذي جعلها تخسر الكثير والكثير جدا من العنصر الأساسي للتطور في هذا الزمن وهو الوقت. مرحلة الإرهاب عطلت الجزائر، إضافة للآثار الاجتماعية والثقافية والسياسية، كثيرا في المجال الاقتصادي. الإرهاب، دعم إعلاميا وماديا من طرف القوى الكبرى لأهداف واضحة تماما وهي نفس الأهداف التي تم تحقيقها في العراق، فبالإضافة إلى إضعاف الجزائر وتفتيت تماسكها الاجتماعي، هدف الذين شجعوا الإرهاب أيضا إلى ضرب الوحدة الوطنية من خلال تفتيت الجزائر إلى دويلات عدة. نذكر جيدا، والأرشيف موجود، كيف كانت الصحافة الفرنسية، التي لا تختلف مواقفها كثيرا عن مواقف الخارجية الفرنسية في ما يتعلق بالشؤون الخارجية، كيف كانت طوال فترة الإرهاب في الجزائر، تركز على أنه في حالة وصول من كانت تسميهم بالإسلاميين إلى الحكم وإعلانهم تطبيق الشريعة الإسلامية فأن منطقة القبائل ستنفصل عن باقي الجزائر لأن القبائل، كما كانت تستنتج هذه الصحافة، هم ديمقراطيون ولن يقبلوا بدولة أوتوقراطية وبالتالي فسينفصلون ويعلنون عن ميلاد دولتهم على أنقاض الجزائر. هناك العديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولت الخطاب الإعلامي الفرنسي في تلك الفترة وتوصلت إلى نفس هذه النتيجة. لكن الجزائر التي عرفت كيف تجتاز محنة الإرهاب وتحافظ على وحدتها الوطنية خاصة وأن العنصر البربري، في الجزائر، برهن بأنه لا يقبل بأقل من الجزائر كلها بمعنى أن لا أحد في الجزائر، من البربر أو من غيرهم، يقبل أو يتصور نفسه منكمشا في عدد محدود من الولايات وأن يصغر ويتقلص في وقت تكبر فيه الشعوب الأخرى وتتوسع )الاتحاد الأوروبي مثلا(، هذه الجزائر، لازالت موجودة ومسجلة في المخطط الغربي من أجل تفتيت الدول العربية الكبرى. الذي حدث، أنه يبدو بأنهم أدخلوا فقط بعض التعديل على الخطة المعدة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي لهذه المنطقة. هذه المرة، نراهم يحاولون إتياننا من الجنوب. في الأسبوع المقبل نواصل حول مخطط تفتيت الدول العربية من الجنوب حيث البترول والطاقة الشمسية وغيرها من المعادن الأخرى.