الرئيس يستقبل ثلاثة سفراء جدد    نعمل على تعزيز العلاقات مع الجزائر    حريصون على احترافية الصحافة الوطنية    حزب العمال يسجل العديد من النقاط الايجابية في مشروعي قانوني البلدية والولاية    قافلة تكوينية جنوبية    تراجع صادرات الجزائر من الغاز المسال    فرنسا تتخبط    الجزائر تطالب بإعادة إعمار غزّة    هل يُعاد إعمار غزّة؟    المولودية على بُعد نقطة من ربع النهائي    مرموش في السيتي    أمطار وثلوج في 26 ولاية    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    بسكرة : تعاونية "أوسكار" الثقافية تحيي الذكرى ال 21 لوفاة الموسيقار الراحل معطي بشير    كرة القدم: اختتام ورشة "الكاف" حول الحوكمة بالجزائر (فاف)    كرة القدم/ رابطة أبطال افريقيا /المجموعة 1- الجولة 6/ : مولودية الجزائر تتعادل مع يونغ أفريكانز(0-0) و تتأهل للدور ربع النهائي    السياحة الصحراوية: قرابة 23 ألف سائح أجنبي زار الجنوب الكبير منذ شهر أكتوبر    مجلس الأمن الدولي : الدبلوماسية الجزائرية تنجح في حماية الأصول الليبية المجمدة    خدمات الحالة المدنية لوازرة الخارجية كل يوم سبت تهدف إلى تخفيف الضغط وتحسين الخدمة الموجهة للمواطن    تطهير المياه المستعملة: تصفية قرابة 600 مليون متر مكعب من المياه سنويا    حوادث المرور: وفاة 13 شخصا وإصابة 290 آخرين خلال ال48 ساعة الأخيرة    تجارة : وضع برنامج استباقي لتجنب أي تذبذب في الأسواق    سكيكدة: تأكيد على أهمية الحفاظ على الذاكرة الوطنية تخليدا لبطولات رموز الثورة التحريرية المظفرة    الذكرى ال70 لاستشهاد ديدوش مراد: ندوة تاريخية تستذكر مسار البطل الرمز    ري: نسبة امتلاء السدود تقارب ال 35 بالمائة على المستوى الوطني و هي مرشحة للارتفاع    الجزائرتدين الهجمات المتعمدة لقوات الاحتلال الصهيوني على قوة اليونيفيل    كأس الكونفدرالية: شباب قسنطينة و اتحاد الجزائر من اجل إنهاء مرحلة المجموعات في الصدارة    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 46899 شهيدا و110725 جريحا    منظمة حقوقية صحراوية تستنكر بأشد العبارات اعتقال وتعذيب نشطاء حقوقيين صحراويين في مدينة الداخلة المحتلة    اتحاد الصحفيين العرب انزلق في "الدعاية المضلّلة"    التقلبات الجوية: تقديم يد المساعدة لأزيد من 200 شخص وإخراج 70 مركبة عالقة خلال 24 ساعة الأخيرة    الأونروا: 4 آلاف شاحنة مساعدات جاهزة لدخول غزة    دخول مركب "كتامة أغريفود" مرحلة الإنتاج قريبا    التنفيذ الشامل لاتفاق السلام لتحقيق المصالحة الوطنية في جنوب السودان    اقرار تدابير جبائية للصناعة السينماتوغرافية في الجزائر    وزير الاتصال يعزّي في وفاة محمد حاج حمو    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    بشعار "لا استسلام للخضر" في مباراة الحظ الأخير    الجزائر تستضيف طبعة 2027 من المنافسة القارية    مسابقة لاختيار أحسن لباس تقليدي    تعيين حكم موزمبيقي لإدارة اللقاء    قتيل وستة جرحى في حادثي مرور خلال يومين    توقيف 3 أشخاص بحوزتهم 692 قرص مهلوس    بلعريبي… وزارة السكن تطلق حملة لمكافحة التغييرات العشوائية في السكنات    الأرصاد الجوية: أمطار وثلوج وبرد شديد في المناطق الشمالية اليوم الجمعة    وزير العدل يشرف على تخرج الدفعة ال27 من الطلبة القضاة في القليعة    بلمهدي يزور المجاهدين وأرامل وأبناء الشهداء بالبقاع المقدّسة    جائزة لجنة التحكيم ل''فرانز فانون" زحزاح    فكر وفنون وعرفان بمن سبقوا، وحضور قارٌّ لغزة    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    بلمهدي يوقع على اتفاقية الحج    تسليط الضوء على عمق التراث الجزائري وثراء مكوناته    وزير الثقافة يُعاينُ ترميم القصور التاريخية    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    الأوزاعي.. فقيه أهل الشام    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا جزعي عليك يا ولدي يا نبيل(الحلقة الثانية)
نشر في صوت الأحرار يوم 25 - 07 - 2008

أمكتوب على أبيك يا ولدي معاشرةَ الأحزان نفسا وفكرا وجسدا، وفي فترات متعاقبة متقاربة ممسكةً بتلابيب بعضها، يتجرَّعها كأسا علقما يفيض ويستفيض حتى يخالَه بلغ حدا لا بعدَه حيزٌ من فراغ لمزيد، وها هو ذا مرضك المفاجئ والخطير يخطفه مضاعفا من واقع الحال ، ويرمي به لسنواته العجاف في أيام الطفولة والشباب، وها هو يتذكرها لحظات ودقائق أليمة ومؤلمة منقوشة في الذاكرة لا تبرحها، مغروزة في الخاصرة كأنها موسى حادة تحركها الحوادث والأحداث كلما ظن أن الجرح برأ والتأم، يتذكر أمام خبر مرضك المفزع بخوف والتياع، كيف رافقته الأرزاءُ صغيرا طرّا يافعا، في بيت كان ميسورا يتراوح بين الغنى والثراء، بين السؤدد والجاه، بين الهناءة والرضا، بين الأمن والسكينة لكن الدهر كان يتربص بنا وبغيرنا من الجزائريين، وما كادت تنقضي سنوات ستٌّ من أهوال الحرب العالمية، وما عرفه الأهلُ من تقتير في العيش، وبيع للمواشي والخيول والأبقار والأرض، لسدّ فراغ البطون المتضوِّرة بالجوع، حتى كان جدُّه قد أفرغ يده من بيع ما يملك من عقار ومنقول وحيوانات، ولامس حدَّ العوز والفاقة في ظرف قياسي يكاد يعد بالشهور، بلهَ بالسنوات، فانقلبت أحوالُ العائلة رأسا على عقب من غنى يُثير حسدَ الحانقين، إلى فقر مُدقِع يُشفي صدورَ الناقمين.
أمسطورٌ في رحم الغيب على أبيك، يا نبيل، كلما أحس أن الحياة حنَّت ولانتْ وأبعدتْ من مخيلته وذاكرته شبحَ الأحزان، ولوعةَ الفواجع، وقسوةَ المواجع، حتى تفاجئَه وتفجعَه من حيث لا يتوقع ولا يترقب، تنقضُّ عليه انقضاض الفواتك من الكواسر تشدُّ بخناقه بشراسة الغريزة، تريد التهامه بحقد الخصيم الزنيم، كأنْ بينه وبينها إِحَنٌ مستعصيةٌ عن الرضا أو التراضي، لأن الحيوانية في جبلتها خاليةٌ من أي شعور يعي ما يفعل حتى يلطِّفَ استجابةً أو غوثا لمستلطِف، جبلةٌ متوحشةٌ لا تتراجع شعورا بالذنب أمام فريستها، وهي ترتعد من أنيابها الكاشرة، لتنشبَها في أبيك من جديد، وعلى حين غرة من أمره، فلا يستطيع صدها إلا صابرا أو مصابرا، وكم مرةً تصدى لها مجابها ومقارعا، وعلى ذلك المنوال توالت الأيام والليالي لا تلاين أو تهادن، وظل هو واقفا بساحة العراك لا يكلُّ ينازل ويطاعن. كان فكرُ أبيك يومها جادا كادا منهمكا في عمل قومي، ظنا منه أنه يعمل، هو وقادة أمته، لوجود مخارجَ أو وسائل توصل لقمةَ عيش لطفل فلسطيني جائعٍ متضوِّرٍ يبيت على الطوى، أو جريحٍ فلسطيني معفَّرا بدمائه، جرحُه غائر نازف بلا دواء ولا تضميد، فلسطيني مقهورٍ محاصَر من أمريكا والغرب بتحدٍّ سافر، وبعجز ظاهر من العرب أمام مخاطر التهديد والوعيد، أمته مشلولةٌ عن الحركة والفعل، مبهورةٌ أمام تسارع الأحداث وتواتر الحوادث، تخاف على عروشها فتحتمي بجيوشها، لا لرد نوايا الغاصب وهو يتطاول ويعربد، بل لقهر شعوبها مخافة أن تحتج أو تتظاهر، خشية من الوصول إلى قلب الطاولة على الأعداء المحتلين، أوالقادة العملاء الخانعين. ولكن ها هي هذه الأمة يجتمع قادتها بهالة كبيرة من أضواء العدسات والكاميرات والمكبرات، صورُ العناق منقولةٌ على المباشر، وأحاديثُ الود والمجاملة مبثوثةٌ على الأثير، وألقابُ العظمة رنانةً طنانة، جلالة، وفخامة، وسموا، ومعالي، وسعادة، يتحاورون في قمم كأنما هم يتسامرون، ويتلون بياناتٍ مدروسةً بدقة، حتى لا تتضمن أي حرف أو كلمة تحمل شيئا من النقد للغرب بالتلويح أو التلميح، وتصدر عن قمتهم تلك قراراتٌ هزيلة لكثرة اجترارها في قمم سابقة، لا تُجير مستجيرا، ولا تُغيث مستغيثا، ويتبارى القادةُ في إلقاء خطب بتراءَ عرجاء، مرصوصةً في كلمات أو فقرات تهم بالإفصاح، ولكنها أخيرا لا تُفصح ولا تُبين، فيها كثيرٌ من التورية والاستعارة، وفنون الطباق والجناس، وفيها شيءٌ من فلسفة الغنوص في جلباب الطقوس،ويتسابق سَدَنتُهم لنشر خطبهم في وسائل إعلامهم في أوطانهم، كأنما هم يقولون لشعوبهم، "انظروا لقد تحدثنا باسمكم، وعبَّرنا ما استطعنا عن مواقفكم". "ولكن، ونحن في هذا الظرف العصيب العطيب، لا تنسوا قوله تعالى: "لا يكلِّف الُله نفسا إلا وسعها"، "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وقد لجأنا إلى هذا لأسلوب الأليق الذي فيه شيءٌ من التقية أو الباطنية، نُعلن غير ما نُخفي، ونُضمر غير ما نُخبر، حفاظا على سلامة واستقرار شعوبنا، وحرمةِ سيادة أوطاننا، خطبنا وتكلَّمنا وذكَّرنا بالقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن، ولكن أمريكا لا تُصغي ولا تعي. أصدرنا في قمتنا هذه بنودا كالعهود، صغناها قراراتٍ فيها من التلميح ما يفهمه العدوُ بدون جهد ولا مشقة، فيها من الوضوح والشفافية، ما لا يحتاج لتفسير أو تأويل". "وأكدنا بأننا نحن العربَ متمسكون بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت، وأبدينا من جديد استعدادَنا الكاملَ للتطبيع الجماعي من المحيط إلى الخليج مع إسرائيل، وأن إستراتجية العرب الآن، وبعد الهزائم المتعاقبة للعروش والجيوش، هي مسلكُ السلام الدائم والعادل والشامل، وأن الحروب مع إسرائيل عهدٌ ولى وأدبر،لم يعدْ في قاموسنا الحالي ولا القادم لفظٌ من ذاك القبيل". "وصدعنا، نحن، القادةَ العرب، على مسامع الدنى بمواقفَ من الشجاعة والحكمة ما يُبهر العالم، وكم راح يُكبرنا جذلان نشوان، وهو يرانا ويسمعنا نُدين أيَّ فلسطيني برعما يانعا يتأزَّر حزامَه الناسف، ويفجِّر نفسَه في كوكبة من غُلاة بني صهيون، أو عروسا فلسطينيةً غيداءَ لم تُنهِ دراستَها الجامعية بعد، وتسجِّل على الجهاز المصوِّر شهادتَها قبل استشهادها، وتفضِّل شهادةَ الفداء الممهورةَ بالدماء، على ورقة مختومة من كلية أو جامعة بحبر المداد، وتغدو تتأبَّط قنبلتَها بشوق وحنان، وبرباطة جأش لا يعتورها التردُّد أو الخوف، وتنقطع علاقتُها بزوائل الحياة الفانية، وعند وصولها لمقصدها، تقف شامخةً كلبوءة تزأر في تجمُّعٍ صهيوني، معلنةً: "فلسطين عربية، وتُردف: الله أكبر"، وتضغط على كنزها الثمين، قنبلتِها العطرة، لتتحوَّل في لمح من بصر هي، ومن حولها من الأعداء، إلى أشلاء متناثرة، وشظايا متقاطرة، وبعدها، لا يهمُّها، ولا يهم رفقاءَها الشهداءَ من يصفهم بإرهابيين، ولا من يتبجَّح من العرب بوقاحة، واصفا عملياتِهم الاستشهاديةَ بالحقيرة أو الدنيئة". فالشهيدُ الفلسطيني بهذا الاستعداد للشهادة، وبهذه الطريقة في القربان، أثمن وأغلى وأرفعُ وأشرفُ من أي عربي سياسي دجال، سواءً كان جالسا على قمة مملكة أو إمارة أو جمهورية. "نعم تلك كانت قراراتُ قمتنا، وعلى غرارها كانت سابقاتُها، فيها من دقة البلاغة والبيان، ظنا منا نحن القادةَ العرب، بأن الصياغاتِ المنمقة، والتورياتِ المبطَّنةَ وحدها كافيةٌ لتجعل إسرائيلَ تسارع للاعتراف بالدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس، وبعودة اللاجئين، وبالجلاء عن أراضي سوريا ولبنان، اعتقدنا أن الدولة العبرية تأتي إلينا لهفى متلهفةً على هذا الاعتراف العربي بوجودها، وعلى تطبيع علاقاتنا بدولتها من المحيط إلى الخليج، كما جاء في ما سميناه "مبادرةَ بيروت". وهذا الاعتراف كأنه كان غير منتظر منها، لا من حيث الظرف، ولا من حيث التوقيت، وكأن ذاك هو الهاجس الوحيد الذي كان يُؤرق إسرائيل، فقدَّموه لها على طبق من ذهب دون أيِّ التزامٍ مسبقٍ منها بالتفاوض أو الوساطة، ودون أي التزام ولو بالتلميح من صانعتها وحاميتها أمريكا. وليت أصحابَ النخوة والأنفة، يكفيهم التذكير، بأن الرئيس الشهيد الحي عرفات لم يكنْ يومها بينهم، كان محاصرا برام الله، ممنوعا من المغادرة للأرض، ومن المشاركة في الاجتماع، وممنوعا منهم من أن تُلقَى كلمتُه في قمة بيروت في الزمن المطلوب، كانت تلك الصيحاتُ العرفاتيةُ نذيرا مدوِّيا حريا بأن يُفيقهم من غفلتهم، وينتبهوا إلى فعلتهم المشينة في حق أمتهم، وفي تلك المبادرة الخزيِ تحدٍّ صارخٌ بالمصادرة على حق الأجيال القادمة في النضال من أجل قضيتها، وطرد غاصبيها، وتحرير أراضيها، طال الزمن أم قصر، كان المفترض أن تتحرَّكَ في دواخلهم، أمام الصلف الإسرائيلي والعنجهية الأمريكية، حميةُ العروبة ونخوتُها وعصبيتُها لتمزيق تلك المبادرة اللعينة، ورميها فورا إلى سلة المهملات، واستبدالها بقرار، أقلُّه عدمُ الاعتراف بالعدو الصهيوني اليوم وغدا، ويطالبون من الدول المعترفة به أن تسحبَ ذلك وتبادر، وإن عجز هذا الجيلُ الهجينُ، دون تعميم، في استعادة فلسطينَ المجاهدة، فلا شك أن الأجيال القادمة تُكمل المشوار جهادا وفداء وصراعا حتى النصر، على غرار ما فعل الشعب الجزائري في مقارعة الاستعمار، ثوْراتٌ تتلوها انتفاضات، فإن فشلت حركةٌ ما، اندلعت أخرى من هناك لتواصل المسيرَ على درب الكفاح، وكانت الخاتمةُ تتويجا بثورة التحرير المظفرة في غرة نوفمبر 1954، في وثبة عارمة شاملة، قامت بها الجزائرُ الثائرةُ في وجه ما قننته فرنسا: "بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من أراضيها"، فواجهت مقابلَ ذلك الادعاء ثورة عارمة جبارة بالحديد والنار، وبالشهادة والافتداء، قام بها شعبٌ أبيٌّ ثائر، يقدِّم من المهج الحرَّى، والدماء الزواكي، قوافلَ تلو القوافلِ من الشهداء ومواكب تلو المواكب من المجاهدين، فكلَّل جهادَه بالنصر والاستقلال، وخرجت فرنسا تجرجر أذيالَ الهزيمة بعد قرن واثنتين وثلاثين سنة، ذليلةً كسيرة، مازالت تلعقُ غصةَ الهزيمة النكراء في حلقها علقما مر المذاق حتى الآن، وستظل حنظلا في لهوات أجيالها إلى يوم الدين. ولكن لا شك أن الزمن الأمريكي الرديء كان قد فعل فعلتَه في قادتنا ونُخَبنا السياسية والثقافية، ولو بنِسَبٍ متفاوتة، ولكنها مؤطَّرةٌ ومتأثرة، خورا في العزيمة، وامتهانا للكرامة، وعمالة في السياسة، وانبطاحا في المواقف، ووقْرا في الآذان لا تُصغي لصيحات عرفات، وهو محاصرٌ في سجنه من رام الله، "سأموت شهيدا شهيدا شهيدا"، فالقراراتُ التي لا تُسندها قوةٌ ما، مآلها الفشل والانتكاس، والعروضُ العربيةُ الرخيصةُ المقدَّمةُ من دون مقابل، تدل على الغفلة والارتجال، أو على البلاهة السياسية والاختلال، أو على افتقاد الأنفة والحمية وشمائل الرجال. ولكن ماذا يستطيع أبوك أن يفعل يا نبيل؟ وهو وقلة من بني قومه العرب، ما زالوا يغرِّدون خارج السرب، فقادةُ أمته بلا تعميم إمَّاعاتٌ رخوةٌ تحبو على بطونها نحو أمريكا كالزواحف، خوفا على عروشها، والجبنُ منقصةٌ ذميمةٌ في خصال الرجال، ولكنه لحماية الكراسي فضيلةٌ وذكاءٌ ودهاء، أين منه معاوية، وعمرو بن العاص. وإذا حاججتَ القومَ أو واجهتَهم تعللوا بالقول: "ماذا تريدون منا أيها الحالمون بعروبة الأمة ووحدتها، وهي شظايا متطايرة متناثرة؟ وما تطلبون من قادةٍ لا يجمعهم جامع، أو يقرِّب بينهم تشابهٌ إلا تلك الخناجرُ المسنونةُ المسمومة المخبوءةُ تحت المآزر، والطوايا المتخابثة الناقمة المنطوية على ذلك الكم الهائل من الضغائن والأحقاد نحو بعضعهم ؟ أتشكُّون فينا نحن قادةَ الأمة بعد ما كتبنا وصغنا وصادقنا على كل هذه القرارات بالإجماع، فالطعن فيها خروجٌ وإضعافٌ لموقف العرب أمام الغرب؟ وما ذا نستطيع أن نفعل إذا وجدنا أنفسَنا عند كل مبادرة عاجزين عن الحركة عند تطبيقها بالفعل، وغالبا ما يكون عدمُ التطبيق صادرا منا بالإجماع؟ كفى لوما على قادتكم أيتها الشعوبُ المستنفرة، وهم مشدوهون أمام عولمة كاسحة، براكينُها حِمَمٌ متطايرةٌ في الجو، تُحجب الكواكبَ والسماوات، ونسمع فحيحَها مدويا صاعقا ينتشر في كل بقعة من الأرض، أو في أية موجة من كل محيط، كأنه نفخةُ الصور في يوم النشور". لذلك قمنا نحن القادةَ تحوُّطا لضررها بكثرة التهويل من أخطارها، حتى ولو كنا لا نعي بالضبط دلالاتِها، ولا ملجأَ في مخيلتنا أمام هذا الغول المتوحش إلا أن نقبعَ بجحورنا، مستعيذين محوقلين متضرعين لخالقنا، وذلك عندما تصلنا الأخبارُ عن شراسة هذه العولمة وقوة فتكها وعصفها بكراسينا، إن نحن قلنا أو فعلنا شيئا يخدش في سمعة مهندسيها ومروجيها ومنفذيها، ونحن نعرف مخاطر ذلك بالتجربة والاستنتاج، بعد ما وقع للعراق وأفغانستان، وما وقع قبلها باغتصاب فلسطيَن من أهلها، وزرع أجسامٍ شاذة غريبة صنعوا منها دولةً وقوة، وجعلوا من مجد العرب جيوشا لا تخرج من نكسة، كنا نظنها عابرة في مواجهة إسرائيل، إلا لتنتهي بهزيمة نكراءَ ما تزال جاثمة على صدور أمتنا، وها نحن رغم مسايرتنا وسكوتنا وقبولنا بتمريغ هاماتنا وقاماتنا جثاةً عند أقدام الغرب رُكَّعا، وأمام عتبات دوره المالية شحْذا وتسوُّلا، وعلى منابره، وأمام عدسات التصوير، نقدِّم صكوكَ الطاعة وأدلةَ الانصياع، ومع ذلك لم يثق في أقوالنا، معتقدا أننا نخادعه، ولم تشفع لديه أعمالنا، ظنا منه أننا نسايره تقيةً إلى حين، خوفا من حين نسترد فيه أنفاسَنا، ونستنهضُ فيه من كبوتنا، ونستحثُّ ما خار من عزائمنا، ونجمِّع ما تفرَّق من قوانا، وتوجُّسُه ربما له ما يبرره من شواهد التاريخ. لذلك، ورغم كل ذلك، سنظل نتعرض لهجمة شرسة من خلال ترسانة إعلامه، تسحقنا حكاما وشعوبا بالخبر المدسوس المدروس، والصور السريعة الباهرة المؤثرة على البصر والسمع، ومن خلالها ذاك الضغط المكثف على العقول والبصائر، وازداد خوفُنا أكثر بتلك العولمة الداهمة الزاحفة، وباقتصاد أمريكي متوحش، لا يبغي شيئا إلا الاستيلاءَ على خيرات شعوبنا، وموارد أراضينا، والسيطرة على مقدَّراتنا، والمساس باستقلالنا وسيادة أوطاننا. وإذا تجرأ أي حاكم أو شعب، ولاح منه أنه يريد أن يستفسر أو يفاوض حمايةً لبعض القليل من مصالحه، حفاظا على مستقبل أجياله، فإذا بمؤسساته المالية، من الصندوق الدولي، والبنك العالمي، إلى نادي باريس ولندن، تتحرَّك آلةً رهيبةً، فتقوم بالضغوط بدايةً، فتشطُّ في الشروط إجحافا،
ثم تنتهي إلى قيود خانقةٍ نهايةً، وإذا الحاكمُ المستفهمُ أو المقاومُ لا يجد أمامه من مندوحة إلا القبولَ بشروط الإذعان، أو تحاك ضده مؤامرةٌ مدبَّرةٌ بإتقان، تُطيح به موتا أو سجنا أو رحيلا، وإذا بالبلد المعني يُفيق على كارثة تتجاوز الاستغلالَ إلى الارتهان، وربما يؤدي هذا وذاك إلى الغزو والاحتلال. هذا هو الهاجسُ الذي يساكن عقولَ قادتنا آناءَ الليل وأطرافَ النهار، ولا أحدَ منهم يستطيع أن يقارنَ نفسه بفيدال كسترو، أو شافيز، أو رئيس بوليفيا الجديد، وهم في خاصرة أمريكا جغرافيا، وعلى بعد أميال من شواطئها، وها هم ما زالوا يتحدَّونها جهارا نهارا بشجاعة مواقفهم المستمدَّة من إرادة شعوبهم. وليتهم، والهواجس تغشِّي أبصارَهم، يتذكرون، و بالأمس القريب فقط، قادةً كانوا أنموذجا في مواجهة الكبار بعزيمة لا تقهر في إدارة الصراع، مع نفس القوى الغربية المتغطرسة المتعنجهة، وكانوا قادةً لنفس الشعوب، وهي يومها جاهلةٌ متخلفةٌ عكس وضعها الحالي، وهي على درجة عالية من الوعي والثقافة والتعليم، ليتهم تذكروا، عبد الناصر، وابن بلة، وبومدين، وحافظ الأسد، ونهرو، وتيتو، ونكروما، وسيكوتوري، وغيرهم. ولكن ما ذا نقول لهم سوى هذه الصرخة من الأعماق: أيا زمنَ الرداءة والردة ما أتعسَك! أيا زمنَ التخافت والتهافت ما أبشعَك! أيا زمنَ الطوع والصوع ما أقبحَك! أيا زمنَ الهزيمة في القلوب والعقول ما أشدَّ وطأَك وأطولَك!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.