ترددت طويلا قبل أن أخط هذه السطور، لأنني أعلم مدى حساسية الأشقاء في مصر تجاه كل نقد غير مصري يتناول النظام في أرض الكنانة، وكنت قبل لحظات أحسست، خلال مكالمة هاتفية مع الإعلامية القديرة منى الشاذلي، بحجم القلق الكبير الذي تعيشه وتجسد به مشاعر كل المصريين، وهو ما برز في برنامجها المسائي يوم الثلاثاء، حيث أوردت ما تردد من أن خطاب رئيس المجلس العسكري الأعلى المشير حسين طنطاوي مساء الثلاثاء بدا وكأنه من تحرير وزير الإعلام في عهد الرئيس مبارك. وسألتني مُنى، وأنا أعبر لها عن تعاطفنا مع ما يعيشه الشعب المصري: »كيف ترون الأمور عن بعد؟«، وقلت لها: »بجملة واحدة، القرار السياسي إذا لم يتخذ ساعة يجب أن يتخذ يصبح مثل الحوت عندما ينقضي عليه يوم صيف حار«. والواقع أن ما تعيشه مصر هذه الأيام يثير قلق كل الذين يدركون حجم ما يمكن أن يصيب القطر الشقيق بشكل مباشر، بالإضافة إلى ما يمكن أن ينعكس على المنطقة نتيجة لاختلال الاستقرار في مصر. ولقد كان خطاب المشير طنطاوي صورة حقيقية للأوضاع المضطربة التي تعرفها أرض الكنانة، وأعطى »مونتاج« الخطاب صورة بالغة السوء عن الرجل الذي يتحمل مصير البلاد في هذه المرحلة، والذي عرف دائما أنه يحظى باحترام وتقدير الجميع، بتاريخه وبرزانته وهدوئه، لكن كان واضحا أن الخطاب تم تسجيله أكثر من مرة، وكان هناك خلل في توافق الصوت مع الصورة أثار شكوكا في صدقيته، وكان مضمون الخطاب اجترارا لنفس الخطأ الذي كان يخلط من جهة بين القوات المسلحة المصرية كدرع للوطن وكوريثة لأمجاد الكفاح الوطني بما لا يسمح بأي حال من الأحوال بأي مساس بها، وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة من جهة أخرى، كهيئة سياسية تدير شؤون البلاد، وهي ليست بأي حال من الأحوال فوق مستوى النقد والانتقاد، وبالتالي فلم يكن صحيحا أن القوات المسلحة تعرضت لأي هجوم كان. ولم يكن المشير موفقا وهو يتحدث عن استعداد المجلس العسكري لترك السلطة إذا رغب الشعب في ذلك وعبر عنه في استفتاء عام، حيث كانت ردود فعل الشارع متناقضة كما عبر عن ذلك برنامج العاشرة مساء، وكان هناك من وصفه بأنه كان *لغما* مقصودا. وكان من أبرز ما لوحظ أن المشير استعمل في الإشارة إلى القرارات المتخذة مفرد فعل القرار، بقوله: »قررتُ«، بدلا من »قررنا« بالجمع، أي المجلس، وهي مسؤولية من أعد الخطاب، ولن أتحدث عن شكوك ساورت كثيرين حول النوايا، وبرغم أن المشير عبر عن أساه لما حدث من قمع في الأيام الأخيرة فإنه لم يُشرْ مرة واحدة إلى أخطاء ارتكبت في التعامل مع الأحداث منذ فبراير الماضي، وكان هذا هو الخطأ الخطيئة الذي ارتكبته كل القيادات العربية في مواجهتها لاحتجاجات الجماهير، ولم يصل الخطاب الرئاسي لمعظم من كان يجب أن يصل إليهم لأن المكلفين بالتنظيم لم يضعوا مكبرات صوت كافية في ميدان التحرير. ولا بد من نظرة سريعة على مسار الأحداث منذ خلو منصب رئيس الجمهورية في فبراير الماضي، لنتوقف، وبدون تشكيك في النوايا، عند العثرات التي قادت الأوضاع إلى صدامات دموية، كان المفروض أنها أصبحت جزءا من ماضٍ غابر ذهب إلى غير رجعة. ولعل أول ما يصدم الملاحظ أن المجلس العسكري لم يدرك حقيقية بديهية تقول بأنه، بحكم التكوين الخاص ونوعية الممارسة العملية، غير مؤهل لإدارة العمل السياسي بشكل مباشر، وتواكب مع هذا أن الأشقاء في مصر، عسكريين ومدنيين، لم يحاولوا دراسة التجربة التونسية، وبغض النظر عن الخلفيات التي تسببت في تجاهل تجربة رائدة سيكون لها بصماتها على المنطقة كلها، وعلى تعامل الغرب بصفة عامة مع التيار الإسلامي في الوطن العربي. ويقول الكاتب حسنين كروم: »كانت بداية الخطأ عندما لم يستمع )المجلس( للآراء التي طالبت بوضع الدستور أولا، كما أن قراراته كانت تتسم بالبطء، وأثارت الشكوك فيه وفي نواياه في التمتع بوضع متميز يبعد الجيش عن المساءلة بحيث يكون فوق المؤسسات«، كما قال الكاتب المصري. والواقع هو أن صيغة إنهاء حكم مبارك كانت صيغة بدت مشبوهة، وكان يمكن قبولها لفترة زمنية محدودة جدا، تماما مثل تونس، لكن هذا لم يحدث، وبهذا بدا أن رأس النظام فقط هو الذي سقط سقوطا جزئيا، بينما ظل النظام، كنظام، متكاملا متماسكا قادرا على التأثير في مجرى الأحداث. ففي فبراير أعلن اللواء عمر سليمان، المُعيّن حديثا كنائب لرئيس الجمهورية، أن الرئيس حسني مبارك »قرّر« تخليه عن منصب رئاسة الجمهورية، وكلمة »التخلي« كلمة مائعة، وكان التفسير حسن النية لاستعمالها مجرد الحرص على إرضاء الرئيس نفسيا، فهي تتناقض بشكل رهيب مع تعبير »نزولا على إرادة الشعب«، التي أصر الضباط الأحرار في يوليو 1952 على أن تكون في صلب قرار تنحي الملك فاروق الأول عن السلطة. وكان المفروض، في تصوري، أن يعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل نهاية فبراير حل مجلسي الشعب والشورى، ثم إعلان حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، ليتم الدخول في وضعية شرعية جديدة يكون المسؤول الرسمي الأول فيها هو رئيس المحكمة الدستورية. وكان هذا يعني بطبيعة الحال الحفاظ على وجود وزارة الفريق أحمد شفيق في السلطة لأن المفروض أن الرئيس المؤقت لا يملك حق تغيير الحكومة، حيث يتوقف دوره عند الإعداد لانتخابات رئاسية جديدة. الدرس التونسي وكان على الجيش هنا أن يظل وراء الستار السياسي، وأن يبتعد عن كل ظهور إعلامي يُعطي الشعور بأنه يقوم بنفس الدور الذي كان منوطا بالرئيس السابق، وهو ما حدث في تونس، حيث لم يظهر رئيس أركان الجيش الفريق رشيد عمار إلا مرة أو مرتين، وترك الواجهة تماما لفؤاد المبزع وباجي قايد السبسي، بعد أن تم تجاوز الفخ الذي تم بموجبه تعيين محمد الغنوشي، بصفة مؤقتة كما قيل، على رأس الدولة، وهو ما كان يعني أن دور الرئيس زين العابدين بن علي ما زال قائما. لكن المجلس العسكري في مصر احتل واجهة المشهد السياسي، واستطاع أن يضيف إلى رصيده في حماية الثورة من قمع النظام ما أكسبه شعبية كاسحة، عندما ظهر اللواء الفنجري على شاشة التلفزة وهو يؤدي التحية العسكرية لشهداء الثورة، وعرفت تلك اللحظة قمة الحماس الجماهيري للمجلس العسكري، وكان اللواء بالغ الذكاء والحكمة في التعامل مع الموقف. لكن ذلك تزامن مع أمر أثار الكثير من القلق والتساؤلات، فقد تكاثر على أمواج الفضائيات المصرية أعداد هامة من العسكريين المتقاعدين، راح معظمهم يمجد دور المؤسسة العسكرية بشكل أثار الريبة، لأنه لا أحد شكك في قيمتها وفي دورها، وبدا بعضهم وكأنه يريد تأييد المؤسسة لتحقيق مطامح شخصية. وتجري الاستعانة بشخصيات سياسية مثل الدكتور يحيى الجمل وغيره من القيادات الوطنية الفكرية، ولكنها لم تستطع التأقلم مع متطلبات شباب الثورة، فقد بدا أنها، رغم كل نواياها الطيبة وإرادتها الصادقة، تنتمي إلى ماضٍ سحيق. ويتم تغيير الحكومة، ولكن الناس تحس بأنها حكومة لا تملك ولا تحكم، وأنها مجرد سكرتارية للمجلس العسكري، ويتنامى الإحساس بأن المجلس العسكري يتصرف بحجم من الغرور الناتج عن شعور أعضائه بأنهم يعرفون كل شيء ويتحكمون في كل شيء ولا تخفى عليهم خافية، وسمعت بنفسي قائدا عسكريا كبيرا يرد على قانوني بارز قال، دفاعا عن بعض ما وجه من نقد لأداء المجلس العسكري، بأن على الجميع أن يتفهموا بأن العسكريين لم تتح لهم الفرصة لإدارة الشأن العام، وكان ردّ الضابط السامي متشنجا وهو يقول بأنهم درسوا في الكلية الحربية كل المعطيات السياسية والإستراتيجية، لكن الغريب أنه ختم مداخلته التليفيزيونية مع الفضائية مدافعا عن اتهام للمجلس بالتواطؤ مع الإسلاميين بتعبير متناقض مع كل ما قاله، حيث أفلت منه تعبير يقول بأنه لم يكن يعرف حتى اليوم الفرق بين السلفي والإخواني. وتعرف الساحة الإعلامية خللا في صورة القيادات العسكرية الجماهيرية عندما اشتبك أحد أعضاء المجلس مع مذيعة التلفزة المتميزة دينا عبد الحميد ووجه لها لوما شديدا لأنها استضافت في حصتها سيدة لم يكن يتفق مع رأيها في مسار الأحداث، وكان أخطر ما حدث إثر تلك المشادة ما مورس من ضغوط على قناة دريم »الخاصة« لكي تقوم بطرد المذيعة المتميزة. وهكذا تزايد الخلط بين المؤسسة العسكرية التي يتلخص دورها في حماية الوطن، وبين المجلس الأعلى الذي يتحمل مسؤولية السلطة التنفيذية والتشريعية في البلاد. وكان الفراغ الأمني في مصر رهيبا، وثبت اليوم أن أعمدة النظام السابق مسؤولون عن ذلك إلى حد كبير، سيرا على منطق »إما نحن أو الفوضى«. ولست أدري كيف لم يتوقف المسؤولون القياديون في مصر عند حقيقة تفقأ الأعين تقول بأن رجال نظام مبارك يمسكون بأوراق هائلة في أيديهم، أهمها الحجم الكبير من الأموال التي يتحكمون فيها، والتواطؤ الكبير مع العديد من قيادات القوات الأمنية التي كانت تدرك بأن رأسها مطلوب من الجماهير، والعلاقات الواسعة مع قيادات دول شقيقة وصديقة. درس جمال عبد الناصر كان المفروض أن تقوم السلطات بنفس ما قامت به القيادة السياسية المصرية إثر هزيمة يونيو 1967، عندما قام الرئيس عبد الناصر بتغيير كل القيادات العسكرية القديمة، وفتح الباب أمام وجوه متميزة من أمثال الفرقاء محمد فوزي وعبد المنعم رياض وسعد الدين الشاذلي وعبد الغني الغمسي، رحم الله الجميع. وعلى العكس من ذلك كان التعامل مع الوضعية الأمنية مائعا بشكل يثير التساؤل، وهكذا لم يقم المجلس العسكري باختيار مجموعة قيادية جديدة للأمن، تضم مجموعات مختارة من الأمن العسكري والشرطة الحربية بجانب أسماء تحظى بالثقة من بين القيادات الأمنية السابقة في المستوى المتوسط، وأتصور أن المخابرات المصرية كانت تملك قوائم لكل من يشغلون مناصب محورية بما يمكنها من اختيار القيادات الجديدة. وينسى الكثيرون بأن الأمن السياسي المصري سيئ السمعة منذ قديم الزمان، وهناك من يعود بتاريخه الأسود إلى أحداث »دنشواي« عام 1906، وإلى مرحلة حكومة إبراهيم عبد الهادي في نهاية الأربعينيات تحت حكم الملك فاروق، والتي سميت مرحلة »العسكري الأسود«، حيث تعرض الإخوان المسلمون إلى تعذيب لم يعرفه التاريخ، وعاشوا مثله في منتصف الستينيات مع الكثيرين من عناصر اليسار المصري. وهكذا كانت الثقة مفقودة تماما مع الشرطة المصرية، كان المفروض أن يجري تجميد مؤسسات الأمن السياسي والمركزي سيئة السمعة، وفي الوقت نفسه تتم المحافظة على الشرطة الجوارية المكلفة بأقسام البوليس والمرور وغير ذلك، ودائما بعد إخلاء المناصب القيادية العليا، ولو مرحليا، حيث ثبت أن أغلبية هامة من رجال الشرطة غير المرتبطين بالأمن السياسي كانوا مثالا للأخلاق والانضباط واحترام المواطن بشكل عام. وأتذكر أنني قلت لصحفي مصري سألني الرأي بأن المواطن المصري يجب أن يرى في الشارع شرطة جديدة، وحتى ولو لزم الأمر القيام بتغيير الملابس الرسمية لرجل الشرطة، واستبعاد أصحاب الملابس التي كانت سيئة السمعة مثل ما كان يُسمّى أمناء الشرطة. وكان من نتيجة الأسلوب المتبع في التعامل مع التطورات أن أهم مطالب الجماهير، وهي محاكمة المسؤولين المباشرين عن قتل المتظاهرين، لم تحدث، وبدلا من ذلك أجريت عمليات محاكمات مسرحية بدت كمحاولة لإلهاء الشارع. وكانت محاكمة قتلة شهيد الإسكندرية خالد سعيد فضيحة الفضائح. إللي علّم ماماتش !!! أخطر من ذلك، ردد بيان أصدره المجلس الأعلى نفس عبارات النظام السابق متهما المتظاهرين بأن منهم من يعمل وفقا لأجندات خارجية، ولم يؤكد اتهاماته بشكل يبرز جديتها، وأثار هذا قلق الشباب الذين يعترف الجميع بأنهم أغلبية مصرية نقية لا تطمح حتى إلى تولي سلطات في جهاز الحكم، وسنلاحظ أن نفس اللغة عادت في أحداث نوفمبر إثر مصادمات ميدان التحرير، وكتب ياسر رزق رئيس تحرير »الأخبار« مقالا عنيفا بسبب ما تعرض له مندوب الجريدة في الإسكندرية على أيدي الشرطة بقوله: يقبع السفاح حبيب العادلي في زنزانته بمزرعة »طرة«، حيث السجن الذي يطلق عليه تندرا سجن »الخمسة نجوم«، قرير العين مرتاح البال، يتابع ما يجري في ميدان التحرير والميادين الرئيسية بعواصم المحافظات، وهو يقول لنفسه »اللي علّم ما ماتش«، وهكذا فإن أرواح المصريين التي ذهبت سدى خلال الساعات الاثنتين والسبعين الماضية، ودماء قرابة الألفي موطن التي أريقت هباء، هي دليل جديد على أن مدرسة العادلي لم تغلق أبوابها، وأن أسلوب القمع الوحشي في التعامل مع المظاهرات السلمية قبل ثورة يناير لم يتغير وأنه صار منهجا يجد من يدافع عنه داخل الوزارة، ويختلق له المبررات بدعوى أنه الوسيلة المثلى لحماية الثورة، وآخر تلك الوقائع الفاضحة العدوان الآثم الذي تعرض له الزميل سرحان سنارة الصحافي بجريدة »الأخبار«، فقد اختطف وهو يؤدي عمله واقتيد إلى مديرية أمن الإسكندرية وجرد من ملابسه وقيدت يداه وعصبت عيناه وضرب بالعصي وعذب ساعات طويلة ولم يرحمه الجلادون من التعذيب حتى بعد أن علموا أنه مريض بالسرطان. وترددت في العديد من قنوات التلفزة المصرية أقوال تدعي بأن الأمن في محاولته تفريق المتجمعين في ميدان التحرير، ممن لم يحاولوا التوجه إلى وزارة الداخلية لحرقها كما ادعى بعض كتبة النظام، استخدم قنابل غازية جديدة، كان لها مفعول رهيب . ويقول الكاتب المصري المتميز إبراهيم عيسى، الذي خبرنا رجولته إثر أحداث الكرة التي خطط لها نظام مبارك، أن المجلس العسكري وحده هو المسؤول عما يجري في ميدان التحرير منذ ظهيرة السبت الماضي، وهو يتحمل مسؤولية فشله في إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية التي لم ننتقل فيها إلا إلى الانفلات الأمني والتعثر الاقتصادي والعشوائية السياسية وتفشي الأحزاب الدينية وغياب الإحساس بالأمان والخوف من المجهول. وقد تعلمنا من كل أزمة تفجرت منذ فبراير الماضي أن لا نعول كثيرا على ذكاء المجلس السياسي ولا قدرته على اتخاذ القرار، إنه مجلس مرتبك سياسيا ومرتجل في قراراته ومتردد في كل شيء وبطيء جدا وسلحفائي التغيير ويتوجس من القوى السياسية ويدير- بطريقة غير ثورية- ثورة لم تعد تطيق فشل مسارها وخيبة أملها، أو كما قال. الاضطرابات القبطية والواقع أن القيادات السياسية القديمة وجلها من رجال الأعمال وأصحاب الأموال ومجموعات القيادات الأمنية المتواطئة، انتهزت فرصة الميوعة القيادية فأخذت في تحريك الشارع لخلق الشعور بالاضطراب، وهكذا تزايدت التظاهرات اليومية التي تحمل مطالب فئوية، وأضيف إلى ذلك تحركات متشنجة من ملتحين لم يكن لهم أي فضل في انطلاقة الثورة، وكانوا متهمين بالتواطؤ مع قيادات الأمن، وتزايد الشنآن مع الأقباط المصريين ووصل إلى حد حرق الكنائس، وحدثت تظاهرات من المسيحيين أمام مبنى التلفزة في »ماسبيرو« أسفرت عن قتلى جدد، وانتهز بعض المحسوبين على يسار لم يساهم بشكل عملي في الثورة الفرصة لتحريض الجماهير ضد الخطر الإسلامي الزاحف على البلاد، مما ضاعف من حجم التوتر وزاد من خلط الأوراق على الساحة. وكانت المحصلة النهائية أن وضع الحكومة، الذي بدا صوريا وأقرب لوضعية ما يسمى في مصر *المحلل* أو التيس المستعار عندنا، جعلها لا تتمكن من القيام بدور مانع الصدمات، وهكذا ارتفع النقد ليطال المجلس العسكري الذي بدأت هيبته في التآكل، وأصبحت البلاد في وضعية أسرة أصيب عائلها بما يمنعه من القيام بواجباته، ودخلت على خط الأحداث صراعات عقائدية نتجت عن نفس الاتجاهات الحمقاء التي عرفناها في الجزائر، وأدت إلى ما أصبح يسمى العشرية الدموية. ويتأكد يوما بعد يوم أن الخطأ الجوهري الذي وقع فيه المجلس العسكري عدم استفادته من التجربة التونسية حيث ظلت الجيش في الكواليس وترك لسياسيين محترفين قيادة المرحلة الانتقالية، ولو ظاهريا، وهكذا انطلقت المرحلة الجديدة في تونس بإنشاء المجلس التأسيسي الذي يحدد قواعد اللعبة السياسية المستقبلية. وكان هذا، في تصوري، عكس ما حدث في مصر، فبدلا من أن تحدد قواعد اللعبة السياسية دستوريا عن طريق مجلس دستوري يضم كل الكفاءات المصرية، وما أكثرها، بجانب فعاليات حزبية نظيفة وممثلين عن شباب الثوار الذي أثبتوا وعيا عميقا وإدراكا متميزا لمتطلبات المرحلة، بدلا من ذلك اكتفي بإعلان دستوري يحل مرحليا محل الدستور السابق، وتقرر البدء بالانتخابات التشريعية التي ستقود إلى تكوين جمعية دستورية لوضع الدستور الجديد، وهو ما رأى فيه شباب الثوار وضعا للعربة أمام الحصان، وأدى هذا إلى الشعور بأن البدء بالانتخابات التشريعية سيحرم الثوار الحقيقيين من الوجود بشكل مؤثر في مراكز القرار السياسي، الذي ستستولي عليه تجمعات سياسية لها خبرتها وتجاربها في تسيير الشارع، لكن من بينها من يرفض الالتزام بالتطور المصري الذي أحدثته ثورة يوليو 1952 ويحرص على تصفية حساباته معها، ووجدت هذه الاتجاهات من السلطات الأمنية تفهما لعل أساسه قاعدة أن من نعرفه خير ممن لا نعرفه، لكيلا أسير في نفس الخط الذي يزعم به البعض وجود تواطؤات سابقة مع بعض القيادات. وهكذا حدث الشرخ الرهيب بين شباب الميادين العامة الذين يُرمز لهم بشباب التحرير، ومجموع القيادات الحزبية التي راحت تتسابق للحصول على نصيب من الكعكة كما يقال، وكان أخطر الانشقاقات ما حدث بين قيادة الإخوان المسلمين، حزبا وجماعات منتسبة، وشباب ينتمون إلى الفكر الإسلامي ولكنهم يرفضون تلاعبات القيادات. ويبقى أن كل القلوب المؤمنة عبر الوطن العربي والعالم الإسلامي تدعو الله أن تتمكن مصر من تجاوز المحنة، فقد بذل شعب مصر الكثير الكثير في سبيل الوطن العربي والعالم الإسلامي، وكانت قواته المسلحة رمزا للجيش الوطني الشريف الذي يدافع عن الوطن وعن آماله وطموحاته المشروعة، ولم يتحول إلى كتائب أمنية لحماية النظام الفاسد، كما حدث في أكثر من بلد عربي عشنا ونعيش ثوراته، وهو بلد يغلي بالكفاءات المتميزة في كل الميادين، أكد شبابه من مختلف التوجهات أنه شباب نقي طاهر، وكل هذا يفرض وقفة نقد ذاتي يقوم بها المجلس العسكري الأعلى، الثري بالشخصيات الوطنية، بما يفرض مزيجا من التواضع والانضباط ودراسة كل المعطيات بما يتطلبه الوضع من رصانة واتزان. وأول المطلوب حكومة قوية، وإعادة النظر في الأسبقيات السياسية، وتحقيق التوازن في ممارسة الحوار بين السياسيين المحترفينمن جهة وشباب الثوار في الميدان من جهة أخرى، ولجْم قيادات الأمن السياسي التي ما زالت تسرح وتمرح وتتواطؤ، وأخير وليس آخرا... بعض التواضع والتخفيف من الظهور الإعلامي الكاسح للمجلس الأعلى، بحيث تترك الصدارة للحكومة فعليا. ولعل هذا يتطلب أيضا دعما مطلقا وغير مشروط من كل القيادات العربية والإسلامية، لأن استقرار المنطقة كلها من استقرار مصر. ولعلي أعود إلى الحديث.