بقلم عبد القادر حجار أمكتوب على أبيك يا ولدي معاشرةَ الأحزان نفسا وفكرا وجسدا، وفي فترات متعاقبة متقاربة ممسكةً بتلابيب بعضها، يتجرَّعها كأسا علقما يفيض ويستفيض حتى يخالَه بلغ حدا لا بعدَه حيزٌ من فراغ لمزيد، وها هو ذا مرضك المفاجئ والخطير يخطفه مضاعفا من واقع الحال ، ويرمي به لسنواته العجاف في أيام الطفولة والشباب، وها هو يتذكرها لحظات ودقائق أليمة ومؤلمة منقوشة في الذاكرة لا تبرحها، مغروزة في الخاصرة كأنها موسى حادة تحركها الحوادث والأحداث كلما ظن أن الجرح برأ والتأم، يتذكر أمام خبر مرضك المفزع بخوف والتياع، كيف رافقته الأرزاءُ صغيرا طرّا يافعا، في بيت كان ميسورا يتراوح بين الغنى والثراء، بين السؤدد والجاه، بين الهناءة والرضا، بين الأمن والسكينة لكن الدهر كان يتربص بنا وبغيرنا من الجزائريين، وما كادت تنقضي سنوات ستٌّ من أهوال الحرب العالمية، وما عرفه الأهلُ من تقتير في العيش، وبيع للمواشي والخيول والأبقار والأرض، لسدّ فراغ البطون المتضوِّرة بالجوع، حتى كان جدُّه قد أفرغ يده من بيع ما يملك من عقار ومنقول وحيوانات، ولامس حدَّ العوز والفاقة في ظرف قياسي يكاد يعد بالشهور، بلهَ بالسنوات، فانقلبت أحوالُ العائلة رأسا على عقب من غنى يُثير حسدَ الحانقين، إلى فقر مُدقِع يُشفي صدورَ الناقمين. وهنا انتابني، وأنا على تلك الحال، شيء من وخز الضمير نحو أولادي، وتساءلت: هل وفرت لهم عاطفة حانية منذ ولادتهم؟ وكان الجواب ربما ليس بالقدر الكافي، بل كنتَ لهم الأب الموجود دوما، ولكن ليس الراعي المتابع دائما. وأجبت في سريرتي: ليس إهمالا مني ذلك أو قسوة أو تغافلا، فقد وفرت لهم كل مستلزمات الراحة في البيت والاطمئنان، وكل مستوجبات الدراسة والتعليم بما فيها الدروس الخاصة لرفع من مستواهم، وبيتا هادئا في علاقة الأبوين والأولاد دأبه السكينة والاستقرار، ولا شك أن الرعاية الأبوية المباشرة، والمتابعة الدائمة لدراساتهم وأحوالهم لم تكن بالشكل المطلوب، ولكنها كانت متوفرة إلى حد معقول، وهذا لم يكن تقصيرا ولا تلاهيا عنهم بمسرات الدنيا ولذائذها، كما فعل غيري، فقد أطلق الكثير منهم العنان للنفس تنتقم من سنوات الحرمان في عهد الاستعمار، ففتحوا المقاهي، وعاجوا على الملاهي، وتاهوا هنا وهناك، يبحثون عن اللذات أينما وُجدت، ويلهثون في طلبها إذا ما بعُدت، وفيهم من شرَّق وغرَّب لطلب المال فجمَّع واكتنز، أما أنا، فقد كرست حياتي أساسا لحياة أخرى، وهبت ما تبقى منها من فضلات العذاب والسجون فداء لتحرير الجزائر، وكنت أظن أن ذلك البديل يعوضهم عن المتابعة اللصيقة بتلك الشهرة الكبيرة لاسم العائلة، اعتقادا مني أنها ترضيهم وتستهويهم، وسمعة طيبة لأبيهم بين الناس تكون مفاتيح بين أيديهم لمستقبلهم، ومجدا مخلدا يتوارثونه من الأبناء إلى أحفاد الأحفاد، ويعتزون بذلك الفارس الذي كانه أبوهم، وقد ملأ الدنيا وشغل الناس داخل الجزائر وخارجها، ليظل اسمه مقرونا بنضال شعبها في الجهادين الأصغر والأكبر، والحقيقة يا نبيل، كانت المعادلة بين أسرتي وبين وطني غاية في الدقة والاختيار، كانت المفاضلة بين الرعاية الملازمة لأحوالكم وبين مواصلة النضال من أجل وطن افتديته كغيري من المناضلين بزهرة شبابي عذابا وسجونا لاسترجاع حريته وسيادته، فإذا بالوطن المفدى بكل تلك التضحيات الجسام تنذر أوضاعه بشؤم مستطير عشية الاستقلال، ويدخل قادته في صراع مرير وصل إلى حد الاقتتال بالسلاح على السلطة وكراسي الزوال، وما أن انقشعت سحب تلك الصائفة المشؤومة 1962، وعادت الأوضاع نسبيا إلى المعتاد، وأمام تزاحم الأولويات لدولته الفتية، وصعوبة أحوال البلاد الاجتماعية، فكان أبوك أمام خيار صعب بين اختيار بقائه في الجيش لمواصلة خدمة بلاده من هذه المؤسسة، وبين الخروج للحياة المدنية ليتابع مشواره النضالي في صفوف جبهة التحرير. وكان الاختيار الأخير هو الذي استقر رأيه عليه، وكان يعرف أن الحياة العسكرية لا تلائم طبعه، ولا مزاجه، ولا تركيبته النفسية والفكرية التي تكره كل قيد أو تضييق، وخاصة بعد سنوات الاعتقال الطويلة التي عاشها مقيد الحرية والحركة معا، وكان حلمه مرسوما لا يحيد عنه مهما كانت الصعاب، هو مواصلة الدراسة ليتزود من معين العلم الذي حرم منه في شبابه، أو في غياهب السجون والمعتقلات، وما أن التحق بوظيفة التعليم، واجتاز امتحان الدخول إلى الجامعة، حتى تكشف له أمر مهول جلل، أمر ما كان يتوقعه، أمر خطير رهيب يعن عن التصديق، ويتجاوز قدرته عن التصور والخيال، وهو أن الجزائر العربية المحررة بمئات الألوف من الشهداء، لم تستقلَّ عربية بعد هزيمة الاستعمار، وخروجه كسيرا حسيرا، لم يخرج الخبيث حتى تركها قطعة من الفرنسة مظهرا عامة، ومخبرا لدي الكثير من أبنائها، كما قالها وقررها غداة احتلالها، وكنا نظن أنه يدَّعي ويزعم، نعم تركها من حيث مقومات شخصيتها خلخلة في الكيان ورطانة في اللسان، تركها قنابل موقوتة في المجتمع تنفجر في مواقيتها كما خطط لها، الجزائر العربية نخبتها مفرنسة تحريرا وتعبيرا، قيادتها مفرنسة، إدارتها مفرنسة، تعليمها، إعلامها، محيطها، أسماء مدنها وقراها، أسماء شوارعها وأحيائها مفرنسة، أين رمزية الشعب الجزائري وكينونته؟ أين مقوم شخصيته وانتمائه الثقافي والحضاري؟ أين عنوان السيادة المستردة إن لم تكن لغته العربية، اللغة الوطنية والرسمية هي لغة المخطوب والمكتوب، لغة العمل والتعامل، لغة العلم والتعليم، لغة الدولة في كل مرافقها، ولغة الحياة في كل مناحيها، ولغة المحيط في كل مظاهره، من أسماء القرى والمدن، إلى أسماء الشوارع والأحياء، إلى يافطات الدكاكين والمحلات؟ أين كل ذلك، إن لم يُكتب بحرف الضاد، ولا يسمى إلا من مسمياته؟. هنا يا نبيل، وأنت ما زلت يومها روحا معلقة في مكان ما من الملكوت قبل أن تصبح نطفة في رحم أمك بعشرية كاملة من السنوات، قرر أبوك قرارا خطيرا في حياته، وهو لا يملك أية وسيلة لإنجاز ما هو مقدم عليه إلا إيمانه بعروبة الجزائر، وعزمه على خوض غمار المعركة فداء من أجلها. وكان يعتقد أنها معركة قد تستغرق شهورا وتنجلي، وإذا بالشهور المتوقعة تصير بعشرات السنوات، وإذا بالفرنسة التي كان يظن أنها غشاء سطحي لصيق بالمظهر دون المخبر، لا تصمد أمام عروبة راسخة في النفوس، متجذرة في العقول، متمازجة بالنبض والوجدان، لكنه توعى الوضع مبكرا فوجده أدق وأخطر من ذلك، وجد الفرنسة شيئا مهولا مهولا، يتجاوز رطانة اللسان إلى خلخلة الكيان، يتجاوز الحذلقة والتشبه، أو المحاكاة والمسايرة في الملبس أو المظهر، أو في نمط التصرف والسلوك، إلى دخائل النفوس وطوايا الصدور، وزادت الحقائق العنيدة والوقائع المشاهدة كشفت له أمرا جللا ما كان يخطر على البال، اكتشف أن همس نفوس النُّساة دبيبا في نجواها من بني جلدته، وهي تخاطب ذاتها أو تعبر عنها، لا تروم بديلا عن لغة قوم استعمروا أوطانها، وفتكوا بمواطنيها، واستعبدوها بكل أساليب العبودية والإذلال لقرن ونيف من الزمن، وكان المعتقد أو المفترض أن شعبها وقد قدم المهج الحرى لافتدائها كافيا ليجعل من تضحياته الجسام حواجز واقية تقيه من أي اغتراب أو استلاب، لكن ذلك الخرق الرهيب تجاوز المظاهر على عللها ليستقر في جوهر الكينونة حالة لا إراداية صارت بالتعود شيئا رتيبا لا يثير في صاحبه نخوة الانتماء إلى تاريخ وأمة، ولا اعتزاز بالتليد بدل التقليد، وليت بعض الساسة أو القادة أو النخبة من بني قومي اكتفوا بموقفهم السلبي من الفرنسة بالتلقي والتمثل والاجترار، ورضوا هم وحدهم بوضعية الاستلاب والاغتراب لهان الأمر، واعتبرنا ذلك التعامي منهم يدخل في نسق العادة والتطبع، لكنهم تجاوزوا مرحلة التبجح بالفرنسة ،والتحذلق بها على الملأ من الناس من بني جلدتهم إلى عمل مدسوس مدروس، فعملوا بهمة على نشرالفرنسية بين البوادي والأرياف التي عجزت فرنسا على إيصالها لمداشرنا وقرانا، وصاحبوا ذلك بحملة نفسية على العربية لغتهم الرسمية بنص الدستور، وهويتهم العريقة بشواهد التاريخ، ورمز انتمائهم الحضاري بتراكم من المعارف والثراث الفكري الذي تحوي خزائنه المكتوبة ملايين الكتب والمجلدات. وعلى الرغم من محاولات فرنسا المستمرة لم تسطع محوه المادي من المكتبات ولا من ذواكر الجزائريين وعقولهم، ولا من نبض مشاعرهم وهمس نفوسهم خلال عشرات من السنين من محاولات المسخ والتشويه. وهنا يا نبيل وبعشرية كاملة قبل ميلادك، بدأت المعركة على أشدها بين دعاة الفرنسة وغواة التغريب، وبين حماة العربية وجنود التعريب، وتشاء الأقدار، ودون تخطيط مسبق من أبيك يا نبيل، أن يجد نفسه في خضم معركة لم يختر مكانها ولا زمانها، ولا علم له بأسلحة الخصوم وأنواعها، دخلها بسلاح المؤمن بقضية لا يملك غير إرادة مصممة وطَّنها للولوج حلبة الصراع على شراستها، لا يقاتل أو ينازل جنديا من فصائلها أو كتائبها، بل قائدا يقود جحافلها على جبهات وعرة المسالك بنتوءاتها ومنعرجاتها بعرض الجزائر وطولها من الحدود إلى الحدود، وكم كانت تلك المعركة قاسية وعنيفة يا نبيل، نظرا لحساسياتها، وقوة الخصوم المستمدة من مراكزهم النافذة في أجهزة السلطة، وما هو موضوع تحت أيديهم من إمكانات ورجال، بالإضافة إلى مصالحهم المرتبطة عكسا وطردا باللغة الفرنسية، فإن خرجت الفرنسية من مرافق الدولة تخيلوا أنهم فقدوا الوظيفة والمكسب، وضاعت منهم السلطة والجاه. ولذلك لم تكن المعركة بالنسبة إليهم معركة فكر ولسان، بل معركة نمط حياة وصيرورة وجود. وفي الطرف المقابل، لم تكن لنا نحن دعاة العربية معركة التعريب مطية لبلوغ المناصب، ولا وسيلة لتحقيق المآرب، بل كانت معركة رمز لسيادة، وشرف لرسالة، وعزة بانتماء حضاري متفرد، وربط متصل بين أمجاد الأجداد، وتميُّز في الجنس والهوية لنا وللأحفاد من بعدنا، على طول المسافة الممتدة من فتح الإسلام لهذه الربوع إلى سدرة الخلود. وقد عايشتَ يا نبيل جزء من تلك المعارك، وأنت كامل الوعي والإدراك، تقرأ ما يكتب عن أبيك وتستوعب، وتحس ضراوة تلك المعارك وشراستها على عقل وقلب أبيك، وهو يتعرض لحملات مسعورة، لم تقتصر على ذوي السلطة والقرار فحسب، وأنا ورفاقي نواجههم في معمعان العربية والتعريب، ونقف بصدورنا سدودا منيعة أمام تيار الفر نسة والتغريب، بل انتقلت إلى جبهات السياسة على اختلاف أشكالها وأطيافها، وعلى عرض الجزائر وطولها، وأحيانا خارج حدودها، وتعرض أبوك يا نبيل، وأنت تتابع وتتألم، وفي نفس الوقت تفاخر وتبتسم، تعرض لهجمات قوم تراءت بأقلامها المسمومة، ونُفاثها المحموم، وسُعارها الموتور، وصراخها المخبول، تراءت عقاربَ ساحلة، وأفاعي رقطوات ساحبة، تبغي بلُساعها إسقاط هذا الفارس الذي أطال الركوبَ وما نزل أو ترجل، وهذا المناضل الذي أطال الصمود طويلا طويلا وما هان أو تخاذل، وهذا المتصدي لمخططاتهم وتخابثهم أربعة عقود متعاقبة ما توقف في فضح خبايا أعمالهم، وبلايا شرورهم، ونوايا أغراضهم وما استكان أو استنكف. كان أبوك لهم بالمرصاد شهما جلدا مقارعا بالقلم واللسان، وبالحجة والبرهان، ولكني لم أكن متصديا لتيار يعتنق فكرةً وكفى، ولا لطائفة تتبع ملةً أو نحلةً وانتهى، ولا لعصابة تناور وتداور تحت جنح الظلام وحسب، بل تصديت يا نبيل لأخطبوط كثير الرؤوس كبيرِها، متعدد الأرجل طويلِها، حاد الأنياب متبرِّدِها، متشاكل الألوان متقلبِها، واسع النفوذ في مرافق الدولة وأجهزتها مستغلِّها، يحاربني بأدوات السلطة وصنائعها، ، يُسوِّد صحائفي بالدعايات والافتراء، ويثير الشوشرة حولي بالأقاويل والبهتان، ويشيع الإشاعة في الأوساط بالكذب والتلفيق، فتسَّاقط على قلبي ونفسي شظايا نار وصواعق دمار، يريدون بذلك إسكاتَ صوت ظل يصدع بالحق في وجوههم، وإسقاطَ فارس بقي واقفا يقارعهم وإزاحةَ خصم ما انفك يتصدى يكشف خباياهم ونواياهم، وإسكات ذلك الصوت الذي ظل يؤرقهم لسنوات طوال. وكلما ظن القوم أنهم أسقطوه بالضربة القاضية، ويقضون ليلة هادئة من دون تنغيص من صوت الإزعاج والإحراج، حتى تتوارد عليهم الأخبار التي لا يصدقون، وتتوالى الروايات التي لا يتوقعون، وتتهاطل عليهم التأكيدات البالغةُ درجةَ اليقين التي لا يتمنون، بأن الفارس الذي حملوا عليه بقضهم وقضيضهم، بخيلهم وسيوفهم، بصواريخهم وصواعقهم، خرج من تحت غبار المعركة حيا معافى، وبُعث من تحت الضربات الغادرة أقوى وأعتى من ذي قبل، وقد تكون أثخنته الجراح، ولكنه تعافى وتشافى بسرعة، وهو ممسك بكل مبادئه، متمسك بكل مواقفه، وهو عائد للمعركة بتصميم أشدَّ من صلابة الفولاذ، ويُعدُّ العدة بكل ما تتطلبه المعركة الفاصلة لعروبة الجزائر وانتمائها وعقيدتها في مواجهة بقايا الرومان والأسبان، وقد نقل الرواة لهم بأنهم شهدوه ينهض من تحت أنقاض المعركة ينفض عن جسده وقلبه شظاياها، ويرجز بقول الشاعر متغنيا متوعدا: "جبلٌ من الفولاذ تلاطمُه البحارُ فلا تكلُّ، فلا الجبل منهارٌ ولا الأمواجُ من عبثٍ تملُّ". "إن كان من ذبحوا التاريخَ هم نسبى على مدى الدهر إني أرفضُ النسبا" تلك معارك أبيك يا نبيل وظروفه يومها وبعدها، وأنت تنزل ضيفا وليدا على الأسرة التي ابتهجت بقدومك الميمون علينا هناءة وسعادة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لم تطل فرحة أبيك بميلادك إلا سويعات عابرة ليختار لك من النبل اسما تبركا وتيمنا، لأن وقتها كان الكثير من حوله أصنافا من البشر، جمعتْ وتجمَّعتْ في نفوسها كل مثالب الأرذال والأوغاد، كان في غابة من الكواسر الضارية مستنفرة بالحقد الضغين، مكشرة عن المخالب والأنياب، ولذلك، وربما لحظك وحظ إخوتك، جئتم الدنيا من أصلاب أب لم يبق بين ثناياه حينئذ موقع تختبئ فيه عاطفة، ولا موطئ بين جوانحه ينمو فيه حنو الأبوة ويزدهر، ولم يكن له شعور بوجودكم وهو خارج البيت، حتى يعود ليراكم براعم تمرح أمامه جيئة وذهابا، فتبعث في نفسه سعادة ما، ولكن الفكر لا يسعد بها، لأنه منشغل بهموم أكبر وأكدر، والقلب لا تخالط شغافه لمسة من حنان، لأن صاحبه وطَّده على الصلابة كأنه قُدَّ من صخر، حتى يثبت على المقارعة في معامع النزال، كان يومها أبوكم لا يخفق بحب مجسد في بنوة، ولا يهنأ بسعادة في بيت، ولا يسائل عن حاجة أو طلب لزوجة، تعتني بهمة وصبر بشؤونكم، وتصبر وتصابر من أجل تنشئتكم، وتقدر مهام أبيكم بسعة صدر لا تجزع ولا تتبرم، وقد جزاها الله، مع توالي الأيام، عن الصبر مكانة، وعن التحمل هناءة، وعن القبول بمصيرها المعلق بمصير زوجها وأولادها سعادة ورضا. نعم يا نبيل! دارت كل هذه الخواطر والذكريات بخاطري، وأنا بجنب سريرك، وأنت ممدد بين اليقظة والإغفاء، وبين الخوف على حياتك، والرجاء في الله بإنقاذك من هذا الورم الخبيث، ومن هذه العملية الجراحية القاسية المؤلمة، وحمدت الله على أني كنت ما زلت على قيد الحياة، حتى أكفر لك ولإخوتك عن ذنب عدم العناية الكافية بكم، وشكرته أيضا على أن مرضك المفاجئ باغتك، وأنا على هذه المكانة في دولتي، وبين إخواني في هرم السلطة، حتى استطعت أن أوفر لك العلاج في أكبر المستشفيات، وعلى يد أكبر الأخصايين، وبالسرعة الفائقة، وأن أحيطك بالعناية الحانية، والملازمة الدائمة، وأنت تقدم على العملية الجراحية، ونحن حولك، أبوك، ووالدتك، وعمك الطاهر، نشجعك ونهون عليك، وندعو لك في السر والعلانية، ونكون في استقبالك بعد عودتك من غرفة العمليات، والمشاعر تصطرع بين جوانحنا، ولكنها كظيمة، حتى لا يؤثر فزعنا وقلقنا على معنوياتك، وأنت تكابد تلك الآلام المبرَّحة، وعملت على توفير كل ما تحتاجه لفترة النقاهة والاستشفاء، وذلك فضل من الله، فله الحمد والشكر، ولعلي بذلك أكون قد رددت لك وإخوتك بعضا من دين العناية والرعاية اللتين لم ألازمكم بهما بالقدر الكافي في مرحلة الطفولة والمراهقة، والآن، وقد خرجتَ من هذه المحنة معافى مشافى، لا شك أنك لله أولا شاكر، ولا ريب أنك أخيرا عن أبيك راض ومفاخر، وعن أمك وعمك وإخواتك تكون في غاية الامتنان لحنوهم عليك جميعا، معتزا مسجلا لهم هذه الوقفة بكل العرفان والامتنان، ولصِحاب أبيك من السائلين عنك، والمحتارين لمرضك، والداعين الله لك بالشفاء، والمساعدين لك من رجال الدولة، بدء بسيادة الرئيس على توجيهاته، والمتابعة الجادة من مساعديه الأقربين، والعناية الفائقة من أخويي الوزيرين، الطيب لوح، وعمرو تو، على سرعة التكفل لعلاجك بالخارج، ومتابعة الاستفسار عن تطور حالتك الصحية، وكذا زملائي بوزارة الخارجية باستعجالهم في استخراج التأشيرات من السفارة الفرنسية، والملاحقة الدؤوبة بالسؤل والاستخبار، ولا ننسى العناية الخاصة لسفارتنا بباريس من كل طاقمها، وعلى رأسهم أخي وزميلي سعادة السفير ميسوم صبيح، ويبقى شكري وامتناني موصولا إلى الأصدقاء الذين وضعوا بيوتهم بفرنسا تحت تصرفك وتصرف العائلة، فجازى الله الجميع خيرا على هذا الصنيع الأخوي الحميد، فلتبق لكل هؤلاء مدينا وممتنا، وداعيا لهم ولأهاليهم بالهناءة والصحة، وأن لا يريهم الله مكروها في مقبل الأيام. أواهٍ يا ولدي يا نبيل! أتراني قد وفيت بحقك، ومن خلالك بحق إخوتك؟ أتراني بصنيعي هذا، أكون قد رددت شيئا بهذا الحنو الموجود عن ذلك الحنان المفقود، وقد جمعت كل عواطفي ومشاعري الأبوية ووضعتها جزافا في مرضك المفاجئ الخطير، لتحسها شحنة واحدة مندفعة كثيفة قوية متدفقة مقدوفة نحوك من بين الحنايا والضلوع، متوقعا أنها تعطيك جرعات من التحمل والاصطبار، تقويك أمام هول الفاجعة من ورم خبيث، تمدك بشجاعة وجلد في مواجهة المباضع والمشارط، تعينك على مكابدة التخدير، وغُرَز الجراحة، ووخز الإبر والأمصال. ها قد عدتَ يا نبيل لأهلك معافى مشافى، تحويطا على العائلة، وفرض كفاية تحملتَه أنت، وتحمله أبوك قبلك، فليسقطْ هذا الفرض عن الجميع، والآن وقد أصبحتم بحمد الله أنت وإخوتك رجالا، وقد وفر لكم الأب بنضاله وجهاده عن حرية الجزائر واستقلالها، ودفاعه المستميت والدؤوب عن قيم الجزائر وثوابتها، وتصديه وصموده عن عروبة الجزائر وانتمائها، ما يجعل لكم الفخار تاجا على الرؤوس، والمجد عنوانا أمام الشخوص، والشهرة مفتاحا للمغلق من الأبواب، فحافظوا على التراث والميراث، فهو أفضل وأغنى لكم من إرث العقارات والمنقولات، وأبقى وأخلد لمستقبلكم من رنين الفضة ولمعان الذهب، وارفعوا أكفكم متضرعين في أن يديمه الله في ما تبقى له من العمر على مواقفه ومبادئه، لا يغير أو يبدل أمام مطمع أو مطمح، لا يهين أو يلين أمام ضغط أو إكراه، لا يداري أو يماري في قولة الصدق والمنافحة عن الحق، حتى يلقى الله راضيا بما عمل وفعل، مرضيا عنه من الله أولا، ومن بني قومه ورفاقه في ساحة النضال، وما ذلك عليكم، أيها الأبناء في حق أب من هذا الطراز، بكثير، وما ذلك على رفاق الدرب من الخُلَّص البررة، من الذين عاشروا وعاصروا هذا الصنف من المناضلين، بعسير وما ذلك على سيدي وخالقي وإلهي، من اختار إلي هذا المسلك في الحياة، وأنا به راض، وله حامد وشاكر، بعزيز.