قد يحب المرء أي امرأة لجمالها وفتنتها، وقد ينقلب حبه إلى مأساة، لأن المرأة ليس الشكل فقط، إنه الباطن أيضا الذي يرقد تحت الجمال الظاهر. والديمقراطية مثل هذه المرأة تماما مظهر ومخبر، وعلينا أن نأخذها كلها أو نتركها كلها. لقد ثار التونسيون ضد الرئيس بن علي بتهمة أنه: »دكتاتوري« ونظامه قمعي وبوليسي. وثار المصريون ضد مبارك بتهمة أنه »فرعون«، وثار الليبيون ضد العقيد معمر القذافي بتهمة ممارسة الدكتاتورية نحو نصف قرن من الزمن، وثار السوريون ضد بشار الأسد بنفس التهمة، وثار اليمنيون ضد علي عبد الله صالح بسبب التهمة ذاتها، ووقع الانقلاب في مالي وفي موريتانيا بسبب الدكتاتورية، وحدثت حرب أهلية في كوت ديفوار بسبب التمسك بالحكم أي بسبب الدكتاتورية. وتجري عملية الإصلاح السياسي في العديد من البلدان من أجل محاربة الدكتاتورية.هذا هو الوضع. وكانت القارة الأكثر ممارسة للدكتاتورية في العالم ، قد قررت في قمة لها انعقدت بالجزائر عام 1999 تحت مسمى منظمة الوحدة الإفريقية التي حولها القذافي لاحقا إلى »الإتحاد الإفريقي« قد أقرت بأن »الديمقراطية هي أفضل نظام سيء للحكم«. وبناء عليه اتخذت القرار بعدم الاعتراف بأي نظام يصل الحكم عن طريق الانقلاب. وهو ما تستند إليه اليوم في عدم الاعتراف بالإنقلابيين في مالي، رغم حدوث انقلاب في وقت سابق في موريتانيا دون محاصرته من قبل الإتحاد الإفريقي، مما يعني أن الإتحاد الإفريقي لا يملك السلطة لتطبيق قراراته، بل يحتكم للموقف الدولي أولا وأخيرا. نعم إن الديمقراطية في الوقت الراهن هي »أفضل نظام سيء للحكم«، والديمقراطية هنا وبهذا الفهم، هي تلك العملية السياسية التي يتمكن من خلالها شخصيات وأحزاب من الوصول إلى الحكم بناء على انتخابات نظيفة وشفافة لا تطالها أيادي التزوير أصلا. وقد جربت عدة دول إفريقية بنجاح هذا المسعى. منها على سبيل المثال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في السينغال، حيث اعترف الرئيس السابق بهزيمته وسلم السلطة. لكن النموذج الناجح حقيقية هو نموذج جنوب إفريقيا، ففي عهد حكم الأبارتايد كان المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا قابعا في غياهب السجون، وعندما وقع الزلزال العالمي الكبير في أواخر الثمانينيات بانهيار الإتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1989، توجهت معظم الدول الشمولية تحت تأثير دعاية »نهاية التاريخ« نحو اعتماد الديمقراطية كنهج سياسي والليبرالية كنهج اقتصادي، فحصل أن خرج نيلسيون مانديلا من السجن ليصبح رئيسا للجمهورية، وقد خرج من الحكم طواعية، ليكرس تقليد التداول السلمي على السلطة في جنوب إفريقيا التي تشهد حاليا استقرار سياسيا وتطورا اقتصاديا. لكن المشكل أن كثيرا من البلدان فضلت انتهاج النهج الديمقراطي ونظمت انتخابات بدرجات متفاوتة من الشفافية، في ظل دساتير تحدد العهد الانتخابية، لكن الحاصل، أن الذين وصلوا إلى الحكم باسم الديمقراطية والتداول السلمي على الحكم، أصبحوا أول عدو للديمقراطية، حيث أصبحوا يعبثون بالقوانين وبالدساتير وبالعمل الديمقراطي في حد ذاته، فأوصلوا بلدانهم لمآزق سياسية. وهكذا أصبح الحلم الديمقراطي يتحول تدريجيا إلى كابوس لدى المواطنين، حتى بدأ الحديث عن محاسن الدكتاتورية، سواء أكانت دكتاتورية الشخص أو دكتاتورية الحزب الواحد. فالشعوب التي انتفضت ضد الدكتاتورية تحت مسميات الربيع العربي مثلا أصبحت تحلم بالأمن مقابل الديمقراطية. بالطبع إن الوقت مبكرا جدا للحكم على نجاح الثورات العربية أو فشلها، وهي الآن في مرحلة تحول الحرج، ومن الطبيعي أن يستمر الصراع بين أنصار الديمقراطية وأعدائها، بين أنصار المجتمع المدني والعسكري وغيرها من القطبيات والثنائيات. وبالموازاة مع ذلك هناك ملاحظة جديرة بالوقوف عندها، فالانقلابات والاضطرابات السياسية في عادة ما تقع في الأنظمة الرئاسية، وتقل بكثير إلى درجة الصفر في الأنظمة البرلمانية أو الملكية. وبدون شك فإن هذه الملاحظة جديرة بالدراسة والاهتمام وتسليط مزيد من الأضواء والاستنتاجات. بدون شك فإن حكم الفرد يوصل بالضرورة إلى الكارثة، وما أكثر النماذج على ذلك، والديمقراطية مهما كانت هي كتلة واحدة لا تقبل الترقيع ولا التجزؤ، فإما أن نأخذها كلها أو نتركها كلها. وإن تجزئ الديمقراطية هو الذي يوصل إلى الفشل، وهو الذي يحولها مع مرور الوقت إلى أسوأ نظام جيد للحكم، لأن تجزيئها يعتبر بمثابة عبث بالأمن العالم. ولا حياة في غياب الأمن. * التجربة الجزائرية وبالقياس نلاحظ، أن الجزائريين كان من أوائل الشعوب الثائرة ضد الدكتاتورية، في مرحلة الاستقلال وتحديدا في أكتوبر 1988، لكن إلى يومنا هذا ما زلنا نتخبط في كيفية إنجاح العمل الديمقراطي، وقد بينت التجربة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا كيف أن الديمقراطية قد توصل إلى الحكم من لا يؤمن بها أصلا، وقد توصل إلى الحكم أناسا لا يمثلون الشعب تمثيلا حقيقيا، وبينت تجربة تشريعيات 2012 كيف استغل رجال المال والأعمال قضية الديمقراطية لصالحهم، وبينت مختلف التجارب كيف خرج الشعب من دكتاتورية الحزب الواحد إلى دكتاتورية »عدة أحزاب«، ففكرة الانتخابات على القائمة بدل الاسم، وضعت رؤساء الأحزاب في موضع »كل دكتاتوري في حزبه«، وهكذا دواليك. منذ عام 1999 إلى غاية 2014 أنفقت الجزائر نحو 600 مليار دولار في الاستثمارات المباشرة، إنه مبلغ يكفي لإنقاذ اليونان ثلاث مرات، لكن »الديمقراطية الشكلية« أو »الديمقراطية مع وقف التنفيذ« جعلت المراقبة على إنفاقها وتسييرها تشعر المواطنين بنتائجها المتواضعة رغم أهميتها. ما يعزز فرضية إن »الديمقراطية هي كل متكامل« نأخذها كلها بآلياتها وأدواتها، أو نتركها كل كلها.