سألني مرة أحد الأصدقاء هل من تفسير للعدد المرتفع من الرؤساء على قيد الحياة في الجزائر؟ طبعا لا ينبغي فهم ذلك على أنه نوع من الاستغراب من طول العمر عند رؤساء الجزائر، وإلا كان الصديق طلب التفسير من طبيب أو"عراف!!" وليس من صحافي. ولكن الاستغراب هنا هو من العدد الكبير نسبيا لهؤلاء الذين تولوا هذا المنصب وغادروه لهذا السبب أو ذاك في هذه الفترة أو تلك؟ الرؤساء الأحياء، الله يطول عمرهم، هم أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد وعلي كافي واليمين زروال. وما يهمنا في هذا المقام، ونواب البرلمان بغرفتيه رفعوا أيديهم تأييدا لتعديل آخر للدستور المعدل، هو ملاحظة أن مسألة رئاسة الدولة ظلت مشكلة في النظام السياسي الجزائري في مختلف مراحل تطوره، من الاستقلال عن الاستعمار القديم إلى اليوم. المسألة يمكن أن نراها من زاوية التذكير بكيف وصل رؤساء الجزائر إلى كرسي الرئاسة وكيف غادروه. لقد وصل جل رؤساء الجزائر إلى السلطة في ظروف تأزمية في الغالب. فالرئيس الأول أحمد بن بلة وصل إلى كرسي الرئاسة بعد أزمة خانقة في " نظام جبهة التحرير الوطني" كادت تعصف بالثورة. ويمكن القول إن قيادة جيش التحرير، وخاصة قيادة الأركان العامة، قد تحالفت مع المناضل أحمد بن بلة من دون غيره من الوجوه القيادية، وخاصة محمد بوضياف وحسين آيت أحمد، ودفعت به إلى سدة الرئاسة. والكل يعلم أن هذا " التعايش" لم يدم طويلا، وقاد وزير الدفاع القائد السابق لقيادة أركان جيش التحرير، انقلابا عسكريا ضد الرئيس " المنتخب!" وكان ثاني رئيس للبلاد. ويذكر الكثير قول هواري بومدين أو ما معناه: نحن نسترد ما أعطينا لبن بلة!! دام حكم بومدين 13 عاما ومارس الحكم خارج أي نص دستوري وبسلطة مطلقة لا ينازعه فيها منازع، وحتى عندما قرر أن يضع دستورا وضعه، كما تتفق الآراء في الجزائر، على مقاسه، ووفق تصوره هو للسلطة، وجعل السلطات وظائف تمارس فقط من أجل غاية واحدة. الرئيس الثالث، أي الشاذلي بن جديد، أتى في ظرف خاص جدا. وكان هذا الظرف وفاة الرئيس هواري بومدين، وهي الوفاة التي أدت إلى حال شغور في أعلى منصب في الدولة لأول مرة. وبعد الكثير من المضاربات التي عشناها في تلك الأيام، لعل أهمها التسابق بين وجهين في مجلس الثورة وهما وزير الخارجية آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة من جهة ومن جهة ثانية مسؤول الحزب محمد الصالح يحياوي. الأول كان يوصف بالليبرالي المفضل في الغرب، والثاني كان يوصف بأنه يساري وهو المفضل لدى المجموعة الشرقية آنذاك. لكن المهم في هذه العجالة من هي القوة التي فصلت في هذا التسابق، إن وجد، وما هي الآلية التي اعتمدت لاختيار الرئيس الجديد؟ في هذا الأمر هناك رواية تكاد تكون متطابقة في جميع الروايات الشفوية أو المكتوبة، وهي أن القيادة العسكرية أو الوجوه الأساسية في هذه القيادة، خاصة قاصدي مرباح مسؤول المخابرات العسكرية حينها، هي التي اختارت عضو مجلس الثورة الشاذلي بن جديد ليكون " مرشح المؤتمر الرابع للحزب!!" لرئاسة الجمهورية، وذلك على أساس قاعدة: الأقدم في الرتبة الأعلى. وقد يكون من الغرابة القول إن هذه القاعدة كانت مستخدمة من قبل الانكشارية، حيث كانت تختار الكاهية أو العقيد وفق قاعدة الأقدم في الرتبة الأعلى، وكان يسمى أغا الهلالين، لأنه لم يكن يحتفظ بمنصبه إلا شهرين فقط. أما الرئيس محمد بوضياف فقد وصل إلى كرسي الرئاسة في ظروف متأزمة ونتيجة لانقلاب عسكري أبيض ضد الرئيس الشاذلي من قبل وزير الدفاع خالد نزار ورفاقه في قيادة الجيش. ولأن "الانقلابيين" لم يكن لهم زعيم، فقد تم اللجوء في ظروف ما زال حولها الكثير من الضبابية، إلى " السي الطيب الوطني" أحد الوجوه التاريخية المفجرة لثورة نوفمبر المجيدة. حكم الرجل لم يدم إلا حوالي 6 أشهر واغتيل في الظروف التي يعرفها الجميع. وأكمل فترة رئاسة الشاذلي بن جديد أحد أعضاء الرئاسة الجماعية على كافي، وهو أحد قادة جيش التحرير وأحد العقداء وقائد الولاية الثانية التاريخية. الرئيس الذي خلف على كافي هو الجنرال اليمين زروال، وقد وصل إلى كرسي الرئاسة تقريبا بالطرق نفسها، أي أنه اختيار القيادة العسكرية، وترشح بعد ذلك للانتخابات العامة، وضد مرشحين آخرين، وتم انتخابه. وأما وصول الرئيس بوتفليقة فهو معروف، وهو الآخر تم ترشيحه بعد حدوث ما يمكن أن نسميه توافق داخل المؤسسة العسكرية وبعد ضمان " مساندة!!" سياسية من قبل أحزاب الحكم خاصة، أي جبهة التحرير والتجمع الوطني، ثم كل من حمس والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. أما كيف يغادر الرؤساء السلطة، فنرى بوضوح أن اثنان غادرا كرسي الرئاسة بالموت. الأول، أي هواري بومدين، توفي في ظروف غامضة ولكن شبه عادية، أما الثاني، أي محمد بوضياف، فمات مغتالا في ظروف ما زالت تلفها الكثير من الشكوك، على الرغم من حكم العدالة على الذي اغتال الرئيس بوضياف، مبارك بومعرافي، بالفعل المنفرد. ويمكن القول إن الرئيس الوحيد الذي انتهت مهامه بشكل عادي في ظروف غير عادية، هو الرئيس علي كافي. أما الرؤساء الثلاثة الآخرون، أي أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد واليمين زروال فقد غادروا السلطة إما في ظروف انقلابية واضحة أو في ظروف غامضة تصر السلطة وكتابها على أنها غير انقلابية كما هو الحال بالنسبة للرئيسين الشاذلي بن جديد واليمين زروال. وفي كل هذا يمكن أن نلاحظ أيضا أنه من 1962 وإلى 1978 حكم الجزائر رئيسان فقط أي مدة زمنية تصل إلى 16 سنة، وحكم الجزائر من 1979 إلى 1992 أي مدة 13 سنة رئيس واحد وحكم الجزائر من 1992 إلى 1999 أي مدة سبع سنوات ثلاثة رؤساء. هل الأمر طبيعي وليس فيه أي وجه للاستغراب؟ربما، لكن إذا ما ذهبنا في هذا التمعن إلى بعد آخر من أبعاده وهو: هل فشل الرؤساء في الوفاء ب" وعودهم الانتخابية" هو الذي لم يمكنهم من الحصول على فترة رئاسية أخرى؟ طبعا الإجابة واضحة، وهي أنه ليس للأمر أي علاقة ب " عقاب" من الناخبين!! إذا أضفنا للرؤساء رؤساء الحكومات الذين تم " استهلاكهم" في الفترة نفسها وهم الآخرون على قيد الحياة، فإننا نرى أن عددهم كبير جدا.. عبد الحميد ابراهيمي، مولود حمروش، سيد أحمد غزالي، بلعيد عبد السلام، رضا مالك، مقداد سيفي، اسماعيل حمداني، أحمد بن بيتور، على بن فليس، وعبد العزيز بلخادم، وأحمد أويحي. إنهم عشرة رؤساء حكومة من 1988 وإلى اليوم أي في مدة عشريتين، أو معدل سنتين لكل رئيس حكومة، ونحن نعرف أن أغلبهم لم يستمر على رأس الحكومة أكثر من سنة. ما الذي يفسر هذا؟ هل الأزمة؟ ربما لكن هناك عوامل أخرى. نعم لقد عجلت الأزمة بسقوط الرؤساء والحكومات، لكن المسألة الأهم كيف أتى هؤلاء إلى الحكم وكيف غادروه؟ فلو أتى هؤلاء ب " الإنتخابات" وذهبوا ب " الإنتخابات" فذلك أمر عادي، أما وأن الأمر لم يكن على هذا النحو فهو في حاجة للتمعن. المسألة الأخرى الملاحظة أن ذهاب كل هؤلاء الرؤساء وكل هؤلاء رؤساء الحكومات لم يزد الأزمة عمقا أو تعقيدا، وهو ما يجعل الأمر يأخذ تفسيرا واحد إنهم لم يكونوا السلطة بل كانوا سلطة، وهي سلطة وصفها الكثير من السياسيين ومن المحللين بسلطة الواجهة وسماها آخرون بال "fusible"! وإذا انتقلنا إلى مستوى آخر من التحليل، فإننا يمكن أن نقول إن التفسير يكمن في طبيعة نظام الحكم ذاته وفي آليات إدارة هذا النظام. لقد كتب الكثير عن الأزمة وعن السلطة والحكم في الجزائر، وكان الحكم الأكثر ترديدا هو أن القوة المهيمنة على الحكم هي قادة المؤسسة العسكرية، وهي الجهة التي " تصنع الرؤساء" وهي التي " تسرحهم!" وهي التي تأتي بالحكومات وهي التي تستغني عنها. وبغض النظر عن صحة ذاك أو عدم صحته فإنه بإمكاننا مقارنة الظروف التي جعلت كل من الرؤساء الأحياء يغادر الحكم. فأحمد بن بلة غادر الحكم بانقلاب عسكري سمي "تصحيحا ثوريا " وهو ما يعني وجود انحراف عن الخط الثوري. ولكن من هو مخول في النظام السياسي بتقييم عمل الرئيس ومدى مطابقته ل " الخط الثوري" هل هي مؤسسة أم مؤسسات أم هي أفراد ومجموعات أم هي قوة منظمة داخل مؤسسة؟ طبعا إنها قوة منظمة داخل مؤسسة الجيش. وغادر الرئيسان الشاذلي بن جديد واليمين زروال وهما وجهان قياديان في المؤسسة العسكرية في ظروف متشابهة، أي أزمة سياسية خانقة. الأولى جاءت بعد أول انتخابات تشريعية تعددية، وفاز في دورها الأول، وفق ما تقر به الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، بأغلب المقاعد جبهة الإنقاذ. وجاء تقدير طرف في السلطة أن الوضع خطير وأن الرئيس له " نية التحالف مع جبهة الإنقاذ" وأن ذلك يعرض استقرار الدولة ومؤسساتها للاهتزاز، وجاء قرار دفع الرئيس للاستقالة وحل المجلس الشعبي الوطني وإلغاء نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية وإيقاف المسار الانتخابي. أما الثاني، أي الرئيس اليمين زروال، فقد سبق إعلانه عن تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة سنة 1999، أزمة سلطوية حادة، أوحت بها في صيف تلك السنة، حملة ضد الجنرال محمد بتشين الوزير المستشار للرئيس اليمين زروال وصاحب النفوذ الواسع. وكان وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى كرسي الرئاسة موضوع الكثير من التجاذب، سواء في 1999 أو في 2004. ففي سنة 1999 تم تنظيم انقلابات سياسية على قيادات أحزاب رفضت مساندة ترشيح المرشح الحر عبد العزيز بوتفليقة، مثل التجمع الوطني. وفي سنة 2004، رأينا ما يشبه أزمة داخل بعض دواليب السلطة، وقالت بعض الكتابات أن أطرافا داخل قيادة المؤسسة العسكرية رفضت تمكين الرئيس بوتفليقة من عهدة ثانية، وذهبت الأصابع في اتجاه اللواء محمد العماري، الذي أحيل على التقاعد فترة بعد تلك الانتخابات الرئاسية. اليوم ضمن الرئيس بوتفليقة عهدة ثالثة، وفي ظروف أقل تأزما من العهدة الأولى والثانية، حتى وإن اضطر للقيام بتعديل للدستور، سماه تعديلا جزئيا، لأن الظروف، كما أوحى، غير مهيأة لتعديل وصف بالمعمق. نستنتج من كل هذا أن النظام السياسي الجزائري، كثيرا ما عرف التأزم في موضوع اختيار الرئيس أو في ظروف مغادرته لوظيفته. ونستنتج أن الذي ينبغي إصلاحه هو آليات اتخاذ القرار وآليات انتقاء من يحق لهم الوصول لكرسي الرئاسة، وليس فقط صلاحيات الرئيس. إن النظام الرئاسي في نمط الحكم الذي ساد في الجزائر يجعل، حتى مع توسيع صلاحيات الرئيس توسيعا كبيرا، الوظيفة الرئاسية وظيفة هامة ولكنها مجرد وظيفة.