لستُ أدري لماذا كلما اقترب موعد سياسي مهم كلما كثر المهابيل في القطار، الهيئة هيئة مهبول، لكن الخطاب خطاب مثقف، يصعد أحدهم إلى القطار، يرفض أن يجلس حتى وإن كانت الكراسي متوفرة، يتموقع في رواق العربة ويشرع في الحديث، في البداية يشمئز الناس، لكن بعد مرور دقائق قليلات يحل الضحك محل الاشمئزاز. كنت أنوي أن أستغل وقت القطار في إكمال رواية "لا يترك في متناول الأطفال" باكورة المبدع سفيان مخناش من سطيف، رواية تغرقك في عسل اللغة ومرارة العشق، وكنت ناويا أن أغرق، لكن شابا لا أعتقد أنه يتجاوز الثلاثين شرع في الحديث، فشرعت في الانتباه، أنا أصلا أحرص على استعمال القطار تصيّدا لمثل هذه اللحظات، منها أستلهم مواضيع مقالاتي وأعمدتي، ومنها أواكب هوامش كثيرة في حياة الشارع، لو كان الشارع الجزائري يتكلم لاشتكى تأخر النخب السياسية والثقافية عن مواكبته، شارع يعاني المواكب السياسية والثقافية يستقيل معنويا بالضرورة، ويصبح عصيا على توقع ردود أفعاله، حتى أن نظاما محترفا في رصد ردود الأفعال مثل النظام الجزائري أثبت من خلال تصريحات فاعليه في وسائل الإعلام أنه عجز عن توقع ردود أفعال الشارع الجزائري بخصوص الانتخابات التشريعية القادمة، إلى درجة تحس معها بنبرة الرعب في الكلام والملامح، لأنهم يدركون أكثر منا نحن الذين في الأسفل ما معنى ألا يثري الشعب هذه الانتخابات بالمشاركة الواسعة، خاصة أن سياقا قاهرا في الداخل والخارج يمنعهم من التزوير، كل تزوير ليس في صالحهم على الإطلاق، وهي المرة الأولى منذ فجر الاستقلال يصبح الحرص على عدم التزوير مشتركا بين الأحزاب والسلطة، لكن لماذا لم يملك النظام الجرأة ليصارح الجزائريين بأنه مارس التزوير سابقا، وبأنه ظلم بعض الأحزاب، وغذى بعض الأحزاب، وتعسف في بعض السياسات، والاعتراف الصادق يطهر صاحبه في منطق الجزائريين، لا أحد يستطيع أن ينكر أن الجزائري يقسم بربه إنه لن يسامحك، لكن ما إن تعتذر له وتعترف بتعسفك في حقه حتى يذوب غضبه، ويصبح أكثر حميمية معك. أرى أن السلطة مقبلة على اقتراف خطأ ليس في صالحها ولا في صالح الجزائريين، وهو أنها تمسح الموس في الأحزاب المشاركة، فتقول إنها لم تفلح في إقناع المواطن، وهي أحزاب فاشلة فعلا، لكن على السلطة أن تعترف بأنها ساهمت عن قصد أو غيره في جعل الطبقة السياسية بهذا الشكل والمضمون. كان الشاب المهبول أو المتهابل يمسح فمه من بصاقه لكثرة وحرارة كلامه، قال إن الأحزاب الإسلامية تقول إن الجزائري فقد هويته، وهي لا تقصد إلا البعد الإسلامي في الهوية، وأنا أقول لهذه الأحزاب المتاجرة بالدين إنكم أكثر تعسفا من النظام، تعالوا ندرس واقع الأبعاد الأخرى في الهوية الوطنية، فسنجدها تعاني كلها ما عدا البعد الإسلامي فإنه مرتاح، لإجماع الشارع الجزائري عليه، ولأنه محل تجارة بين الأحزاب والسلطة معا، الكل يبرهن على صلاحه وصلاحيته بالإحسان إلى هذا البعد،، فهو إذن دائما مرعي لا بأس عليه، فلماذا التركيز على بعد محقق في هويتنا ولا أحد ينكره.. لا أحد ينكره، حتى سعيد صامدي لا ينكره، وإهمال أبعاد أخرى بحاجة إلى رعاية واهتمام تجنبا لمشاكل نحن في غنى عنها، شوفو نتجية إهمالنا للبعد الإفريقي في هويتنا، إننا نتصرف كأننا لسنا أفارقة، ونتحسس من هذا البعد، يمّالا اليوم يا ناس العقرب راه غادي يجينا من الجنوب. قلّ الضحك، حين كثرت الحكمة في كلام الشاب الذي راح يقول: لوكان جيت في بلاصة الشعب، ما ننتاخب على هاذ لحزاب نتاع الخرطي ما نقاطع لنتخابات، نروح نحط ورقتي بيضا، بيضا كقلبي، علاش؟، باش نصفع تجار الداخل والخارج بيد وحدة. نطق أحدهم: نت باين باعثينك السرابس باش تسربسنا، كلامك ما هو نتاع مهبول، ، قال الشاب: ما يهمكش شكون باعثني، يهمك واش نقول، راني نخرط، ولا نهدر في كلام معقول؟. وصل القطار إلى المحطة النهائية فتقيأ ركابه، لا زلنا بعيدين عن حضارة الدخول والخروج، نحب أن نتدافع حتى وإن كانت المركبة تكفي، هههههههههههه قد يتدافع أحدنا مع ظله إن وجد المركبة خاوية إلا منه، كنت ذاهبا إلى مركز التسلية العلمية في أودان لأوقع كتبي في معرض للكتب هناك، قلت في نفسي: ليتنا نمارس شهوة التدافع في كل شيئ، حتى في معارض الكتاب. كتب.. يكتب.. كتابة في كتاب لا تدافع عليه.