الآن••• والآن فقط يمكن القول أن الشعب الجزائري قد بات يتيما، ذلك اليتم الذي لا يتمثل في فقدان الأب البيولوجي، ولا حتى في الأب الروحي، ولكن في فقدان ذلك الركن الذي لا يهتز، وفي تلك البوصلة، أو بالأحرى في تلك النجمة القطبية التي تؤشر دوما على الاتجاه السليم، مهما تلبدت الأجواء وتكثف الضباب وتنازعت الأهواء. في كل أزمة تعرضت لها الجزائر وعند كل عاصفة هوجاء ألمت بهذا الوطن ينتظر الوطنيون الصادقون مع وطنهم، وينتظر المؤمنون بهذه الثورة الغيورون على بلدهم، صوت الصدق والحق الذي لا يتغير ولا يتضعضع، ليؤسسوا لأنفسهم موقفا وفكرة عن الذي يحدث، وعن معناه ومدلوله بالنسبة للحاضر والماضي والمستقبل. يلجأون إلى معرفة رأي وموقف سي عبد الحميد مهري، ليقينهم بأن هذا الرجل ليس من طينة الساسة العاديين، وأنه على كبره وتجربته الطويلة في النضال والسياسة لم يكبر يوما، على الشعب، ولا على الثورة وظل يعتبر نفسه دوما مناضلا لنصرة الجزائر والحق.. وبالرغم من عبوره كل المستنقعات والأوحال التي عاشتها الجزائر، فقد بقي ثوبه ناصعا شديد البياض، بقي مستمسكا بمبادئ وقيم الحركة الوطنية وأهدافها، حتى بعد أن أيقن أنه الخاسر الأكبر وربما الوحيد، من جيل لم يستطع مقاومة إغراءات السلطة والجاه• المعدن النفيس وحده من بين كل المعادن، هو الذي يخرج من النار صافيا براقا لامعا وسي عبد الحميد يكاد يكون وحيد جيله من الذين امتد بهم العمر طويلا ليعايش ويشهد كل مراحل الحركة الوطنية والثورة والبناء والتشييد والإصلاح، وقد خرج منها جميعها، بشهادة من لازموه ورافقوه، كيوم ولدته أمه، إلا من خدوش ورضوض واحتكاكات هي من تبعات المعركة، وما أكثر المعارك والمناوشات التي خاضها المرحوم عن طيبة خاطر، ليس من أجل غنيمة ينتفع بها ولا من أجل امرأة ينكحها ولكنها كانت كلها من أجل الجزائر والجزائر وحدها دون سواها. ولو أن السياسة فقدت الكثير من وهجها وبريقها في العقود الأخيرة، بفعل الانتهازية والأنانية الطاغية، فإن السياسة عند سي عبد الحميد ظلت دوما وأبدا هي تلك القيم والمبادئ والمعايير التي لا يتجوز الحياد أو الانحراف عنها حتى ولو طغى الخصوم والمنافسون، وعمدوا إلى الضرب من تحت الحزام.. الرجل بقت عيناه جاحظتين على هدف واحد وحيد، هو الجزائر والشعب الجزائري الذي يتعين أن يرقى ويستعيد المكانة والدور الذي يعود إليه عن جدارة واستحقاق. لقد كان بإمكان سي عبد الحميد أن يساوم ويقايض ويبادل في مقابل السلطة والمال والجاه، ولكنه لم يجد إلى ذلك سبيلا• فهو قد نشأ وتربى وترعرع وناضل وجاهد من أجل شيء واحد هو المصلحة العليا للجزائر، ولا يملك أن يخون حرفا واحدا من العهد الذي قطعه مع الشهداء. كان بمقدوره التفاوض على مقعد وثير أو حتى على تقاعد مريح في عاصمة بعيدة، ولكن الجزائر ومصير الجزائر ملأ عليه كل شيء، فلازمها في السراء والضراء وفي الضراء أكثر لأنه يخشى عليها ويخشى على الأمانة التي تركها بن مهيدي وعميروش وبن بولعيد بين أيدي المناضلين الذين صدقوا مع الله والوطن. كم هم كثر الجزائريات والجزائريون الذين سيبكون عبد الحميد في هذا اليوم الحزين، وكم هم كثر الذين سيشعرون باليتم والوحدة وعزاؤهم الوحيد أن الرجل قد رحل وثوبه ناصع البياض ويده نظيفة من كل وسخ الدنيا والسياسة أيضا.