فقدت الجزائر واحدا من أبرز رجالات العلم والدين والدعوة إلى الحق بها، حين سلّم الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ووزير الشؤون الدينية الأسبق، روحه إلى بارئها، صبيحة الجمعة الرمضانية 12 رمضان/ أوت، بعد عمر يناهز 93 سنة قضى شطره الأكبر في طلب العلم ونشره والدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن دون مبالغة يمكن القول أن منارة علمية كبرى قد هوت في الجزائر بوفاة كبير علمائها. كان المشهد غير مألوف بساحة مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قرب الرويسو بالجزائر العاصمة، صبيحة الجمعة 12 رمضان، فالمقر الهادئ عادة تحول إلى مقصد لمئات، وربما آلاف الجزائريين، من مختلف الشرائح والمستويات الاجتماعية، وزراء، رؤساء أحزاب، إطارات سامية، إعلاميون، مشايخ وأئمة ودعاة.. كلهم جاءوا لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الشيخ عبد الرحمن شيبان، الذي كشف رفيقه الأستاذ عبد الحميد عبدوس مدير تحرير جريدة البصائر لسان حال الجمعية أن المنية قد وافته في حدود الساعة السادسة من صبيحة الجمعة 12 رمضان/ أوت، مؤكدا أن الشيخ الراحل قد قضى آخر يومين في حياته بعيادة الشفاء بحيدرة، ورغم الرعاية الصحية التي يكون قد حظي بها، إلا أن سيف الأجل قد أسبق إلى روحه، فسلّمها إلى بارئها ليرقد في سكينة واطمئنان، حيث يكون من ألقوا نظرة على وجهه قد لاحظوا ذلك الهدوء المرتسم على تقاسيمه. شيخنا الراحل يجمع فرقاء السياسة ومثلما جمع فرقاء السياسة حيا من خلال مواقفه الجامعة، شوهدت شخصيات سياسية مختلفة الأطياف والتوجهات في مشهد إلقاء النظرة الأخيرة على شيبان، يتقدمها الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية والأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم، وكذا "رفيقه" في التحالف الرئاسي بوجرة سلطاني زعيم حركة مجتمع السلم، إضافة إلى عبد الله جاب الله رئيس حزب العدالة والتنمية غير المعتمد وأحمد طالب الإبراهيمي، مرشح الرئاسيات الأسبق، وعدد آخر من السياسيين، مع حضور قوي لمشايخ جمعية العلماء، ورفاق الشيخ الراحل، منهم الشيخ عبد الرزاق قسوم، وقد كان "اللقاء" فرصة لاستذكار مناقب الشيخ شيبان الذي أكد لنا الأستاذ عبدوس أنه ظل يقاوم مجموعة من الأمراض، ويصّر على الصوم لولا تحذير الطبيب رغم تقدمه في السن وضعف البدن. وقد تأخرت عملية نقل جثمان الشيخ الراحل من العاصمة إلى قرية الشرفة بدائرة مشدالة في ولاية البويرة عن موعدها المحدد مسبقا، بسبب استمرار توافد المعزين، حيث امتلأت جوانب المقر والطرقات المحيطة به والمحاذية لمقر مجلس قضاء الجزائر بمئات السيارات القادمة من مختلف الجهات، ليتم نقله إلى البويرة بعد أن ألقى كثير من المسؤولين ورفقائه ومحبيه وتلامذته النظرة الأخيرة، وفي منطقة الشرفة بامشدالة بالبويرة تم دفن الراحل بعد صلاة العصر من يوم الجمعة المشهود، ومباشرة بعد دفنه قُرئت على مسامع الحاضرين وصيته التي طلب نشرها مباشرة بعد وفاته. وعلمنا من محيط الشيخ شيبان أن قرار دفنه بمقبرة الشرفة في البويرة، رغم كثرة الراغبين في حضور جنازته بالعاصمة، جاء تنفيذا لوصيته، علما أن الشرفة هي مسقط رأسه قبل 93 سنة، وها هو يعود من حيث أتى.. من تراب إلى تراب، مخلفا رصيدا علميا ودعويا كبيرا، وتاركا صيتا رائعا، داخل وخارج الوطن، وقد كان مجلس العزاء خلال إلقاء النظرة الأخيرة عليه كفيلا بإبراز مكانة وقيمة الرجل، كما أن تشييع جنازته بمسقط رأسه في الشرفة كان تشريفا لمنطقة تعتز كثيرا بانتسابه إليها وانتسابها إليه، وقد كانت وفاته سببا ليحط بها عدد كبير من المسؤولين الذين لم يسمع بها بعضهم من قبل. وقد كان رحيل شيخنا الجليل في يوم جمعة رمضانية بمثابة بيان على حسن الخاتمة، فقد رحل في شهر القرآن، وفي يوم من الأيام العشر الوسطى.. أيام المغفرة.. وهو الذي لم يكن يغفل عن كتاب الله القرآن، وكثيرا ما يستفتح مقالاته في أسبوعية البصائر بآيات بينات من الذكر الحكيم.. رحمك الله يا شيخنا الجليل.. وعظم الله أجرنا فيك.. الشيخ. ب/ نصر الدين. خ من هو الشيخ عبد الرحمن شيبان؟ ولد عبد الرحمن شيبان في 23 فيفري 1918م في قرية الشرفة دائرة امشدالة ولاية البويرة، الجزائر. هكذا كانت البداية.. تعلم عبد الرحمن شيبان في كُتّاب قريته، بعدها أكمل دراسته في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على يد عبد الحميد بن باديس، ثم غادر الجزائر باتجاه تونس لإكمال دراسته في جامع الزيتونة. وبعد استقلال الجزائر عام 1962م شغل الشيخ عبد الرحمن شيبان كمفتش عام للتربية الوطنية. تعلم القرآن الكريم وتلقى مبادئ العربية، والتوحيد، والفقه، بمسقط رأسه وبالزاوية السحنونية بالزواوة، وبني وّغْليس، على الضفة الشمالية لوادي الصومام (بجاية). بعدها أكمل دراسته في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على يد عبد الحميد بن باديس وفي العشرين من عمره شدَّ الرحال إلى الجامعة الزيتونية بتونس سنة 1938، ونال شهادة التحصيل في العلوم سنة 1947م، وإلى جانب ذلك كان يقوم بالنشاط الثقافي، وترأس جمعية الطلبة الزيتونيين الجزائريينبتونس. الرجل الذي حاز ثقة الشيخ الإبراهيمي في سنة 1948 عينه رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي استاذا للبلاغة والأدب العربي بمعهد الامام عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. وفي سنة 1954 صنف من اساتذة الطبقة الأولى بالمعهد (مستوى شهادة عالمية)وذلك بقرار من المجلس الإداري لجمعية العلماء إلى جانب الاساتذة: الشيخ نعيم النعيمي، والشيخ احمد حماني والشيخ عبد المجيد حيرش، والشيخ عبد القادر الياجوري، وغيرهم –رحمة الله عليهم جميعا- عضو عامل في جمعية العلماء. عضو في لجنة التعليم العليا المكلفة بإعداد مناهج التربية والتعليم، والكتب المدرسية بمدارس الجمعية المنتشرة في أرجاء القطر الجزائري. محرر في الجرائد الجزائرية: النجاح، والمنار، والشعلة. من الكُتاب الدائمين في جريدة (البصائر) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بتكليف من الإمام الإبراهيمي، المدير المسؤول عن الجريدة، فكان من مقالاته: جهاد أدبي أو فلسطين والشيخ الإبراهيمي (ماي 1948). ماذا ننتظر لإمداد فلسطين (جوان 1948). - الإسلام شريعة الجهاد والاجتهاد (جوان 1948). - المعهد ومستقبل الأدب الجزائري (سبتمبر 1949).- الجزائر للجزائريين (أفريل 1955).- الذكرى الخامسة عشرة لبطل الجزائر ابن باديس (أفريل 1955).- القضية الجزائرية قضية حرية أو موت (أفريل 1956). التحاقه بالثورة والعمل في ميدان الإعلام التابع لها: من المجاهدين في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني. عضو في لجنة الإعلام للجبهة، ومشارك في تحرير جريدة (المقاومة الجزائرية، لسان حال جبهة وجيش التحرير الوطني، وفيها كتب عدة مقالات هامة تحت ركن "صفحات خالدة من الإسلام"يسقط فيها الماضي على الحاضر، رأس تحرير مجلة (الشباب الجزائري). وفي سنة 1960 عُين مستشارا لرئيس بعثة الثورة الجزائرية بليبيا. مسيرة حافلة بعد الاستقلال جمع نخبة من أعضاء جمعية العلماء ومعلميها، لإحباط دعوة تجعل "اللائكية" أساسا للدستور الجزائري المقبل، نشرته الصحافة الجزائرية الناطقة بالفرنسية في 9 أوت 1962، فكان الرد الحاسم بتوجيه نداء إلى الشعب الجزائري للتمسك بدينه، نُشر في الصحافة الجزائرية الناطقة بالفرنسية في 22 أوت 1962، ونشرته صحيفة بريطانية في أواخر أوت 1962. انتخِب عضوا في المجلس الوطني التأسيسي في فجر الاستقلال سنة 1962، حيث كان مُقررا "للجنة التربية الوطنية".- كان من أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد دستور الجزائر، حيث ساهم مساهمة إيجابية مع مجموعة من النواب من أهل العلم والجهاد في جعل الإسلام دين الدولة و"العربية اللغة الوطنية الرسمية"، خلافا للتيار التغريبي الذي طالب بإصرار بأن يكون "الإسلام دين الشعب" و"العربية لغة الشعب"، حتى لا يكون للدولة الجزائرية الوليدة أي التزام بتطبيق تعاليم الإسلام، واستعمال اللغة العربية في أجهزة الدولة.- عُين مفتشا عاما للغة والأدب العربي، والتربية الإسلامية في مؤسسات التعليم الثانوي الرسمي، وصُنف في درجة حملة (شهادة الليسانس) بمرسوم رئاسي. في مارس 1964.- كان نائبا للمرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في رئاسة اللجنة الوزارية المكلفة بإدراج المعلمين والأساتذة الذين كانوا في التعليم العربي الإسلامي الحر، وقد نجح بمعية بعض النواب العلماء في استصدار مرسوم رئاسي يقضي بإدماج المعلمين الأحرار في سلك التعليم الرسمي حسب درجاتهم.- ومن اللطائف أن المرسوم الذي صدر في شأن إدراج هؤلاء المعلمين في التعليم الرسمي، نص على أن المعلمين لا يستفيدون من تطبيق هذا المرسوم، إلا إذا التحقوا بالمدرسة فعلا، خلافا لمن كانوا يعملون في سلك القطاع الديني بصفتهم أئمة، فهؤلاء ظلوا يتلقون منحا زهيدة لا تتجاوز 45 ألف سنتيم. في ذلك الوقت. كما عمل أيضا على إزالة الجفوة التي وقعت بين الشيخ الإبراهيمي والرئيس أحمد بن بلة، بسبب بيان 16 أفريل 1964 الذي أصدره الشيخ الإبراهيمي مستنكرا فيه الأوضاع التي آلت إليها الجزائر في مختلف المجالات: الدينية، والاجتماعية، والسياسية، رغم أن بعضا من رجال الجمعية لم يؤيدوا الشيخ الإبراهيمي في موقفه الذي أملته عليه مبادئ الجمعية. تولى رئاسة اللجنة الوطنية المكلفة بالبحث التربوي التطبيقي والتأليف المدرسي، للمرحلتين: الإعدادية والثانوية بوزارة التربية الوطنية، حيث أشرف على تأليف نحو (20) كتابا في القراءة، والأدب، والنقد، والتراجم، والبلاغة، والعروض، والتربية الإسلامية.- شارك في ندوات في التربية والتعليم ب(اليونسكو)، وكان له شرف المشاركة في الوفد الذي ترأسه معالي الدكتور أحمد طالب إبراهيمي –وزير التربية الوطنية- سنة 1966. ومن المواضيع الأساسية التي كانت مطروحة في تلك الدورة اعتماد لغة رسمية خامسة تضاف إلى اللغات العالمية الأخرى (الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية) وكانت اللغات المرشحة لنيل هذا الشرف العالمي كثيرة منها: العربية، والصينية، والهندية، والفارسية. ولكن كانت إيران هي أكبر المرشحين حظا لترسيم لغتها الفارسية كلغة عالمية، وقد حرصت إيران على توفير كل فرص النجاح لمسعاها ماديا ومعنويا، فسعى الشيخ عبد الرحمن شيبان إلى الاتصال بالوفد الإيراني لإقناعهم بسحب ترشيحهم، وكان من بين ما قاله لهم: "إن اللغة العربية هي لغة عقيدة وحضارة، قبل أن تكون لغة قومية، والدليل على ذلك أن المساهمة في بناء مجد الحضارة العربية الإسلامية كانت لشخصيات من أصول فارسية، نبغوا في مختلف ميادين الثقافة العربية، وإن الوفاء أولئك العباقرة والتمجيد الحقيقي لهم، إنما يكون بالدفاع عن اللغة التي كتبوا بها، وخلدوا ذكرهم ببناء صرح حضارتها، وترقية ثقافتها.. فاقتنع الوفد الإيراني وسحبوا ترشيحهم لصالح اللغة العربية" (البصائر ع.304 بتاريخ: 04/09/2006). كما سعى مع وفود عربية لإقناع الوفد الأمريكي باعتراضه على ترسيم اللغة العربية، يؤيدهم في ذلك الاعتراض بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل، ونجح الشيخ شيبان في هذا المسعى أيضا. وبذلك صدر في هذه الدورة 14 قرار اعتماد اللغة العربية اللغة الخامسة الرسمية لهيئة اليونسكو، على أن يطبق هذا القرار في العام 1968، وقد نشرت جريدة الشعب البيان بتاريخ 19 نوفمبر 1966، في العدد 1219 تحت عنوان: "العربية تصبح لغة رسمية في منظمة اليونيسكو" (بأغلبية 50 صوتا ضد 11، وامتناع 10 عن التصويت بعد مناقشات دامت عدة أيام). نشاط كبير في أكثر من اتجاه عضو في المجلس الإسلامي الأعلى، والمشاركة في الندوات العلمية والدينية والتربوية، داخل الوطن وخارجه. عُين وزيرا للشؤون الدينية لمدة ست سنوات (1980 – 1986) حيث أشرف على تنظيم (6) ملتقيات سنوية للفكر الإسلامي منها: ملتقى للقرآن الكريم، فالسنة النبوية، فالاجتهاد، فالصحوة الإسلامية، فالإسلام والغزو الثقافي، فالإسلام والعلوم الإنسانية.- عضو من المؤسسين لمجمع الفقه الإسلامي الدولي ممثلا للجزائر حتى الآن. ساهم مساهمة فعالة في تأسيس معهد أصول الدين بالعاصمة (كلية العلوم الإسلامية حاليا). بذل جهدا في افتتاح "جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية" بقسنطينة، وتعيين الداعية المصلح الإسلامي المرحوم الشيخ محمد الغزالي رئيسا لمجلسها العلمي، وتمكينه من إلقاء دروسه المتلفزة المشهورة المتمثلة في حديث الاثنين.- طبع آثار إمام النهضة الجزائرية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، وفي طليعتها: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ومجالس التذكير من حديث البشير النذير)، وهي مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي نشرها في افتتاحيات مجلته (الشهاب).- شجع قراءة صحيح البخاري، رواية ودراية، في مساجد العاصمة وفي أرجاء الجزائر.- رأس بعثات الحج الجزائرية إلى الأراضي المقدسة (1980-1986). داعية لا يعرف التقاعد ساهم في تجديد نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ 1991 بعد صدور الإذن بتكوين مختلف هيئات المجتمع المدني، حيث كان النائب الأول لرئيس الجمعية الشيخ أحمد حماني –رحمة الله عليه-، ورئيسا لتحرير البصائر لسان حالها. - داوم على إلقاء دروس دينية في التفسير، والحديث، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، في المساجد، والمراكز الثقافية في العاصمة وغيرها.- تولى رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإدارة جريدة البصائر الأسبوعية، لسان حال الجمعية منذ سنة 1999 م وعلى صفحاتها دافع كما لم يدافع أحد قبله عن الجمعية ورد الشبهات حولها في سلسلة من المقالات تحت عنوان (حقائق وأباطيل) نرجو أن ترى النور في كتاب يصدر لاحقا (إن شاء الله).- استرجع في 27 جانفي 2002 (نادي الترقي) التاريخي الذي وُلدت في أحضانه جمعية العلماء بالعاصمة سنة 1931 فاستأنف نشاطاته بمحاضرات أسبوعية.- بعث تراث جمعية العلماء المتمثل في جرائدها: الشريعة، السنة، الصراط، الشهاب، والبصائر كاملة (12 مجلدا).- أسس وأشرف على شُعب جمعية العلماء في مختلف الولايات. بعض ما قيل عن شيخنا الراحل كتبت عنه مؤسسة إعلامية تسمى: (indigo- publications) في عدد خاص بالجزائر تحت عنوان: (الجزائر ورجال الحكم Algérie les hommes du pouvoir) مقالا في الصفحة 73، جاء فيه: "عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين (حارس القيم الإسلامية Le gardien des valeurs Islamiques)". مجلة الشاشة ع. 263، ماي 2006 - كتب عنه الدكتور يحيى الغوثاني المشرف العام لمنتدى البحوث والدراسات القرآنية سنة 2006 ما يلي: (التقيت بعدد من العلماء المعمرين الذين أدركوا الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ البشير الإبراهيمي، ومن هؤلاء العلامة المعمر الكبير الشيخ عبد الرحمن شيبان، هذا الرجل الذي يبدو عليه أنه شاب، لما يحتويه بين جوانحه من همة ونشاط، وحب لهذه الدعوة) إجازاته: وقد أجازه بمروياتهم العلمية وأسانيدهم، العلماء الآتية أسماؤهم: - العالم المكِّي المرحوم الشيخ محمد العلوي. - فضيلة الشيخ العلامة مفتي سوريا الأسبق المرحوم الشيخ أحمد كفتارو..- وسماحة الأستاذ الدكتور محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي . وفاته : توفي الشيخ رحمه الله تعالى يوم الجمعة 12 رمضان 1432 ه / 12 أوت 2011.. رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.. الرئيس وأويحيى وبن صالح وزياري: "صبرا آل شيبان.. فقد اصطفاه الرحمان" لقد اصطفاه ربه إلى جواره في يوم عظيم وشهر كريم بعد أن قضى جل حياته في خدمة عقيدته وبلاده.. هذا هو ملخص ما ورد في عدد من التعازي الرسمية التي وجهها أبرز أربعة مسؤولين جزائريين لعائلة شيخنا الفقيد الراحل عبد الرحمان شيبان، الذي اصطفاه ربه الرحمان في الدنيا حين جعله منارة علمية متنقلة، ونحسب أن له له مقاما عليا عند ربه في الآخرة.. ودأب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة على توجيه تعزية لعائلة أي رمز من رموز الجزائر يتوفاه الله إليه، ومن تابعوا ما كتبه الرئيس في تعزيته الموجهة لعائلة الشيخ شيبان يجدها بلا شك مؤثرة للغاية، ويبدو أنها قد حرص فيها على اختيار الألفاظ القوية التي تترك أثرا كبيرا في نفس متلقيها، وهو إذ خاطب أفراد عائلة الشيخ الراحل بصيغة "آل شيبان"، فإنما أراد بذلك أن يُبرز المكانة الرفيعة للرجل وعائلته، ولم يفت الرئيس الوقوف عند الموعد الذي اختاره الله الرحمن لقبض روح عبده عبد الرحمن، فأشار إلى أن المولى العزيز القدير قد تخير لشيخنا الجليل أعظم يوم في أعظم شهر "ليكون من عباده المكرمين".. وأثنى الرئيس بوتفليقة في تعزيته المؤثرة على مناقب الشيخ الفقيد الذي كرس حياته لخدمة الإسلام والجزائر والعلم. وقال بوتفليقة: "انتقل على سبيل الحق والمغفرة باذنه تعالى رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الرحمن شيبان وفاضت روحه الى بارئها في يوم من أيام الله المباركة يوم الجمعة من رمضان الهدى والفرقان. وفي ذلك فضل من الله ومنة اذ تخير لعبده هذا من الايام أفضلها ومن الشهور أرفعها ليكون من عباده المكرمين". وشهد الرئيس أن الشيخ الراحل قد "جُبل على التقى ونشأ على تحصيل العلم والمعرفة وجاهد في سبيل عقيدته ووطنه حق جهاده وتأدب فدانت له العربية بيانا فتعمق فيما درس ودراس. وبرز أكثر ما برز حين تولى وزارة الشؤون الدينية التي أعطاها من وقته وروحه ومن اصلاحاته وتوجيهاته الكثير الكثير مما جعله محل إكبار وتقدير من كل الذين عملوا معه وزاملوه أو احتكوا به"، وأنه قد "قدم لوطنه وشعبه من جلائل الأعمال". أويحيى: "فاجعة أليمة وخطب جلل" أكد الوزير الأول السيد أحمد أويحيي بأن الجزائر فقدت برحيل رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الرحمن شيبان "أحد أعلامها الأجلاء الذين سجلوا أسماءهم بأحرف من ذهب" في سجل تاريخ البلاد المعاصر. وفي برقية تعزية بعث بها إلى أسرة الفقيد كتب الوزير الأول "لقد تلقيت ببالغ التأثر وعظيم الأسى نبأ وفاة الشيخ العلامة المجاهد الأستاذ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رحمه الله وطيب ثراه وأفاض على روحه الطاهرة مغفرة وثوابا الذي اصطفاه ربه إلى جواره في يوم عظيم وشهر كريم بعد أن قضى جل حياته في خدمة عقيدته وبلاده". واعتبر الوزير الأول بأن الجزائر تكون قد فقدت برحيل الشيخ شيبان "أحد أعلامها الأجلاء الذين سجلوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجل تاريخ بلادنا المعاصر وساهموا أيما إسهام في الجهاد من أجل تحرير الجزائر من براثن الاستعمار والتخلف قبل أن يساهم بعد الاستقلال في بناء الفرد الجزائري معلما ومربيا ومرشدا ووزيرا وعالما وفقيها"، مضيفا بأن فقدان الجزائر لرجل من هذا الوزن "فاجعة أليمة وخطب جلل"، ومذكرا بأن هذه مشيئة الله وقضاؤه. وبهذه المناسبة الأليمة تقدم السيد أويحيي من خلال أسرة المرحوم إلى كل زملاء الفقيد في جمعية العلماء المسلمين وجميع ذويه ومحبيه بأخلص عبارات التعازي وأصدق المواساة والتعاطف متوسلا إلى المولى جلت قدرته أن يتغمد روح الفقيد بواسع الرحمة والغفران ويسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والأبرار وحسن أولئك رفيقا. خسارة كبيرة للجزائر قال عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة أن الجزائر فقدت عالما كبيرا بوفاة رئيس جمعية العلماء المسلمين عبد الرحمن شيبان. وكتب السيد بن صالح في برقية تعزية بعث بها الى اسرة الفقيد "ان مناقب المرحوم فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان عديدة ومشرفة. لقد فقدنا فيه فقيها موثقا وعالما واماما من اعلام وائمة عصرنا هذا في الجزائر والعالم العربي والإسلامي". وأضاف رئيس مجلس الأمة في برقيته : "فالمرحوم من رجالات الجزائر الذين وهبوا حياتهم لخدمتها في مراحل ومواقع عديدة .. في مرحلة الجهاد والذود عن حياض الأمة في رحاب المدرسة الباديسية من المسخ الروحي والثقافي المدبر في ليل الاستعمار.. وبعد ذلك في موقع المسؤولية وزيرا للشؤون الدينية ومن مكانته رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وريثة فكر الاسلاف من العلماء الجزائريين". وأبرز السيد بن صالح أن المرحوم "دافع بحزم وثبات دون تعصب عن هوية الأمة دينا ولغة وثقافة من خلال نشاطات الجمعية مع رفقائه من جيله ومن جيل الشباب.. فظل دائما داعيا الى التمسك بمقومات هويتنا الوطنية مع التفتح على العالم وثقافته وحضاراته". من جهته، ذكر عبد العزيز زيري رئيس المجلس الشعبي الوطني أن الجزائر فقدت في الراحل عبد الرحمن شيبان "رجل فكر مستنير وعلامة بارزة من علامات النضال من أجل جزائر حرة ومستقلة".وكتب السيد زياري في برقية تعزية لعائلة شيخنا الراحل: "إني أشاطركم الحزن والأسى في هذا المصاب الجلل برحيل الفقيد الذي كرس كل حياته من أجل الدفاع عن القيم العربية الإسلامية للجزائر منذ أن بدأ نشاطه في جمعية العلماء المسلمين وما قدمه لتحصين الهوية الوطنية ثم التحاقه بصفوف ثورة التحرير وعمله في لجنة الإعلام لجبهة التحرير الوطني أثناء الثورة وإسهامه أثناء عضويته في المجلس الوطني التأسيسي في فجر الاستقلال وخلال شغله لعدة مناصب".سفيان. ع وصيته تكشف حرصه على سعادة أبناء وطنه وأمته الشيخ شيبان أسلم روحه وهو يدعو لسبيل ربه! تكشف وصية شيخنا الراحل عبد الرحمن شيبان، طيّب الله ثراه، التي أملاها على الدكتور عبد القادر سماري وطلب منه أن يمليها بدوره على الأستاذ محمد مصطفى بن عبد الرحمن الذين كان حاضرا، على أن تُنشر بعد وفاته مباشرة مدى حرصه على أمة الإسلام، وعلى الدعوة إلى سبيل ربه، حتى مماته، كما تبين مدى تعلقه بجمعية العلماء وخوفه عليها. وبقدر ما انشغل الجزائريون، في اليومين الماضيين بفاجعة رحيل شيخ علماء الجزائر، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بقدر ما انشغلوا بتدبر وصيته التي كتبها على فراش الموت، وهي وصية مختصرة، فيها ما قل من الكلام وما دلّ على حكمة الرجل الذي لم يفقد شيئا منها، حتى وهو يستعد لتوديع عالمنا الذي نعيشه، حيث لم يحل وهن جسده وضعف أنفاسه دون تفكيره في مستقبل أمته التي يريد له سعادة الدارين، وفي مستقبل جمعيته التي يريد أن تواصل رسالته من بعده للتمكين للإسلام والمسلمين. الدعوة.. حتى آخر رمق وتحدث شيخنا الفقيد في وصيته عن رسالة جمعية العلماء المسلمين، ولخصها في العمل على نشر "أصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة"، داعيا إلى الحفاظ على مقومات العقيدة الإسلامية التي رأى أنها تتمثل أساسا في الدين والعلم والعدل والشرف والوحدة. وأوصى الشيخ شيبان في آخر وصيته المؤثرة بالحفاظ على جمعية العلماء المسلمين وقال أنه بالحفاظ عليها تُحفظ الغايات التي أشار إليها سابقا. ومن الواضح أن الشيخ شيبان لم يغفل عن هموم الأمة ومستقبل الجمعية حتى وهو على فراش الموت، يشعر أن الملك عزرائيل يوشك أن يقبض روحه، ولذلك سارع إلى الإفصاح عن هذه الوصية، وإلى المطالبة بالإسراع في نشرها، مباشرة بعد رحيله، إدراكا منه بأنها ستكون أقوى أثرا في الأيام الأولى التي تعقب انتقاله إلى العالم الآخر.. وتعكس الوصية كذلك حرص شيخ جمعية العلماء المسلمين على إنارة دروب المسلمين، من خلال نقل خلاصة تجربته في الحياة إليهم جميعا، وقد جاءت الخلاصة مركزة، بحيث قدم لنا "أصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة"، وهو غاية ما يمكن للمرء أن يتمناه الفلاح في الدارين كما تعكس الوصية تعلق الشيخ بجمعيته، وحرصه عليها حتى وهو يودع الحياة الدنيا، حين دعا إلى المحافظة عليها.. وهو واجب على السلطات العليا في البلاد، وعلى أبناء الجمعية أيضا.. هذه الجمعية التي صارت يتيمة اليوم برحيل شيخها الجليل.. نص وصية الشيخ شيبان.. بسم اللّه الرحمان الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، بعد زيارة إلى سماحة الشيخ عبد الرحمان شيبان في عيادة الشفاء أمليت هذه الوصية على الدكتور عبد القادر سماري والذي طلب منه الشيخ أن يمليها على الأستاذ محمد مصطفى بن عبد الرحمان الذي كان حاضرا وأن ينشرها بعد وفاته مباشرة وهذا نصها: رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعود الفضل في تأسيسها إلى العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله، في الجزائر والعالم العمل على نشر أصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة وهي الدين والعلم والعدل والشرف والوحدة وهي تضمن الدين كله والذي حين نحافظ عليه فقد حافظنا على كل شيء فحافظوا على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تضمنوا هذه الغايات بحول اللّه تعالى. * الشيخ شيبان وهو على فراش الموت في مصحة الشفاء بحيدرة. ع. س هذا آخر مقال للشيخ الراحل تتشرف "أخبار اليوم" بإعادة نشر آخر ما جادت به قريحة شيخنا الراحل عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو مقال نُشر له قبل أيام في جريدة البصائر الأسبوعية، لسان حال الجمعية، أوصى فيه بالأطفال خيرا، وبدأه بآية تتحدث عن المحيا والممات والبعث، وكأنه شعر أن أجله بات قريبا.. من فيض الفكر: يولد الإنسان طفلا ويموت طفلا فلنتق الله في الأطفال... كنت ذات يوم أتلو القرآن فاستوقفني قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة الحج: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً.." فرحت أتساءل عن السبب الذي جعل الله سبحانه يتخذ من خلق الإنسان ومراحل تطوره دليلا على صحة البعث، وأنه حق لا ريب فيه.. وبعد تفكير ملي، وتدبر طويل، تأكد لي أن العلاقة المنطقية بين هذا وذاك، هي أن الإنسان إذا تأمل في مراحل تطوره، وكيف يتنقل فيها من الضعف إلى القوة، ثم من القوة إلى الضعف، وأنه في حالة الضعف الأولى، أي حالة طفولته يلقي الله له محبة في قلبي والديه، كما قال تعالى في الآية التاسعة والثلاثين من سورة طه: ".. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي.." مما يجعلهما يحيطانه برعايتهما البالغة، ويذودان عنه كل مكروه، فيصل إليه رزقه الذي قدره الله له من غير أن يمد له يدا أو يسعى إليه برجل، ولولا تلك المحبة له التي بثها الله في قلبي والديه، ما اجتاز تلك المرحلة بسلام، فإذا ما اشتد عوده، نسي مرحلة الضعف تلك، وكيف أنه لولا عناية والديه به وحدبهما عليه فيها، لكان من الهالكين، فيطغى ويتجبر، ويكفر ولا يشكر، ولكن تلك القوة التي حلت فيه لا تلبث إلا قليلا ثم ترحل عنه، ويرتد إلى حالة من الضعف أشد من الأولى، كما قال تعالى في الآية الرابعة والخمسين من سورة الروم: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" وإن كان الناس في طفولة المرء يغدقون عليه عطفهم، ويمنحونه عونهم، فإنهم قد يفعلون ذلك رجاء خيره بعد أن يقوى عوده، ويشتد ساعده، أما في حالة الضعف والشيبة، فلا أمل فيه، ولا خير يرجى منه، ومع ذلك يقيض الله له من يكفله ويرعاه من ولده إن كان ذا خلفة، أومن الناس الآخرين إن كان عقيما، وهكذا، فالذي يملك مثل هذه القدرة على الحفظ التي عاينها الإنسان في حالتي ضعفه الأولى والثانية، يعطي الدليل القاطع على أنه قادر على بعث الإنسان ومحاسبته، ومجازاته إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. ثم وجدتني أتساءل من جديد: ماذا لو قسا الواحد منا على أطفاله، فلم يحسن رعايتهم صغارا، وقصر في تربيتهم والعناية بهم في مرحلة ضعفهم، ولم يبذل لهم عونه ومساعدته، ولا أشعرهم بعطفه عليهم، وحبه لهم، ألا يترتب على ذلك هجرهم له، وتخليهم عنه، وقد غدا شيخا وبلغ من الكبر عتيا، كما قال النبي زكريا عليه السلام؟ ثم هل يعد ذلك منهم عقوقا أم معاملة بالمثل؟ وهنا تذكرت ما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قبل الحسن بن علي – رضي الله عنه – وعنده الأقرع بن حابس جالسا فقال: إن لي عشرا من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: " من لا يرحم لا يرحم" فقلت لنفسي بعد تذكر ما وقع للحابس بن الأقرع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقع هذا لمن لم يبد حبه لأولاده، ولم يتودد لهم، فكيف يكون حال من حرمهم رفده، وأمسك عنهم ما عنده، وأهمل تعليمهم، وقصر في تربيتهم، فحضرتني قصة رجل قرأتها في الجزء الأول من كتاب "تربية الأولاد في الإسلام، ص 127-128 وهذا نصها: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وابنه وأنّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه ، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن أسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن)، قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعلاً (أي خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟!" ومن هنا ندرك أن أولئك العجزة من الشيوخ والنساء الذين يودعهم أبناؤهم وبناتهم فيما اصطلح على تسميته بديار الرحمة، بينما كانت تسميتها بديار النقمة أولى، لأن المودعين فيها قد يكونون ضحايا نقمة أولادهم وبناتهم عليهم، جراء إهمالهم لهم صغارا، وعدم التفاتهم إليهم، وعنايتهم بهم، مما جعلهم لا يذكرون لهم فضلا، ولا يعرفون لهم حقا ولا قدرا، يوجب لهم الشفقة عليهم، والتودد إليهم، وخير ما يثبت ذلك ويدل عليه تلك النصيحة الحكيمة التي وجهها الأحنف بن قيس لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- لما علم بغضبه على ولده يزيد وهجره له، التي قال له فيها: (يا أمير المؤمنين: أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، ولاتكن عليهم قفلا فيملوا حياتك، ويتمنوا موتك"، يعزز هذا ويؤكده ما جاء في الأثر من أحدهم شكا لصحابي عقوق بنيه له، فقال له: (لو بررتهم صغارا لبروك كبارا، ألا فاعلم أن البر سلف) ألا فلنتق الله في الأطفال...! بقلم: الشيخ عبد الرحمن شيبان عن جريدة البصائر الأسبوعية في مكتب الشيخ شيبان كانت لنا أيام..! بقلم: الأستاذ كمال أبوسنة * أستسمح الأستاذ الكبير أنيس منصور لأستعير منه عنوان كتابه الممتع:" في صالون العقاد كانت لنا أيام" مع شيء من التغيير فيه، وإن كان هناك شبه كبير بين الشيخ شيبان والأستاذ العقاد، في المعنى والمبنى، بل وكان الشيخ شيبان من المعجبين بالعقاد والمقدرين لأدبه وفكره وموقفه المشرف من الثورة الجزائرية عكس عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان موقفه من الثورة باردا إلى حد كبير..! كنتُ كغيري من أبناء جيلي نعرف الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله مفتشا عاما في وزارة التربية من خلال الكتب المدرسية التي أشرف عليها، ثم من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي التي كان ينظمها أيام وزارته للشؤون الدينية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، ثم رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ساهم في بعثها بالحظ الأوفر وكنت واحدا من المقربين منه الذين رافقوه سنوات في الحل والترحال... لقد كان مكتب الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله خلية نشطة تبدأ حركتها الفعالة بوصول الشيخ شيبان إلى مقر جمعية العلماء صباحا وتنتهي بمغادرته مساء قافلا إلى بيته، ثم لا يلبث حتى يعاود الخروج منه لحضور أنشطة علمية وثقافية وسياسية، والمشاركة في المؤتمرات والندوات التي كان حريصا على أن يُسمع فيها صوت جمعية العلماء..! كنتُ أستقبله أمام باب المقر، فكان يخرج من سيارته نشطا وهو يصارع ما فعلته الشيخوخة في جسده، وأصعد معه أدراج المقر ولا يخلو هذا الصعود من طرفة مضحكة، أو حكمة بالغة، أو زفرة تخرج منه لموقف مؤلم في الداخل أو الخارج، أو قصة محفورة في ذاكرته القوية التي لا تنسى أدق التفاصيل يرويها للعبرة والاتعاظ..! كان الشيخ رحمه الله في مكتبه يتابع كل صغيرة وكبيرة خارج المقر وداخله، ويحرص على الإشراف على كل شيء بنفسه طلبا للحد الأعلى من الكمال ويفسر ذلك بقوله:"إنه القلق البيداغوجي"، بل وكان كثيرا ما يتصل بي وبغيري في أوقات متأخرة من الليل ويفتح حديثه بعد السلام قائلا:"أنا لا أنام ولا أترك غيري ينام" وكان هذا مرهقا له وللعاملين معه، وأذكر أنني قلتُ له يوما وأنا في مكتبه نقوم معا بأداء بعض الأعمال التي تنوء بالعصبة أولي القوة، ومراجعة نص خطاب كان سيلقيه في ندوة من الندوات:" شيخنا أنت مثل السيارة التي تسير أكثر من 300 كيلو متر في الساعة ومَثَلُنا كمثل السيارة التي لا يمكنها أن تتجاوز 150 كيلو متر في الساعة فرفقا بنا يرحمك الله" فكان يبتسم ويعلق:"عليكم أن تلحقوا بي لأنني لا أستطيع أن أخفف من السرعة". لقد كان الشيخ رحمه الله مرهوب الجانب إذا غضب بسبب تقصير في عمل ما له علاقة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولهذا كان "البعض" يتحاشه حتى لا يناله التأنيب والتقريع وربما طلب مني التوسط والشفاعة، فإذا استدعى أحدا للدخول عليه في مكتبه قلتُ لمن معي من الإخوة:"اسألوا لأخيكم الثبات فإنه اليوم يُسأل" وقد ذكرتُ له ذلك فضحك من هذه العبارة حتى بدت نواجذه. وأشهد أن شيخنا عبد الرحمن شيبان رحمة الله عليه كان يملك عاطفة جياشة يغمر بها من يستحقها، ويحسن معاشرة الناس والتعامل معهم حتى ليظن كل من يعرفه أنه أثير عنده دون البقية، وكان يحافظ قدر المستطاع على صلة الود بينه وبين من يعرف حتى لا تنقطع، والشهادة لله أنه رغم مكانته وسنه وعلمه كان لا يأنف من الاعتذار إذا أحس أنه أخطأ في حق أحد من العاملين معه، وقد جاءني يوما بنفسه إلى مكتبي معتذرا بسبب سوء تفاهم في مسألة لها علاقة بالجمعية، وهو من هو وأنا من أنا، وقد زاده هذا التصرف تقديرا عندي وحبا. كان يوم السبت يوما له خصوصية بالنسبة لنا وللشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله ، فقد كنا في هذا اليوم بعد جهد يدوم إلى وقت متأخر من الليل ندفع فيه جريدة البصائر إلى المطبعة، وكان الشيخ حين يصل إلى مكتبه نجتمع معه ليقرأ علينا "سانحته" فكانت جلسات يوم السبت عبارة عن ندوة علمية أدبية شرعية سياسية لغوية يديرها الشيخ رحمه الله ، ولكل الحاضرين الذين اصطفاهم لهذه الجلسة الخاصة الحرية المطلقة في نقد ما يطرحه في سانحته، وكان يأخذ برأي غيره بتواضع كبير إن رأى فيه الصواب ووافقت الجماعة عليه..! كان الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله في الحوادث الداخلية والخارجية التي تستدعي أن يكون للجمعية موقف فيها يجمعنا في مكتبه ثم يطرح المسألة ونناقشها من كل جوانبها ثم يطلب من كل واحد منا رأيه، فإذا لم نجتمع على رأي واحد يأخذ برأي الأغلبية عاملا بقوله تعالى:}وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {.[الشورى الآية 38].ومما أذكر-وما أكثر الذكريات- أن الشيخ رحمه الله جاءته دعوة من السفارة الأمريكية لحضور حفل أقامته –أظن-بمناسبة ذكرى الاستقلال، وكانت "غزة" يومها تعيش الحصار وتُقصف بالصواريخ الصهيونية من صنع أمريكا ليلا ونهارا، وكعادته استشار من استشار من قيادات الجمعية في مسألة استجابة الدعوة وكنتُ غير موجود لانشغالي بعمل يخص الجمعية، فرأى بعضهم ألا يستجيب للدعوة ولا تكون جمعية العلماء ممثلة في هذا الحفل لأن أمريكا تساند الكيان الصهيوني في إرهابه وقتله لإخواننا في فلسطين، وكان يرحمه الله يحب فلسطين حبا جما ويجلّ المجاهدين فيها إجلال عظيما، وحين اجتمعتُ به بعد فراغي من العمل، وكنتُ وحدي في مكتبه، سألني عن رأي في المسألة فقلت له:" شخصيا أرى أن تذهب"، فارتسمت على صفحات وجه الشيخ علامات استفهام وتعجب، ثم أضفتُ قائلا:" إن ترك الكرسي شاغرا لن يخدم أحدا، وأرى أن هذه الدعوة فرصة سانحة للجمعية لتندد مباشرة - من خلالك - بما يفعله الصهاينة في حق إخواننا في غزة من حصار وتجويع وتقتيل، وتندد بقوة بمساندة أمريكا للكيان الصهيوني" فتبسم الشيخ وقال لي:" كنتُ أظن أن حماسة الشباب ستجعلك ترى رأي المقاطعين، ولكنك فاجأتني بليونتك ودبلوماسيتك وحسن تدبيرك".وقد أخذ الشيخ بالرأي الوسط إذ امتنع عن الذهاب بنفسه وأرسل من يمثله في هذا الحفل مع توصيتهم بتوضيح موقف الجمعية من المسألة والتنديد بإرهاب الصهاينة ومساندة أمريكا". لقد كان الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله دبلوماسيا من الدرجة الأولى يعرف متى يتحدث وكيف يتحدث وله طريقة ساحرة في المحاورة تأخذ بألباب من يلقونه، وكنا حين يزورنا أحد السفراء أو الشخصيات المعروفة في الداخل أو الخارج نرتب كل شيء، وكان الشيخ قبل أن يلقى واحدا من هؤلاء يجمع القدر الكافي من المعلومات حتى يكون على بينة من أمره، ولهذا تجد الذين زاروه يَعْجَبُون منه ومن عمق إحاطته بالأمور وحنكته السياسية، ومن لباقته وحسن حديثه وبشاشته وقدرته العجيبة على كسب القلوب، ولعل هذا ما جعله واحدا من شخصيات الإجماع في الجزائر يلف ببرنوسه كل التوجهات دون أن يذوب فيها، وأذكر أنني قلتُ له يوما:"إنني أشبِّهك في دهائك السياسي وبرودة أعصابك في المواقف الجُلَّى بعبد الملك بن مروان" فضحك الشيخ رحمه الله..! لقد خسرت جمعية العلماء والجزائر والأمة الإسلامية بوفاة الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله عالما فذا لا يتكرر في مسيرة التاريخ، فالله أسال أن يرزق من يخلفه القدرة على المضي بجمعية العلماء نحو أفاق جديدة من الوحدة الفكرية والعملية والنجاح الذي ينفع البلاد والعباد. * عضو المجلس الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.