تحدّث خطيب الجمعة، لا فُضَّ فُوه، وصال وجال وربما تبادر إلى ذهنه أن كلامه درر عجز عنها الأوائل ولن يصل إليها الأواخر.. لقد دافع عن حياض الأمة ونافح عن كرامتها وأبان وجه الحق من الباطل ودعا على الكافرين الظالمين.. لكن المستمع، بعد قراءة متأنية في مضمون الخطبة، يكتشف دون عناء أن تلك العنتريات تصبّ في خانة نصرة الاستبداد والتبرير له. إنّ ماضي وحاضر الخطيب الذي استمعت إليه، وكثير من أمثاله، مشحون بمعلّقات المدح والثناء لأوضاع غير سوية صنعتها سياسات هوجاء وحكومات عرجاء في هذا البلد العربي أو ذاك، وإنّ العقل اللاواعي للخطيب المسكين هو الذي يتحدث بذلك الكمّ الكبير من أدبيات الطاعة المطلقة لوليّ الأمر والسكوت على الظلم والفساد تحت ذريعة درء الفتنة وغيرها من (المسلّمات) الدينية التي تلقاها الناس عبر قرون طويلة دون مراجعة علمية رصينة وتحديدٍ مناسب لمدلولات المصطلحات وظروف نشأتها وطبيعة الرجال الذين وضعوها وزوايا النظر التي كانت متاحة في أزمانهم. إن الأمن والسلام نعمة عظيمة لا تقدر بثمن، والفتن العمياء كارثة عظيمة، بل تسونامي، ولا يمكن لنصف عاقل استساغة المشاركة فيها أو التمهيد لها أو المساعدة على إشعالها، فضلا عن العقلاء وأهل الحكمة، وما أكثرهم في عالمنا العربي رغم الجهود الرسمية التي عملت عقودا طويلة على إبعادهم عن المتون لتضعهم في الحواشي على أحسن الأحوال. نعم.. إن الأمن والسلام نعمة لا يعرفها حق المعرفة إلا من فقدها بعض الوقت، لكنها لا تكون على حساب كرامة الوطن وسيادته ومستقبله وخلاصه من بين مخالب فرد متسلّط يعيث فيه فسادا منذ أربعة عقود دون حسيب أو رقيب، وبلا مسكة من عقل أو صحوة من ضمير. مساكين هم أولئك الخطباء الذين يستيقظون فقط عند اهتزاز عروش الاستبداد فيتفنّنون في إلقاء الخطب العصماء، ويتبارون في الدعاء على الغزاة والكافرين، ويسردون الأدلة الشرعية المقرّرة لحرمة استنصار المسلم بالكافر وما إلى ذلك.. جميل أن نسمع منكم ذلك أيها السادة الكرام.. لكن مهلا.. أين كنتم عندما كانت بلاد المسلمين تُباع وثرواتهم تُقدّم (للكافرين) على أطباق من ذهب لقاء عمولات خفية ووعود بالحفاظ على الكراسي والتستر على قمع الرجال الأحرار الذين صدعوا بكلمة الحق ورفضوا حياة الصمّ والبكم والعمي.. أين كنتم عندما كان (وليّ الأمر) يمرح ويسرح في (بلاد الكفار) ويعقد معهم الاتفاقيات ويدفع لهم الملايير تعويضا عن جنونه ومغامراته البلهاء، ويساهم في مخططاتهم بالسكوت عن مجازر غزّة ولبنان وغيرهما.. أين كنتم عندما كان وليّ الأمر المستبد يستعين بالأجنبي لقمع شعبه، ويستورد أجهزة التعذيب من الشركات العالمية (الكافرة) وأنتم تدعون له بالصحة وطول العمر والنصر والتمكين. لا أدري كيف سيُقبل شباب اليوم على الدين ويتمسكوا به إذا كانت صورته بهذا الهوان عند بعض الخطباء.. إننا في زمن الحريات وسيادة الشعوب وتنصيبها لحكامها وخلعهم متى حادوا عن السبيل قيد أنملة؛ فارحمونا بارك الله فيكم ولا تقدموا لنا الإسلام مرادفا للغباء والتنازل عن العقل والطاعة العمياء لولي الأمر والسكوت المطبق عن الجريمة والفساد والعمالة. إن الدين الإسلامي نصوص مقدسة محفوظة في صدور العلماء ومتيسرة لكل من أرادها عبر الكتاب وغيره من وسائط النشر، ويمكن للعلماء الراسخين الواعين بعصرهم قراءتها من جديد، وهكذا لن نكون ملزمين بثقافة هوان واستكانة ارتبطت بالأمة قرونا طويلة.. إننا ملزمون بالمعين الصافي الذي فهمه الرعيل الأول ومنهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).. وإننا ملزمون بفهم ذلك المسلم الذي وقف للفاروق عمر في خطبة الجمعة وقال له: لا سمع ولا طاعة حتى نعرف من أين لك هذا الثوب الطويل، فاضطر عمر أن يستنجد بابنه فأقرّ بأنه قدّم نصيبه في العطاء لأبيه الخليفة، فصار الثوب على مقاسه وهو المعروف بطول القامة، وبعدها قال الرعية للراعي: الآن نسمع ونطيع. أيها الخطباء الكرام: إن قلوب الأحرار تعتصر ألما لما يجري من تدخل أجنبي في ليبيا أو غيرها، وتسيل تلك القلوب دمًا للمصير الذي آلت إليها سوريا العروبة والمؤامرات التي تُحاك ضدها بعد أن خرج شعبها يطالب بحقه في الحرية والكرامة. أيها الخطباء الكرام: اطمئنوا فلا أحد يقبل الفتنة لبلاده وليس في الأمة، تقريبا، من تروقه مناظر الدماء والخراب والدمار وطوابير الأرامل والأيتام وسيارات الإسعاف والمستشفيات المزدحمة بالموتى والجرحى وسط نقص الدواء وشحّ البنزين وانقطاع للكهرباء.. إنه منظر مرعب لا نتمناه حتى لأبناء دول الأعداء الذين استعمرونا طويلا، فكيف بأنفسنا أو جيراننا وأشقائنا. لكن أيها الخطباء: لا تضعوا جماهير الأمة بين خيارين أحلاهما علقم، إما هؤلاء الفاسدون المستبدون، أو الدماء والتدخل الأجنبي.. بالله عليكم ألا يوجد طريق ثالث. لقد قال مبارك: مصر ليست تونس، وقال القذافي: ليبيا ليست مصر.. ولا نريد أن يستمر مسلسل الاستخفاف والغباء الاستبدادي لأن الاستثناء منعدم تقريبا في حالتنا العربية الراهنة حيث دخلت الشعوب مرحلة وعي جديدة حتى لو سلّمنا بنظرية المؤامرة بعد أن نلغي عقولنا ونصدق أن جميع أبناء الوطن عملاء، حتى أطفال المدارس.. نريد الشفاء التام من داء غرس الرؤوس في الرمال كما تفعل النعامة، وبدلا عنه طريقا ثالثا تتحرك من خلاله الحكومات.. طريق لا هو استمرار في فكر وسلوك الاستبداد ولا هو الثورة ولو كانت سلمية لأنها مدخل مناسب جدا للأجنبي المتربص ومخططاته الكثيرة.