مع أني لست من ذلك النوع من البشر الذين يستلذون بجلد الذات إلا أني بذات الوقت لا أهوى التنكر والغموض ولا أحب العيش قي الظلام، ولذلك عندما قرأت المناوشة الاستفزازية للأخ بلخيري معروف- سواء كان هذا اسمه الحقيقي أو التنكري- والتي كانت تحت عنوان:" أشهد لكم.." استهواني نشرها، على أمل التهوية من جهة وسعيا إلى أن تثير بعض النقاش والردود من قبل المناضلين والمتعاطفين من جهة أخرى، ولكن بكل أسف ها نحن ندخل الأسبوع الثاني ولم يصلني من الردود سوى ملاسنات شفوية وغمز ولمز من هنا وهناك على عادة حديث المقاهي. لذلك أجدني مضطرا لثاني مرة للعودة إلى تلك المناوشة التي مازلت أعتبرها مساهمة في النقاش، وإن جانبت الصواب فإنها تستوجب الرد، حتى يفهم "مطلق النار" أن حزب جبهة التحرير الوطني له أعين ترى وتتابع، وله حرس يسهرون على مبادئه وخطه ويدافعون عن حياضه، دون غرور ولا تنطع ولكن بواقعية ومسؤولية. وإذا كنت في مقالتي السابقة الصادرة الأسبوع الماضي بتاريخ 21 فيفري بعنوان: " عين السخط تبدي المساوئ" قد أجملت في توضيح بعض القضايا فإنني اليوم أريد أن أتوقف عند النقطة الأساسية -من وجهة نظري- التي أثارها صاحب الرد، وهي مسألة هوية حزب جبهة التحرير الوطني، وكونه قد أضحى حزبا للركود، على حد قول القائل. وأريد في البداية أن أشير إلى المعني ومن هم مثله، بأن مسألة الهوية للكيانات السياسية والأحزاب والتنظيمات لا تتحدد فقط بالأسماء التي تحملها أو التوصيفات التي تطلقها على نفسها. فكم من الجمهوريات هي أقرب إلى الملكية، وكم من الملكيات هي عين الجمهورية، وكم هي الأحزاب التي ترفع شعارات الديمقراطية وتتوشح بالإسلام، بينما هي في الجوهر أحزاب ديكتاتورية في لبوس تنكرية، وأحزاب فاشية ظلامية تتدثر بالإسلام والفضيلة، ولذلك فإن قضية هوية حزب من الأحزاب ولا سيما حزب كجبهة التحرير الوطني، لا تستمد فقط من البرامج والعناوين ولكن وبالأساس من سلوكيات الحزب ومناضليه ومن مساره الطويل، وخاصة من خلال المراجعة والتأمل في مواقفه وتصرفاته، عندما يكون في السلطة أو مشاركا فيها أو خارجها وفي حواشيها، عندها فقط تظهر الهوية الحقيقية للحزب وتتبدى للدارس المتابع كل ملامح وخصوصيات التشكيلة السياسية. ولا أدري إن كان السيد بلخيري ينكر علي إن أنا قلت أن جبهة التحرير الوطني التي ولدت من رحم الشعب والتي منذ البداية، أي منذ الاستقلال الوطني وبروزها كحزب وليس تجمعا لأحزاب وتنظيمات، قد انحازت إلى الشعب في مقابل الإدارة، وأنه بسبب تلك المواقف الواضحة، ظل الحزب، في مختلف المراحل، يدفع الثمن بسخاء وبكل أريحية، رغم الضغوط المعلومة والخفية ورغم المغريات المادية وغير المادية التي كانت تتربص بإطاراته ومناضليه. كيف تتجاهل، يا سي معروف، حقائق التاريخ التي تؤكد بأن حزب جبهة التحرير الوطني قد اختار، وذلك إرثه ورصيده، أن يلعب دور نقابة الجماهير، إن صح التعبير، في مقابل إدارة كانت أميل إلى لعب دور الباترونا، وكلنا يعرف الفارق في المال والجاه والسطوة بين الاثنين، ولكن حزب جبهة التحرير الوطني، ومن منطلق وفائه لقيم ومبادئ معروفة، يا سي معروف، ظل على موقفه الثابت وهويته الراسخة، التي هي الهوية العربية الإسلامية والتي هي البصمة الأبرز في الشخصية الوطنية. هل تذكر، أيها الأخ، ولا أخالك تجهل، أن حزب جبهة التحرير الوطني ظل متمسكا وثابتا في الدفاع واستعمال اللسان الوطني العربي حتى في أحلك الظروف وعندما كانت اللغة الأجنبية هي لغة الخبز والترقية! أنسيت يا فلان أن خصومنا كانوا ينعتون خطابنا بأنه لغة الخشب ولا يزال وصف " أصحاب الثوابت" سائدا إلى اليوم، لا لشيء إلا لأننا نصر على أن تكون اللغة العربية هي لساننا وفق هوية الشعب ومبادئ الثورة ومنطوق الدستور. لقد كان بإمكان حزب جبهة التحرير الوطني، وهو يملك ما يملك من الإطارات، أن يركب القطار ويسافر مع المسافرين، ولكن لأنه أصيل ويقف على الأرض الصلبة المتماسكة، فإنه لم يتضعضع ولم يتزعزع. واليوم، الحمد لله ها هو حزب جبهة التحرير الوطني يتلقى رصاصات حميمية بلسان جزائري عربي مبين!.. أهكذا يكون النكران والتجني على الحقائق الصارخة. وعندما نأتي إلى الشق الثاني أو الوجه الآخر من الهوية الوطنية والذي يضعه الدستور في المقام الأول، لأنه البصمة الأبدية لهذا الشعب وهذا البلد، ولأنه الأشمل والأجمع، هل تنكر علينا، يا سي معروف، أن حزب جبهة التحرير الوطني، قد عض على هذا المقوم الأساس للشعب الجزائري بالنواجذ الأربع منذ الأيام الأولى للاستقلال وتمسك به إلى الحد الذي جعل من تسميهم بالعصرانيين، يبتكرون لنا تسمية كاريكاتورية ما أنزل الله بها من سلطان: BARBE FLN أو "الأفلانيون الملتحون" بالعربي الفصيح. وعلى ما في هذا التوصيف من سخف وما أرادوا به من تشويه، فإن رموز حزب جبهة التحرير الوطني وقياداته، تمسكت وثابرت وناضلت، لم تبدل ولم تغير ولم تستكين، لكونها تؤمن بأن تلك هي هويتها وذلك قدرها وهو اختيارها عن قناعة وإيمان. لكنها بذات الوقت الذي تتشبث بالإسلام ولا ترى لنفسها وجودا خارجه وبغيره، فإنها رفضت ويرفض حزب جبهة التحرير الوطني، أن يجعل منه ورقة ومطية يركبها للوصول إلى السلطة، أو لمحاكمة الجزائريين تبعا لمعتقداتهم الدينية وبواطن قلوبهم التي علمها عند ربك. وإذا كنت أكتفي في ملاسنتي الهادئة مع الأخ معروف بهذا الجانب في ورقته الاستفزازية، فليس فقط لأدفع تهمة ما، وردت في مقاله، وإنما لأؤكد له ولأمثاله بأن الركود والجمود الذي يتهم به حزب جبهة التحرير الوطني في هذا الشق بالخصوص، هو أمر يشرفنا ونعتز به وسنظل محافظين عليه، والحمد لله حمدا كثيرا وبكرة وأصيلا، أن كل المؤامرات والضربات لم تنل من حزب جبهة التحرير الوطني بل ظل صامدا ثابتا راسخا، لا يميل ولا ينحني عندما يتعلق الأمر بمقدسات الأمة وثوابت الشعب والوطن التي دفع في سبيلها الملايين من الشهداء. " قل ما شئت فإن الأرض ستظل تدور.."