لِمَ لا نستفيد من تجربة الغرب، في نظام الحكم الراشد، الذي يعني ترشيد نفقات المال العام، وترشيد المؤسسات، التي تعمل خارج نزعات الأفراد والمجموعات، بل تعمل وفق خطة مدروسة، لا تتأثر بانتهاء عهدة رئيس، وقدوم آخر، سواء كان ينتمي إلى اليمين أو إلى اليسار، أو هو من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، لأن المؤسسات في النظام الغربي، كالنجم تماما، لا يعرف الاتجاهات، وكل مؤسسة تؤدي العمل الذي وجدت من أجله، تقف عنده ولا تتعداه، وهي مستقلة عن المؤسسات الأخرى، ولكنها في الوقت نفسه، هي أشبه ما تكون بقطعة أساسية في المحرك إذا تعطلت تعطل المحرك كله عن العمل• الحكم الراشد ليس انتخابات فقط، بقدر ما هو مؤسسات، تتحرك في الاتجاه الصحيح، الذي يخدم الصالح العام على المدى القريب والبعيد، وليس هو الاجماع على شخص، بقدر الاجماع على تداول السلطة، وإن كان في الاجماع، قتل للرأي المخالف، وقتل للابداع أيضا• الحكم الراشد هو الذي يتحرك فيه المجتمع المدني، خارج صراع الأحزاب، في شكل جمعيات تجمعها مصالح مشتركة• فجمعية الخبازين مثلا تهتم بالمشاكل التي تعترض أداء عملهم، كنوعية الدقيق والخميرة، ووزن الخبزة الواحدة، وكذلك سعرها ويقف اهتمامهم عند هذا الحد، ولا يتعاطون السياسة، وقل ذلك في تجار المواد الغذائية وتجار الجملة لهذه المواد، وكذلك بالنسبة لأصحاب المطاعم والمقاهي، وأصحاب سيارات الأجرة، وكل أصحاب المهن الحرة التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية• و هؤلاء يكتفون بالدفاع عن مهنهم، سواء كانوا منفردين، أو تحت اطار شامل يضم عدة مهن في تنظيم واحد، يرعى مصالحهم وفي الوقت نفسه يدافع عن المهنة لدوامها، والاستفادة منها ماديا ومعنويا، وهم في هذا لا شأن لهم بالعمل السياسي على الاطلاق، فهم ينتمون إلى مهنهم فقط، ويؤدون واجبهم الانتخابي عند كل استحقاق، ويقفون إلى جانب البرامج التي يرون فيها إمكانية أن تساعدهم على ازدهار نشاطاتهم المهنية بما يعود عليهم وعلى المجتمع بالفائدة• هكذا يكون المجتمع المدني، الذي يأخذ على عاتقه اهتمامات كل شرائح المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، فالسياسية تتمثل في الأحزاب، والاقتصادية في الصناعة والزراعة وما ينتج عنهما من حرف ومهن، والثقافية في مؤسسات التعليم بمختلف مراحلها من الابتدائي إلى المتوسط إلى الثانوي والجامعي، وكذلك في مؤسسات الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وفي شبكات الانترنيت، وفي رجال المسرح والسينما والكتاب في مختلف أجناس الكتابة، وهؤلاء جميعا مهنهم تعتمد على الجهد العقلي، دون الجهد العضلي كما في باقي المهن والحرف الأخرى• ويبدو لي أن هذه الشريحة التي تنتمي إلى الثقافة بوصفها معارف عامة، ومعارف خاصة، وتشتغل بالعقل، هي أقرب إلى العمل السياسي، بحكم الوظيفة، دون المهن الأخرى، وخاصة الذين يشتغلون بالكتابة كحرفة، مثل الصحفيين والقضاة والمحامين، ورجال التوثيق، والحرفة في مثل هذا النوع من الكتابة، تعني الجودة والاتقان في النص المكتوب، بحيث يؤدي الغرض المطلوب بصيغة يرتبط فيه اللفظ بالمعنى• أما الكتابة الابداعية - وهي حرفة وإبداع - فهي أصلا تنطلق من معلوم نحو مجهول، فهي حرفة بمعنى الاتقان، وفن بمعنى الإدهاش والإمتاع، الذي مصدره الإبداع، الذي لا يشبه أي إبداع، أي أن الكتابة الابداعية حرفة لا تكرر نفسها، فلا يوجد عمل إبداعي يشبه الآخر، وما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن العمل في مجال الكتابة الإبداعية يتطلب الصبر والمعاناة وطول النفس كما يتطلب من صاحبها أن يكون صاحب رأي، والكتابة الإبداعية بشكل عام محنة، تعرض صاحبها إلى متاعب كثيرة سواء مع أسرته أو مع محيطه القريب والبعيد• الكتابة محنة، في غياب حرية التعبير، التي تعتبر أهم منجزات الحكم الديمقراطي، الذي تتعدد فيه الآراء، ووجهات النظر، لمن لهم القدرة على النظر في المسائل الفكرية التي تتعلق بحياة الناس، السياسية والاجتماعية والثقافية• إن المهن التي تنتمي إلى قطاع الثقافة بوصفها معارف عامة هي التي يتكون منها مجتمع النخبة، الذي قوامه الأفراد الذين يزرعون الوعي في الناس من خلال ما يكتبون في الصحف والمجلات والكتب، أو من خلال ما يقولون في المحاضرات والندوات والمؤتمرات•• وهؤلاء وحدهم القادرون على نقد الخطاب السياسي وتوجيهه، سواء تعلق الأمر بتعديل الدستور أو بإعادة صياغته، في مثل هذه الحالة لابد من انزال المشروع إلى ساحة النقاش الهادىء من خلال الندوات التحسيسية التي يشارك فيها المثقفون على اختلاف تياراتهم، حتى نسمع صوت الرأي المخالف الذي قد يكون فيه بعض الصواب، ونحن نرى أن إلغاء الصوت المخالف، هو إلغاء للديمقراطية برمتها، والعودة للأحادية التي تتركنا نقف عند الآحاد، ولا نتعداها إلى العشرات والمئات• لست أدري إن كان الذين ينادون بتعديل الدستور يعرفون ماذا نعدل فيه، هل نعدل كل ما جاء فيه، رأسا على عقب، أم نعدل جزء، ونترك جزء، ثم على ضوء ماذا يتم التعديل، وإذا كان هناك تعديل وهو ما سيحدث بالفعل، فلابد من إقناع الشعب بالأسباب التي أدت إلى مراجعة الدستور، وهي أسباب في رأيي إذ وضعت على طاولة النقاش، من باب النقاش السياسي البحت، فإنها تكشف الكثير من السلبيات والكثير من الإيجابيات لدى كل فريق• والخلاصة، علينا جميعا أن نركن إلى العقل والحكمة، ونترك الحسابات الشخصية من هذا التعديل، لأن السياسي المحنك هو من يراهن على شساعة الزمان، وليس على شساعة المكان•• وعليه، علينا أن نركن للعقل والحكمة ولا نتسرع في الهرولة نحو المجهول، دون الوقوف خارج الأقواس•