أمكتوب على أبيك يا ولدي معاشرةَ الأحزان نفسا وفكرا وجسدا، وفي فترات متعاقبة متقاربة ممسكةً بتلابيب بعضها، يتجرَّعها كأسا علقما يفيض ويستفيض حتى يخالَه بلغ حدا لا بعدَه حيزٌ من فراغ لمزيد، وها هو ذا مرضك المفاجئ والخطير يخطفه مضاعفا من واقع الحال ، ويرمي به لسنواته العجاف في أيام الطفولة والشباب، وها هو يتذكرها لحظات ودقائق أليمة ومؤلمة منقوشة في الذاكرة لا تبرحها، مغروزة في الخاصرة كأنها موسى حادة تحركها الحوادث والأحداث كلما ظن أن الجرح برأ والتأم، يتذكر أمام خبر مرضك المفزع بخوف والتياع، كيف رافقته الأرزاءُ صغيرا طرّا يافعا، في بيت كان ميسورا يتراوح بين الغنى والثراء، بين السؤدد والجاه، بين الهناءة والرضا، بين الأمن والسكينة لكن الدهر كان يتربص بنا وبغيرنا من الجزائريين، وما كادت تنقضي سنوات ستٌّ من أهوال الحرب العالمية، وما عرفه الأهلُ من تقتير في العيش، وبيع للمواشي والخيول والأبقار والأرض، لسدّ فراغ البطون المتضوِّرة بالجوع، حتى كان جدُّه قد أفرغ يده من بيع ما يملك من عقار ومنقول وحيوانات، ولامس حدَّ العوز والفاقة في ظرف قياسي يكاد يعد بالشهور، بلهَ بالسنوات، فانقلبت أحوالُ العائلة رأسا على عقب من غنى يُثير حسدَ الحانقين، إلى فقر مُدقِع يُشفي صدورَ الناقمين. كذا ذهب العربُ يا نبيل إلى قمة الخرطوم، وقد اتصلت أمريكا بدايةً بتحويل القمة إلى عاصمة عربية أخرى، ولكنها لم تُفلح، وضغطت على القادة العرب بعدم الحضور، ولكنها لم تنجح كلية، حيث حضر عددٌ معقول رغم الضغوط والتهديد، وكانت أخيرا تريد أن تكون رئاسة القمة لدولة عربية أخرى، كما فعلت مع القمة الإفريقية في الخرطوم، ولا يفوتني تقديم شهادة للقارئ اليوم، وللتاريخ غدا، بأن الرئيس بوتفليقة، وهو يستقبل السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبعد أن أصغى الرئيس بوتفليقة لمحدِّثه، وهو يعرض أمامه مطالبَ القائمة الأمريكية، فكان جوابُه فوريا وسريعا وحاسما :"إن القمة ستكون بالخرطوم، وأن الرئيس البشير، هو رئيس القمة العربية القادمة، وإني أحضر شخصيا فعاليات هذه القمة، حتى لا يتكرَّر ما وقع في القمة الإفريقية الأخيرة، ينعقد اجتماعُها بالخرطوم، وتُسنَد رئاستُها إلى دولة إفريقية ثانية". وكنت وعبد العزيز بلخادم حاضريْن هذا اللقاء، وكم كان شعورنا واعتزازنا كبيرا بموقف الجزائر في مثل هذه الملمات، وفي وجه هذه التحديات، وكنت قبلها قد تلقيتُ تعليماتٍ فوريةً من طرف السيد الرئيس بوتقليقة، بعد إعطاء تعليماته لوزارتيْ الخارجية والمالية إلى تحويل المبالغ المستحقة عن التزامات الجزائر في العمل العربي المشترك، بأن أقوم بتسديد حصة الجزائر في مختلف المؤسسات العربية، ودعم السلطة الفلسطينية قبل قمة الخرطوم، وفعلا هو ما قمتُ به بصفتي سفيرا ومندوبا دائما للجزائر لدى الجامعة العربية، وكنتُ أرى على وجه الأمين العام، السيد عمر موسى، أثناء مقابلتي شيئا من الدهشة، وكثيرا من الابتهاج، وهو يرى الجزائرَ تدفع كل حصصها المحددة لسنة 2006، وكل المخلَّفات، ولكل المؤسسات والصناديق والمنظمات العاملة تحت لواء الجامعة العربية، وأنا أحاسب مسؤولي المالية بالجامعة أمامه على آخر مليم، وقال عمرو موسى بنشوة ظاهرة، تلك هي الجزائر، وذاك هو رئيسُها، وقد تعوَّدنا منها مواقفَ مشرِّفة في العمل العربي، مع شكر جزيل من طرفه نحو القيادة الجزائرية. ذهبتُ يا بني إلى قمة الخرطوم، وأنا بهذا الانتشاء الاستثنائي في عملي الديبلوماسي، مواقفُ بلادي مشرِّفةٌ ومتحدية، والوفاءُ بالتزاماتها كاملا نحو أمتها، وهذا يسرني ويُزهيني، ويماشي نضالي الطويلَ من أجل عروبة الجزائر. ذهبتُ إلى الخرطوم، وبلادي ترأس القمة العربية، وقد تمت في عهد رئاستها سلسلةٌ من الإصلاحات على عمل وهياكلِ الجامعة لم تشهدها منذ إنشائها ستة 1945، من إنشاء برلمانٍ عربي، يُعد نقلةً نوعية من جامعة الحكومات إلى جامعة الشعوب كذلك من خلال ممثليها، إلى تكوين هيئة متابعة لتنفيذ القرارات، إلى قانون أساسي يحدِّد مجموعةً من الضوابط الرادعة لكل دولة تماطلُ أو تستنكف عن تنفيذ القرارات التي صادقت عليها، تتدرج بها من التنبيه، إلى الحرمان من التصويت، إلى المنع من المشاركة في فعاليات الجامعة، إلى تجميد العضوية، إلى درجة الإقصاء. ثم ذلك القرار الهام المتعلق بآليات التصويت من الإجماع إلى الأغلبية الموصوفة بالثلثين في القضايا الموضوعية الجوهرية، وبالأغلبية البسيطة في القضايا الإجرائية. هنا تناهى إلى أبيك خبرُ مرضك المفاجئ كالصاعقة يا نبيل، وهو بالخرطوم في قمة عربية، يتدارس قادتُها أوضاعَ أمتهم، وهي تتهاوى بين الاختلال في النُّظم، والاعتلال في السياسة، والتخاتُل في المواقف، والاحتلال الأمريكي في العراق، والاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، والاقتتال العرقي في الدارفور، والتناحر القبلي في الصومال، والتلويح الغربي بالقوة لاستباحة الوجود والحدود. آهٍ يا ولدي من مرضك المباغت! وياله من خبر كم كان مفزعا مؤلما سقط على رأسي صاعقةً هزَّتْ مني الكيانَ والوجدان، وأنا في خضم قمة عربية، منغمسا في جدول أعمالها ومشاريع قراراتها، قراراتٍ تريدها أمتها مصَّداتٍ لرد هوج الرياح الآتية من الغرب، وخاصةً من أمريكا، غربٍ متجبرٍ متغطرسٍ أرعنَ أهوجَ يريد إركاعَ الجميع من بني قومنا جثاةً أمام نزواته وشراهة حيوانته، من أقصى أطلس العروبة الهادر إلى خليجها الزاخر بالخيرات والثروات، وكم كان أبوك، قبل ما تدنو به خطوات العمر حثيثا نحو الشيب والكهولة، يجد المتعةَ والقدرةَ على المقاومة في مناحي الحياة ومضانك العيش، في أهوال الثورة وغياهب السجون، في نتوءات السياسة والعقائد، في معارك الهوية والعروبة، في وعكات الصحة والاعتلال. ومع كل تلك المنعرجات في الحياة، ظل أبوك يصادم ويقاوم، يثابر ويصابر، يكابد معاناةَ الابتلاء ويتحمل، يدوس بأعقاب النعال على نوازع الشراهة، إيِّ شراهة كانت، وهي غريزيةٌ فطريةٌ في كيان كل إنسان، كان يدوسها تحت أخمص الأقدمين إن دفعته حاجةٌ إلى مطمع أيا كان، أو توجَّست نفسُه غوايةً في مناصبَ مهما كانت مغريةً بالدُّر والدُّرر، ومهما كان الموقعُ بريقُه وهاجا، إلا ويرميه ويزدريه إن كان مناقضا أو معارضا لمواقفه ومبادئه، ويترفَّع عن هذا وذاك زهدا وقناعة، ويواصل السير على دربه السالك أو الشائك، ميسورا كان أم مقتورا، غير آبه ولا مبال. آهٍ يا نبيل! لو كان جسمُ أبيك من حديد لذاب من صهد المواجهة وانطوى وتفاصم، لو كان قلبُه من فولاذ لأصابه الصدأ والبلى، فتهاوى كجذع نخل خاوية وارتطم، وكمْ وكم بذل أبوك من جهد شقي مضنٍ للتعامل مع ظروفه في قريته، وهو غر طري قبل أن يصلب العود ويشتد، فتحدى جفافَها، وجفوةَ طبيعتها، وتخلُّفَ أوضاعها، وكسَّر القيدَ الحديدَ المكبِّلَ لرجله، فتحرَّرتْ وسارتْ تختصر الوهادَ والفجاج، بعيدا بعيدا مخافةَ أن يلتحم القيد المكسَّر من جديد ويأسِر، وفكَّ الغُلَّ الطوقَ الخانقَ من حول رقبته، فتنشق الصدر الكظيم هواءً طلقا عند بزوغ فجر، أو نسيما عليلا عند مغيب شمس، وهو يرى الشفقَ محمرَّ الوجنات يودِّعها لمستقرها، وهي تتهادى نشوى فرحةً مرحةً بإنجازها في يومها الفارط، واستعدادها بهمة ليوم جديد في جهته، لأنها تواصل عملَها في مناطقَ أخرى من الأرض والأكوان بسطوعها لا تغرُب ولا تغترب، والليلٌ ديجورٌ قاتمٌ جاثٌم على قريته، خلافا لمناطقَ أخرى حتى داخل وطنه، وتلك عظمةُ النواميس الكونية، لا تُدرَك بالبداهة ولا بالبصيرة ولا بالحدس، لأنها بخلقتها ومهامها ودورانها الذي لا يتوقف حول نفسها، ودوران باقي الأكوان من منظومات سمائية أو أرضية حولها، شيءٌ أكبرُ من أن يحدَّ ويقدَّر، أسطورةٌ أعجوبةٌ فوق العقل والتصور والخيال، ولكن الفتى يبيت ليله سهدا وأرقا، أو نوما وحلما، منتظرا بشوق بزوغَها لتصابحَه غدا بخيوطها الذهبية، شلالا من ضياء، وسناءً من نور، ومنارةً تهديه السبيلَ القويم نحو الأفق الفسيح، وتُسعفه بنورها وخفوتها أحيانا، وبوهجها ولفحها أحايينَ أطولَ وأكدر، فيتحرَّك متوكِّلا على الله، مصمِّما بإرادة صلبة قُدَّت من ذلك الوادي الذي به وُلد وترعرع، ليشقَّ طريقَه الشائك لطي المفاوز والتلال بمنحدراتها، ويتسلَّق المرتفعاتِ المتعرِّجةِ بنتوءاتها، يبغي الوصولَ بجهد ومشقة إلى ذرى الجبال، كنسر عاف مجالسةَ الثرى بين أطيان قريته، فقرر الطيرانَ عاليا متعاليا في أجواء فسيحة، وقد استنبت جناحاه كلَّ ما يعينه من خوافٍ وقوادمَ على الطيران والصعود، إسراءً من ضائقة القرية إلى فسوح المدينة، ومعراجا إلى فضاءات أخرى من المعمورة أو سعَ وأرحب. ولكن ما تكشَّف له من تلك العوالم التي اخترقها، وحلَّ بها، لا ضيفا مكرَّما مرحَّبا به في مدينة ما، بل اعتبره أهلها غازيا متخلِّفا، قد يجلب في عباءته ضروبا من الأوبئة والأمراض، وقد يحمل في رأسه صنوفا من التخلف والجهل، وقد يستصحب في ذهنه نزوقا من الجهالة والعناد، فنفر منه أهلُ الحاضرة، وقد حطَّ برحابهم بدويا بدائيا، أشعثَ الشعر، كاشحَ الخصر، أغبرَ اللون، فتوجسوا منه خيفةً على رقة عيش مدينتهم، ورونق جمالها، وخوفا من مهالعة غيدها، وهي مرحَى تتهادى دلالا وتيها بين شوارعها، فواجهوه بالردع قسوةً، وبالسخرية هزءا، حتى ينطوي وينزوي، علَّه يعود أدراجَه من حيث أتى، وقبل أن يتدبَّر الأمر، ويفكِّرَ في العود، وإذا بغريزة المقاومة التي جاء حاملا إياها بين أضلاعه، وروحِ المناكفة التي زوَّدتْه بها أساطير قريته، تأهبتْ للمقارعة والمصارعة، واستخرجتْ من جرابها سهاما ورماحا للمكافحة والمنافحة، ولأمر لا يدريه في رحم الغيب، وجد نفسَه غريبا فعلا وقولا في مدينة يستعديه كلُّ شيء في سلوك أقوامها، فقرَّر الصمود لفرض الوجود في معركة لم يختر مكانها ولا توقيتها،، وظل على تلك الحال في مصادمة كل معتد أثيم، وكل مستهزئ لئيم، وكل متحدٍّ خصيم، وظل على وضعه ذاك فترةً من الزمن لا يهادن أو يلاين، لا يداري أو يماري، وكله استنفارٌ أمام أي خطر داهم، أو طارئ مباغت، وما أن تفحَّص ميدانَ المعركة حتى وجد دهرَه الهصور لم يترك له نافذة ولو كثقب الإبرة للنجاة، ووجد قانصيه قد أحكموا حوله الطوق، وسدَّوا أمامه أيَّ سبيل أو مخرج، وعمل قدرُه بدوره ما وسعه الجهدُ ليُغلق أمامه نوافذَ الأرض وأبوابَ السماء، حتى لا مندوحة أو وسيلةً بيده تُنقذه من الشراك المنصوبة في أيِّ مسلك يريده، ولا من الأحابيل المضروبة على كل شبر يُتوقَّع أن تطأه قدماه، ولولا صبُره وإيمانُه بخالقه، واعتقادُه فيه بأنه مُفرجٌ كربَه ذات يوم، والفتي عليم بالحدس أو بالاستنتاج بقدرية الدهر وجبريته، وأن ما يلاقيه في متاهات الحياة، هو أمر قضى في مكان ما من مشيئة الغيب وأُبرم، لكنَّ ثقتَه في العناية الربانية كانت كبيرةً بسعة الكون، معتقدا جازما بأنها تُنقذه بطريقة تعنُّ عن التصديق من براثن الهلاك المحقق، وفعلا، كان طوق النجاة الملقَى إليه، وهو في لجُج الأمواج العاصفة للوصول به إلى شاطئ الأمان، كأنه ضربٌ من الخوارق والمعجزات. ولكن ما حيلتي هذه المرةَ يا نبيل، وها هو ذا القضاء يُصيبني فيك يرزأني، يا قطعةً من فلذة كبِدٍ مزَّقته المحنُ والإحن، ها هو ذا يفجعني في ولدي مرضا مباغتا بدون عوارضَ أو أعراض، وهو غضٌّ طري في ريعان الزهور من عمر الشباب، ها هو ذا قدري يباغتنني عن غرة من أمري فيك يا ولدي، كما تعوَّد أن يفعل معي من قبل، ودون أن يُمهلَني برهةً للتهيؤ والاستعداد، ها هو ذا خبرُ مرضك ينزل علي كالصاعقة، يعصف بكينونتي، ارتجَّ علي حتى خشيتُ أني فقدتُ الاتزان، خبرٌ يأتيني من مهاتفة غير منتظرة، وأنا بالخرطوم على لسان الحاجة والدتك، أمِّك الملتاعةِ الخائفةِ المرتجفة، تُخبرني بصوت متهدِّج تخنُقه الزفرات، مصحوبا بهلع بيِّنٍ يقطع أنفاسَها، وبفزع مرتعش تبلِّلُه دموعُها، وبعبارات متلعثمةٍ لا تكاد تُبين: الحاج! نبيل مريض، وأن حالتَه الصحية في خطر، وأن الأستاذة باجي، طبيبةَ العائلة، والمختصةَ في الأمراض البطنية، تؤكد، بأن مرضه هو نسخةٌ من مرض عميْه الطاهر وأحمد، واللذيْن أُجريتْ لهما عمليةٌ جراحية خطيرة ومؤلمة، تمتْ بإزالة المعي الغليظ كلية، وأكَّدت الأستاذة باجي، بأن هذا النوعَ من المرض الذي ظهر في العديد من أفراد العائلة، هو مرض وراثي يجب اجتثاثه، قبل أن يتسع وينتشر، وأن مرضَ نبيل في حالة مزمنةٍ تستوجب إجراءَ العملية بالخارج بين أسبوع وعشرة أيام على الأكثر. يا لها من أم شجيةٍ شاكيةٍ باكية، قلتُها في نفسي همسا، وأنا أشاطرُها فزعَها على ولدنا، وسكتُّ قليلا حتى أتماسكَ من هول الصدمة قبل أن أجيبَها، ومن خبرتي الطويلة مع الأوجاع والأصداع، ومن معرفتي السابقة بنوع مرض نبيل وخطورته، المرضِ الذي كان عماه الطاهر وأحمد عرضةً لمشارطه ومباضعه، المرضِ الذي بدا على جسم الطاهر بعد العملية الجراحية مباشرة، وأُخيَّي نَفَسٌ خافتٌ يتردَّد بين الموت والحياة، وهو جثةٌ ممغنطة، ولولا بقايا من حرارة خفيفة عند ملامسة ذراعه، وأنا أكبُّ أقبِّل جبهتَه ووجنتَه حنيا حزينا، ياله من منظر كئيب رهيب ذلك الذي رأيتُه، رأيت أنابيبَ وقنواتٍ خارجةً من أطراف عدة من جسم الطاهر، مخرجا وبطنا وأنفا، وإبرا مغروزةً بالأذرع، وأوعيةَ المحاليل (السيروم) تتقاطر في شرايينه لتغذيته، وحُقَنَ المورفين تنساب بأوردته لتخفيف قسوة أوجاع الجراح المفتوحة ببطنه، تعاقبت تلك الصور الرهيبة أمام ناظري، وأظهرتُ من نبرات صوتي قوةً وثقةً في الله أولا، وفي الطب المتطور ثانيا، ورحتُ أردُّ عليها من خلال الهاتف لأخفِّفَ من روعها، وأهدِّئَ من هلعها، وقدَّمتُ لها أمثلةً جاهزة على تجاوزه عميْه العمليةَ بنجاح، وهما في صحة جيدة بحمد الله، ووعدتُها بالتحرك سريعا لإتمام الإجراءات عن طريق الخارجية للحصول على التأشيرة، ومع وزارتيْ الصحة والعمل لمنحه شهادة الكفالة للاستشفاء، وأسترخص من الرئيس بوتفليقة التنقلَ إلى باريس، حيث أكون حاضرا عند الوصول، وخلال مرحلة الإعداد والفحوص، وسألازم المستشفى حتى تُجرَى له العمليةُ إن شاء اللهُ بنجاح، وطلبتُ منها الاستعدادَ لمرافقته باتخاذ إجراءات السفر هي وعمه الطاهر، باعتباره مجرِّبا لتلك العملية حتى يشدَّ من أزره، ويهوِّنَ عليه بالترويح عن مدى سهولتها، وهو يعرف كم هي قاسية ومؤلمة، وتكون والدتُه بجانبه تساعده بالحنو والعطف والدعاء، ويكون أبوه ساهرا عليه يحدِّثه عن نوع العمليات الجراحية التي اخترقتْ جسمه في العديد من أجزائه، من اقتطاع جزء من عظم بجمجمته، مرورا بعمليات في مواطن شتى من جسده، إلى كسر أليم رهيب بكاحله، وها هو يراه بحمد الله حيا معافى مشافى، ولكنَّ قدرةَ الله وعنايتَه أقدر وأقوى من وخزات النار أيام التعذيب في أقبية الاستعمار، ومن جراح وشقاوة العمليات، ضربتُ هذه الأمثلة للأم المتألمة لتنقلَها على لساني تشجيعا لولدي على المصابرة في عملية مثل هذه، وخاصة أن العمليةَ تجرَى بنفس المستشفى، ومع نفس الطبيب، البروفسور بارك، وهو من أكبِر وأشهرِ الأخصائيين في مثل هذه الأمراض، وطاقمه شبه الطبي بهذا المشفى في غاية المهنية واللياقة والسهر، كلامٌ مطمئن وجهتُه قصدا لوالدته حتى تأمنَ وتهدأ، خوفا من أن هلعَها ذاك يبعث في نفس المريض توجسا مضاعفا من القلق والفزع، ويؤثِّر على معنوياته التي هي السلاح الوحيد والقوي في مثل هذا الامتحان العصيب الرهيب، ونبيل يتخيل المشارح والمباضع تشقُّ بطنه، وتُزيل الورمَ الخبيث من أمعائه، وهو في حالة تنويم بالبنج شاملة تبعث لا محالةَ على الخوف والقلق، والخوف في مثل هذه الأوضاع حالة نفسية لا إرادية، تكون فيها درجة الانفعال والترقب أشدَّ بكثير من التظاهر بالشجاعة والاصطبار، وتكون حركة التردُّد والإحجام أعلى هوسا وتوجُّسا من درجة الإقدام على خطر داهم قابل لكل المفاجئات.