ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا جزعي عليك يا ولدي يا نبيل (الحلقة الأولى)
نشر في صوت الأحرار يوم 25 - 07 - 2008

أمكتوب على أبيك يا ولدي معاشرةَ الأحزان نفسا وفكرا وجسدا، وفي فترات متعاقبة متقاربة ممسكةً بتلابيب بعضها، يتجرَّعها كأسا علقما يفيض ويستفيض حتى يخالَه بلغ حدا لا بعدَه حيزٌ من فراغ لمزيد، وها هو ذا مرضك المفاجئ والخطير يخطفه مضاعفا من واقع الحال ، ويرمي به لسنواته العجاف في أيام الطفولة والشباب، وها هو يتذكرها لحظات ودقائق أليمة ومؤلمة منقوشة في الذاكرة لا تبرحها، مغروزة في الخاصرة كأنها موسى حادة تحركها الحوادث والأحداث كلما ظن أن الجرح برأ والتأم، يتذكر أمام خبر مرضك المفزع بخوف والتياع، كيف رافقته الأرزاءُ صغيرا طرّا يافعا، في بيت كان ميسورا يتراوح بين الغنى والثراء، بين السؤدد والجاه، بين الهناءة والرضا، بين الأمن والسكينة لكن الدهر كان يتربص بنا وبغيرنا من الجزائريين، وما كادت تنقضي سنوات ستٌّ من أهوال الحرب العالمية، وما عرفه الأهلُ من تقتير في العيش، وبيع للمواشي والخيول والأبقار والأرض، لسدّ فراغ البطون المتضوِّرة بالجوع، حتى كان جدُّه قد أفرغ يده من بيع ما يملك من عقار ومنقول وحيوانات، ولامس حدَّ العوز والفاقة في ظرف قياسي يكاد يعد بالشهور، بلهَ بالسنوات، فانقلبت أحوالُ العائلة رأسا على عقب من غنى يُثير حسدَ الحانقين، إلى فقر مُدقِع يُشفي صدورَ الناقمين.
ونتيجةَ ذلك الانقلاب يا نبيل، عاش أبوك الفتى حينها صباه، بعد تقلُّب أحوال أسرته، عوزا وسوءَ حال، ورمت به الأقدارُ في قرية معزولة عن الكون، لا يرى فيها إلا زمهريرَ شتاءٍ سيلا عرما لا يُمزن ولا يُمطر كالفصول في بواقي المعمورة، ولكنه رعدٌ وبرق وصيِّبٌ ينهمر ويدمِّر، يتحوَّل في لمح من بصر إلى برد قارس في شكل تركيبة عجيبة من الصقيع يلسع كالعقارب تَغرز شوكَها وتُفرز سمَّها في الجلود، وتتسرَّب منها إلى المسام وصولا إلى مسالك الأوردة والشرايين، كأنها مأمورة بتجميد الدورة الدموية عن سريانها وسيلانها، فيشعر الإنسان بالمفاصل وهي تتصاكُّ كأنها تتفاكُّ، فسايرها الصبي بصبر أيوب، هو وقومه، بتوأدة ضربا من الموت البطيء، وقد يحس المرء أن العضلاتُ والعظام تتجمَّد وتتكلَّس في مكانها من الجسم، تخالها لا تقوى على الحراك، ترتعش لسريان قُشعريرة في مظان الكيان كله لحما وعظما، من أخمص القدمين المتجلدة، حتى بلوغ قمة الهامة المرتجفة. ويرى أبوك الفتى يومها ما حوله من أشجار تقاوم انهمارَ الأمطار والثلوج في عنفوان وصلابة، وتقف صامدةً في وجه العواصف، وهي تقصفها ببرَد حجَر في زِنةٍ من الصخور الثقال، ومع صلابة المقاومة أمام انهمار السيول، كأنها تقاوم عواملَ الموت والفناء بدورها، وإن تدبَّر الإنسان صنائعَ الكون يتأكد فعلا أن كل ذرة من مشمولاته تعمل على التمسك بضرب من الحياة من أجله تصادم وتقاوم. كذلك ظلت تفعل الأشجار والأزهار بقريتنا، تراها يا بني رغم المقاومة الشرسة، ورغم الاستماتة من أجل البقاء والحياة، ترثي لحالها بعد انقشاع السحب الداكنة والسيول الكاسحة، وقد انهارت من هجمة الجبروت قواها، وتعرَّت من شدة العصف أوراقُها، وتطارحت من هوج الرياح على الأرض أغصانُها، وتهاوت من طغيان القصف جذوعُها، وجفت قبل الأوان براعمُها، فيحزن الفتى لأوضاعها يستبكيها ويباكيها، وهي تسَّاقط على الأرض متداحرةً متناثرةً بطريقة فوضوية، كأنها لم تكن بالأمس أشجارا باسقةً سامقةً تسر الناظرين بخضرة أوراقها، وتعانُق أغصانها، في نظام بديع يدل على عظمة الخالق في المخلوق. ومع هول المنظر، وخوف المخطر، ترى الفتى يسارع فرِحا بسقوطها، متناسيا أنه كان منذ لحظات يتقطَّر قلبُه شجنا عليها، ولكنها تلك غريزةُ الأناسي بالتناسي، فيقوم غرّاً يلهو بجمعها وتجفيفها علَّها تتحوَّل قريبا وقودا للتدفئة، وعونا على ما يستجلبه أهله بشق الأنفس من حطب يابس أجرد من الغابات المجاورة، محمولا على الظهور غالبا، وقليلا ما تئن به براذعُ الدواب لوعورة المسالك المتعرجة نزولا وصعودا، وتخيل يا نبيل كيف كان يتجمع هو وأسرته حول موقد النار من ليالي شتاء أليلَ كؤود، وتستعين أسرتُه على نسيان همومها، وتقلُّص مفاصلها، وجفاف أطرافها، وارتجاف أجسامها، بترديد بعض الأمجاد لقومها وشعبها وأمتها أشبهَ بها بالأساطير منها لتاريخ منقول بالمشافهة أو المكاتبة، ولكنها حكاياتٌ لا تخلو من فائدة في تعويد الأبناء على المصابرة في مواجهة الشدائد، وعلى شيء من التربية الخلقية لتقويم السلوك، من صدق وأمانة، وحرمة جار، واحترام الغير، وعلى شيء من الشجاعة لتحسُّب الأخطار في معانفة الزواحف من الأفاعي والثعابين وكواسر الحيوان، أو مقارعة ظلم الإنسان، وعلى شيء من التاريخ بالإشادة في مقاومة الإمام علي رضي الله عنه للمشركين، وانتصارات المسلمين على الروم، وعلى شيء من الإسلام، فيه شدةٌ في العقيدة، وتشدُّد في قواعد الدين وفروضه، وفيه شيء من الوطنية حول وجود الكفار النصارى في أرض الجزائر المسلمة، وفيه شيء من التوعية حول ما يسمعه أهلونا من خلال تنقلهم للمدن، وما يروونه عن حزب الشعب وزعيمه مصالي الحاج، ودعوته للاستقلال. كانت تلك هي الوجبة الفكرية الوحيدة لأبيك الفتي ووالديه، وهي على زهادتها وسطحيتها، كانت ملاذا ومعينا ترعرعنا عليها صلابةً في الموقف، وقناعةً في القلب، وذودا مستميتا عن المبدأ، وطهارةً في اليد، وصفاءً في الصدر، وحفاظا على الأمانة، وشجاعةً في الرد أو المبادأة. نعم، يا ولدي المريض، أنقذ الله حياتك! وجبةٌ زهيدة في الفكر، ولكنها كبيرةٌ وغنية بدروسها وعبرها وقيمها، وذلك عندما تعرضنا لامتحان الحياة في كل مناحيها مع تقدُّم العمر، وهو يتهادى بنا متثاقلا من عُسرى حُبلى بالفواجع والزوابع، وكلما نظن أننا تجاوزنا بصبر الجمال فيافيَها وأقفارَها، نجدنا وجها لوجه مع عُسر أعسرَ أهوج، يلقانا كالحا عبوسا مكشِّرا عن الأنياب لقضمنا، ناشبا مخالبَه المعوجَّةَ الأظلاف، الحادةَ السِّنان، مستعدا لغرزها في لحم هزيل ما انفكَّ بصعوبة يكسو عظامنا الطرَّة الطرية تحت أسمالنا الرثَّة البالية، فتستنفر غريزةُ الحياة بين ضلوعنا فينا، مستميتةً في المقاومة على استمرار تلك التعاسة التي نحن عليها، كأنها تشدُّ عليها بالنواجذ خوفا من ضياعها، وهي لا تدري أنها بتمسُّكها بشعرة الحياة فينا تُطيل أعمارَنا على قساوة أوضاعنا بأوضارنا. والغريب يا نبيل، هو أن غريزة الدفاع فينا، غالبا ما يكون ردها قويا عنيفا، كأنه استجابة شرطية كلما أحسسنا بظلم نحن أشباهَ هياكل الأموات بأشباه الأحياء، أو حاف بنا ضيم ظاهرا أو مضمرا، أو تعرضنا لغدر أو خديعة من أي شخص كان يبادلنا منذ حين الود والصفاء، نصد الخطر حينما نتوجسه حالاًّ من هذا وذاك، بقلوب كسيرة معتصرة، ولكنها تصابر في النزال ولا تنهزم، وبعقول جاهلة مشبعة بالأساطير، ولكنها تدرك بالحدس المصائد وتحاذر، وبعقيدة غامضة كالخرافة، ولكنها راسخة في الصدر تقينا وتحمينا عند كل مبادهة أو مخاطرة أو حيف، فنثور ونستنفر، نصارع ونقارع دون توان أو وَجَل أو خور. تلك الأساطير والحكايا يا ولدي هي التي ظلت في طفولتنا ومراهقتنا زادَنا في الفكر بنبجس بإدراك مبهم في دواخلنا فيهدي السبيل ويؤنس، ومَعينا لا ينضب في القلب على قدرة التحمل والصبر، فيئن بآهاته، ويثخن بجراحه، ويجفِّفُ نزيفَ دمائه بيديه أو لعَقٍ بلسانه، ولكنه لا يهن أو يلين أو ينكسر، وتصاحب غذاءنا الفكري ذاك الغامض المبهم، وغالبا ما يكون غشاءً من الظلام القاتم نُدركه ببصيرة حدسا تُشرق في صدورنا وتقرر، إذا عشي العينَ ساترٌ من الكآبة يغشِّيها حتى وإن رأت أو نظرت، فلا هي قادرةٌ أن تميز أو تُبصر، تصاحبه وجبة غذائية أزهدُ من شظف عيش نلتهمها بدون لذة أو ذوق، إلا تلك اللهفة الغرَزية لملء البطون مخافة القضاء جوعا أو مسغبة، وما أن تحمرَّ جمار مواقدنا وقتا يسيرا، ونحن نسرِّي النفس شيئا من الحبور بدفئها، حتى يعلوها رمادها، ويخفتَ لهبها، فتسارع الأجساد بالانضمام إلى بعضها، علها تحتمي بحرارة بقايا حياة في عروقها، وتنهدات حرَّى في صدورها، وآهات تئن في قلوب أصحابها، وألسن لاهجة تتضرع لخالقها، وحوقلة متصلة لا تنقطع إلا بسنة من نوم عابرةً خاليةً من الأحلام ما عدا تلك الكوابيس الجاثمة على الصدور بكلكلها، كأنها تريد خنقها قبل أن تزِف ساعةُ الأجل المحتوم لرحيل صِحابها. ذرني يا نبيل أقص عليك وعلى إخواتك، وربما غيرك ممن لم يعايش تلك الأوضاع في قرانا في عهد الاستبداد والاستعباد والاستعمار، كانت تلك إذن حال أشتائنا في قريتنا، وتلك كانت صنوف مقاومة أهلنا عن بقايا حياة، ويالها من حياة، لا يميزها إلا خيطٌ دقيق بين حيوان ناطق يسمَّى تجاوزا أو استعارة إنسانا يفكر ويتدبر، وبين سائمة صامتة تسمى تعوُّدا وعادة حيوانا أعجمَ لا يبتئس ولا يستبشر، تقاسم تلك الحيوانات ملاَّكها ضنكا في عيشهم، وتعاسةً في حياتهم، ويقاسمونها شحا في علفها المقتر، أو مرعاها الجديب، فهي شحيبة لا تسرهم أو تشبع نهمهم باكتظاظ لحم وشحم، ولا ترويهم حليبا مشتهى من جفاف ضرع غارز لا يدر. وصبرك معي با ولدي لأصف لك ظروف أصفائنا التي يترقبها الجميع ثمارا وغلالا، وما أن تطل بأقياظها حتى ينصهد الجميع بمناخها حمارةَ قيظ قائظ لافح، تكاد الشمس تنزل من عليائها حتى تلامسَ أكواخَ قومه جحيما يَبري الأجسام المتصببة عرقا ويُحرق، ويرى مهابطَ أجداده وآبائه في تلك البقعة الجرداء التي لا هي بيدٌ شاسعة، يُطلق البصر بعيدا في فضائها المديد الذي لا يحده جبل شاهق، أو مرتفع سامق عن ملامسة الأفق البعيد، عله ينظر ويتدبر في سعة الكون، وضيق المكان الذي يساكنه، حتى يقارن ويمايز، ولو على سبيل الحدس والتخمين، ولا هي بالأرض الخصبة التُّرب تصلح للزُرعة والاستنبات، يتمناها تُعين على رزق، أو تُجير من فاقة، أو تبعث سعادةً ما، ولو بيفعان أشجارها، واخضرار مروجها، وتفتُّح براعم أزهارها. لست مبالغا يا نبيل إن دققت في أوصافها، وتبيان مناخها، وضنك ساكنتها، إنها أرض كالحةٌ عليها قترة، كأنها قطعة من دجى ظلام يبقي جاثما رغم بزوغ الفجر وطلوع الشمس، رابضا في سفوح الجبال لا ينجلي أو ينقشع، ويتهادى مختالا نكاية فينا بين فجاج التلال يتحدى الشمس في وقت زوالها، وهي في كبد سمائها، أرضٌ قريتُنا تلك تكاد تنطق بأرزائها أحجارُها، وتستصرخ منها هلعا رُباها، وتلتوي تأوُّها منها وديانُها وشعابُها، لتزيد المشاة على ثراها الأسن الحاد حفاةً تعبا ونصبا ولسعا مقيتا مميتا موجعا للكِعاب والأعقاب. ومع انقطاع الأمل في غلالها الوفيرة من تحت تلالها، يكدُّ سكانُها طمعا في معجزة لزرعها بمحاريثَ بدائيةٍ في قلب تُرب صلب كالصخر منثوثا مبثوثا بين أحجاره، عساه يعلُّ ويغلُّ، ويُرهقون أنفسهم حصادا صيفا بالمناجل حتى تعوَّج الظهورُ لدرجة الضمور، طمعا في استخراجهم قمحا أو شعيرا من بين الأشواك والأحساك، وإذا بناتج مردود الغلال أقلَّ بكثير من أتعاب وصبر الرجال من معاناة الحصاد. ألا تكفي أباك تلك البداياتُ القاسية يا نبيل؟ وها هي تزيدني بفواجع ومواجع فيك وفي غيرك سابقا من الأهل والأخلاء. ألا يكفُّ الدهر عن هذا الأسى الذي لا يتوقف، وهذه الشجون التي لا تنتهي، وقد أسلمنا واستسلمنا لها طوعا خضوعا لا عنادا أو تمردا، أوَ ما ذا تريد؟ منا ما ذا تبتغي، وقد عنَّتنا فابتلتنا فرضينا أحايين كُثرا، وقد نكون قنطنا حينا قليلا، فهلا ليتها توازن وتقارن فتعدل وتنصف؟ وليتها تساءلت لِمْ رمتنا في ذلك الوادي الجاف المغبرِّ الخانق للشهيق والزفير؟ فسلْها لِمْ لا تتوقف يوما، أو ساعة، أو حتى هنيهةً عن الأذى والإيجاع؟ واستفسرْها عن علة تلك الفظاظة والغلاظة، وهي تعادينا فتؤذينا، لِمْ لا تخالطها رأفةٌ أو رحمةٌ بنا، كأنْ بيننا وبينها ضغينةٌ وبغضاء مرقومة في الأزل، وليتها تسَّاءل عن من الذي اختار لنا سواها ذلك الصنفَ الشاق من الحياة الذي لا يختلف كثيرا عما جاءت به مطوياتُ الكتب بأنه ضرب من الجحيم المهول؟ وها هي ما تنفكُّ معاندةً تُرعبنا بصنوف من الفواجع والمفاجئات، كأنها مكلَّفةٌ بنا كالحسيب والرقيب تسجِّل حركاتِنا وسكناتِنا من دون الخلق جميعا، من مَرَدة الملائك في الأكوان إلى عُصاة أو طُغاة البشر في الأوطان. أوليتها تُمعن النظرَ قليلا، وهي ترانا مذ خُلقنا أن لا رأيَ في مسارنا، ولا إرادةَ في مصيرنا؟ فهي التي حدَّدت وحدها غربتَنا أو انتجاعَنا كما شاءت، لا يهمها سخطُنا وقنوطنا، ولا يُبهجها قبولُنا ورضانا، فجاء اختيارُها لمسار حياتنا صراطا حادا في الدنيا نسير على حده، وحولنا يمينا وشمالا فجاجٌ وكهوف، وبأجحارها ضوارٍ وزواحفُ في أوكارها، فاغرةً أفواهَها بأنياب حداد، مستنفرةً للقضم والالتهام حتى قبل زلَل الأقدام ؟ أمن العدل يا نبيل أن نُرمى هكذا في بقعة من الأرض لا نعرف شيئا عنها من خريطة الكون؟ أنُقذَف هكذا كشهب انفصلت عن كواكبها نزقا أو غضبا لشعورها بفراغ ممل لدورانها، وتاهت بين الأفلاك عن مدارها، وخرجت بدون وعي منها عن خط سيرها، وسقطت كتلةً داكنةَ اللون بوادينا، كأنها تحتمي بنا من حياة سعيدة أو تعيسة كانت تتنسَّمها أو تتسأَّمها في عليائها، فعاقبتنا السماءُ على قبولنا لها واستقبالها بيننا، دون وعي أو إدراك أو مسؤولية لدينا بالترصد أو القصد، ولم نكن سببا في تمرُّدها أو في مجيئها، وليست لدينا القدرة أو الحيلة لردها وإبعادها، ولم نك ندري أنها عاقةٌ متمرِّدة على نُسُقها، والنظم الضابطة لحركتها، ولا نعلم أنها قد تكون وبالا على الملكوت بالاختلال أو الاضمحلال لمنظومة الكون بعليمه وعديمه وسديمه، وقد تندثر شموسُه وكواكبُه ومحيطاتُه وأراضيه، وقد تقوم الساعةُ قبل أوانها دون استهداء الناس بعلامات شرائطها، وقد
تتناثر الشموسُ والكواكب والنجوم ركاما متطايرا سابحا بدون وجهة ولا نظام، وقد تندثر الأرضُ والجبال حِمما متزاحمةً مترامية كالعهن المنفوش، وقد تبتخر البحارُ والمحيطات، ويصير ماؤها كُتَلا من الركام، وقتاما من السحاب، وبراكينَ هائجةً مائجةً لا تُبقي ولا تذر، وتُطوى السماواتُ كطي الكتاب. وليت قومَنا كانوا يُدركون ضخامة المسؤولية، وهم يستقبلون تلك القطعةَ النازقةَ المتهاويةَ من عليائها مختارةً أو مضطرة، وهي تنزل عليهم ضيفا بدون استئذان، بأن الرضا أو السكوت عن وجودها بيننا يكون مدعاةً لغضب السماء علينا عن فعلتنا تلك ، وندفع ذلك الثمن الباهض ضريبة جُرم لم تقترفه أيادينا حتى الآن، ولكن سقوط ذلك النيزك بوادينا، كاد يكون كارثةً غير مسبوقة منذ بدء الخليقة، طامةً كبرى غيرَ موصوفة، يلتقي فيها ويتمازج الخط الموصول بين الأزلية بالأبدية علامةَ الفناء والنهاية للملكوت، أراضيَ وسماوات، أفلاكا وكواكب، بحارا ومحيطات، أجواءً وفضاءات، أي لو تم ذلك نتيجة ذلك النزوق الكوني لما وجدت البشريةُ من كرتها هذه الأرض المعمورة إلا خبرا بعد عين. نعم، يا ولدي، جئنا لتلك البقعة من الأرض بالجبر لا بالاختيار، ولم نهاجر إليها طالبين أو راغبين، لا بالحلول ولا بالارتحال ، وفتحنا أعينَنا مع شهيق الولادة بملامسة نور تحوَّل مع مُدرَكات الفروق إلى نار تُرعب وتُلهب، وفُرضت علينا حياةٌ لم نستشر في ماهيتها، لا بالعقل ولا بالنقل، وبعيش ضنك لم نجعل منه زلفى تقرِّبنا من خالقنا زهدا وتعبُّدا، ولم نتخيَّل، حتى ولو توهُّما، بأن وضعنا ذاك المزريَ يكون مطيةً حثيثةَ الخطى تنقلنا من حالنا تلك، وهي جحيم أليم، إلى ما يرجوه كلُّ مؤمن تقي يطمح بزهده وعبادته وصبره إلى نعيم مقيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.