كان يوم العمل الرسمي قد انتهى عندما اتصل بي الأخ مولود حمروش مدير التشريفات الرئاسية ليطلب مني أن أوافيه في مكتبه بسرعة، لأن هناك حادثا جللا وقع، وكانت المعلومات الأولية المتوفرة تقول بأن محمدالصديق بن يحيى، في ذلك الصيف من عام 1981، كان متوجها إلى فريتاون على متن الطائرة الصغيرة من طراز ميستير، التي سقطت به بالقرب من باماكو. وانتقلنا، مولود وأنا، إلى وزارة الخارجية التي كانت على اتصال مستمر بسفارتينا في مالي والسنغال، وأبلغ الرئيس بالخبر الأوّلي بينما ظللنا نحن نتابع التطورات، مع الأخ محمد الصالح دمبري، الأمين العام للخارجية ، حتى ساعة متأخرة، متكتمين على الخبر حتى تتضح معالمه. وأكدت مصادر مركز المراقبة الجوية بالسنغال ثم مالي وفاة كل الركاب فأعددتُ خبرا يظل تحت الحظر (Sous embargo) وأرسلت بالخبر إلى وكالة الأنباء الجزائرية والإذاعة والتلفزة الجزائرية مع التأكيد بألا يُبث قبل أن أعطي شخصيا الإشارة بذلك، وهو إجراء مألوف في حالات كثيرة، وكلفتُ الإذاعة والتلفزة بالاستعداد لوضعية الحداد الرسمي. وقبل أن ينتهي اليوم كانت الاتصالات كلها تؤكد ألاّ ناجين، وهنا تسرّع المدير العام للإذاعة والتلفزة فأعلن الحداد بدون أن يتلقى مني التعليمات اللازمة معتمدا في ذلك على مصدر مُعين أبلغه بأن الأمر انتهى (وستكون تصرفاتٌ من هذا النوع بداية الكارثة الإعلامية حيث تستطيع مراكز نفوذ معينة أن تبث ما تراه متجاوزة بذلك السلطة المسؤولة مباشرة عن الجهاز، وسيزداد الأمر سوءا في مرحلة العددية ،وليس التعددية، الصحفية ونشوء القطاع الخاص) وفي نفس اللحظات التي بدأت الإذاعة تبث القرءان الكريم وقعت المُعجزة ووردت إشارة تبلغنا بوجود جسد يتحرك خارج الطائرة، ثبت فيما بعد أنه كان الأخ بن يحيى، الذي نجا من الحادث وتمكن من الزحف خارج الحطام، كما نجا الأخ محمد عبادة، بينما قضى الباقون نحبهم. وعندها أصدرنا البلاغ النهائي، فوجئ مدير التلفزة فبادر إلى إيقاف وضعية الحداد الإذاعي والتليفيزيوني بعد نحو ساعتين، وكان يُمكن لو حدث تشاور في الأمر أن يستمر الحداد يوما كاملا، وكانت ردود الفعل الشعبية على ذلك بالغة السوء، إذ رأى كثيرون، وعن حق، أن إلغاء الحداد كان نتيجة لنجاة الوزير، وهو ما يعني أن بقية الضحايا لا يستحقون أن تحزن عليهم البلاد. والغريب، وهو في الواقع ليس مستغرب، أن المدير العام المسؤول ادعى فيما بعد أنه تلقى تعليمات تطلب منه القيام بما قام به، وكان ذكيا فلم يحدد ممن جاءه الأمر بإعلان الحداد أو بإلغائه، وقضى بن يحيى شهورا في العلاج، واستقبلته في المطار عند إعادته وكان على نقالة. لكن يبدو أنه كان مطلوبا أن يموت. كنت في بيتي، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء يوم الاثنين الثالث من مايو عندما دق جرس الهاتف الخاص الذي كان يربطني برئاسة الجمهورية وسمعت صوت مولود حمروش يكلمني بصوت كأنه يخرج من بين الأضراس : فلان ؟ هل باستطاعتك الحضور بسرعة ؟، وأجبته بأنني قادم على الفور. وتساءلت وأنا أرتدي ملابسي عن سبب الدعوة المفاجئة، وكان من أهم ما حيرني هو الأسلوب الجاف الذي استعمله مولود، إذ كنا دائما، ونحن نتحدث هاتفيا، نتبادل بعض التحيات أو المُجاملات أو المداعبات. وطاف بذهني أكثر من احتمال كانت كلها توحي بالقلق، فوضعت مسدسي في جيبي الداخلي بعد اطمئناني إلى أنه محشوّ، لكنني لم أجد شيئا يثير الريبة عند مروري بمدخل الرئاسة، وكان أول ما لاحظته على وجه مولود عندما دخلت إلى مكتبه قناع الحُزن الشديد على وجهه، وقبل أن أسأله عن الأمر قال : "إنه بن يحيى ثانية"، ولعلي تساءلت بصوت اختلطت فيه الدهشة بالإنكار فقال :"لقد سقطت به الطائرة ثانية. كانت الجزائر، في عهد الرئيس الراحل هواري بو مدين، قد لعبت دورا بالغ الأهمية، وبطلب من القيادة العراقية، لتهدئة الأوضاع بينها وبين إيران، ووفرت الظروف المناسبة لاجتماع شاه إيران مع رجل العراق القوي صدام حسين، نائب الرئيس، وهو ما أدى إلى عقد اتفاق الجزائر عام 1975. لكن الفتور بدأ يسود العلاقات بين الجزائر والعراق بعد تراجع العراق عن الاشتراك في الجبهة القومية للصمود والتصدي التي أنشئت في طرابلس في نوفمبر 1977، كرد فعل على زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس المُحتلة، بحجة أن سوريا توافق على قرار مجلس الأمن 242. وربما ضاعف من الفتور إحساس العراق بالنوعية المتميزة للعلاقات الجزائرية السورية، والتي أخذت بعدا متزايدا إثر موقف الرئيس الجزائري الداعم لسوريا في حرب أكتوبر 1973. وتزايد الفتور في العلاقات بين الجزائر وبغداد بعد رفض الجزائر المُهذب لفكرة الميثاق القومي العراقي كما سبق أن قلت، وترك الفتور مكانه لنوع من الغضب والمرارة إثر اندلاع الحرب بين العراق وإيران في سبتمبر1980، حين تمسكت الجزائر بوقف الحياد الإيجابي ورفضت الانحياز العِرقي لوجهة النظر العراقية، مفضلة التزام موقف متفهم للطرفين. وربما غاب عن النظر آنذاك بأن إشعال الحرب كان يندرج في إطار جهنمي لعله يعني من بين ما يعنيه أن الذين أشعلوا نارها لن يسمحوا بأن يخمد اللهيب إلا بإشارتهم، وبعد أن تحقق كل الأهداف المطلوبة منها وأهمها استنزاف الطرفين، وبالتالي كان كل مسلم يريد للحرب أن تتوقف. ومن هذا المنطلق كان موقف الشاذلي بن جديد وفي هذا الإطار اندرج تحرك الوفد الجزائري، الذي كان يضم عددا من خيرة إطارات وزارة الخارجية الجزائرية برئاسة بن يحيى، استقل الطائرة الرئاسية الجديدة من نوع غرومان، ولكن الطائرة سقطت على الأرض الإيرانية في منطقة كوتور (Quottour). كنا لا نزال نعيش عقدة سقوط "المستير" في باماكو العام الماضي، وما ارتبط بها من تصرفات متسرعة ومن سوء تقدير، ومن هنا كنا بالغي الحذر والدقة ونحن نتحرى الأخبار، وأعطيتُ المعلومات كاملة كما وصلتنا في اليوم التالي، وبعد أن تم الاتصال بأسر الضحايا جميعا، وأرسلت طائرة جزائرية خاصة لإحضار الجثامين، وتقرر أن يُبث الوصول يوم السادس من مايو على الهواء مباشرة عبر التلفزة الجزائرية. ودخلت مكتب مولود صباح اليوم السابق لوصول الطائرة لأبحث معه بعض التفاصيل، فوجدته يحمل في يده برقية قال إنها من سفارتنا في إيران وتعطي بيانات عن وصول الطائرة الجزائرية الخاصة، وكان مولود، الذي أخذ منه الحُزن كل مأخذ، يُحدق في البرقية وكأنه يُحاول قراءة رسالة مشفرة لم يتم حل رموزها بعد، ثم أعطاني البرقية وهو يقول : "ماذا تفهم من هذا ؟" كانت البرقية بتوقيع سفيرنا في طهران، وتقول، من بين ما تقوله بعد الإشارة إلى موعد وصول الطائرة، بأن جثمان بن يحيى موضوع في تابوت معدني أما البقية فموضوعة، ربما بحكم السُرعة، في توابيت من الخشب الأبيض... بهذا التعبير". كان السفير هو عبد الكريم غريب، وهو من الشخصيات اللامعة في المجال الديبلوماسي، وكنت أعرف أنه يستعمل الضروري من الكلمات لإرسال الضروري من المعاني، وهو ما قلته إجابة على سؤال مولود، ثم قلت، وكأنني أفكر بصوت عالٍ، بأنني أتصور بأن عبد الكريم أراد أن يُحذرنا من أن التوابيت الخشبية، وربما كانت من الخشب الحبيبي، هي بدون باطن معدني، وهو ما يعني أنها هشة جدا، خصوصا إذا تسربت إليها سوائل، وهو أمر متوقع الحدوث. وقلت لمولود، وربما كان ذلك بتأثير التكوين الطبي، بأن سبب الوفاة هو حادث ارتبط بحريق، ويمكننا أن نتخيل الصورة التي ستكون عليها أجساد الضحايا، وهو ما يعني ببساطة أن التوابيت يمكن أن تتفكك عند نقلها لبيوت الضحايا، وتصدم العائلات بالمنظر الرهيب للأجساد المتهرئة. كان مولود يتمتع بكل صفات مسؤول الدولة الذي يعرف واجبه والتزاماته، ولم يضع وقتا في النقاش أو البحث عن غطاء كعادة البعض بعد ذلك، بل أصدر تعليمات هاتفية فورية بإعداد أربعة عشر تابوتا فيها كل المواصفات المطلوبة على أن يتم ذلك في 24 ساعة على أكثر تقدير، وهو ما حدث بالفعل وكان صورة عن جدية الدولة وفعالية مؤسساتها وانضباط عناصرها. ووضعت التوابيت الجديدة بعيدا عن الأنظار في حظيرة معزولة بمطار هواري بو مدين الدولي قبل وصول الطائرة، ووقف إلى جانبها مجموعة محدودة من الممرضين المؤهلين. وتجمع في القاعة الشرفية للمطار عدد من كبار المسؤولين وأسر الضحايا، وعلى بعد نحو كيلومتر وفي الحظيرة المعزولة كنت أنتظر مع مولود ، الذي أصر على أن يظل بجانبي، بينما وقف في مدخل الحظيرة العربي بلخير والهادي خديري وقاصدي مرباح. وكانت تعليماتي المشددة للتلفزة أن تنتظر مني شخصيا الأمر بإطلاق البث المباشر لوصول الطائرة. وتصل الطائرة بدون أن يعرف أحد بذلك في القاعة الشرفية، وأقوم ومن معي في الحظيرة المعزولة بفتح التوابيت المهترئة ثم نقل الجثامين إلى التوابيت الجديدة، والاطمئنان إلى تطابق الاسم مع الجثمان، ثم كوّمت التوابيت القديمة وكل ما كان فيها في مكان منعزل ليتم حرقها، وحُملت التوابيت الجديدة بشكل عكسي إلى الطائرة التي تحركت متوجهة إلى الموقف رقم 8 أمام القاعة الشرفية. وعندما كان المواطنون يتابعون على شاشة التلفزة وصول الطائرة لم يكونوا يعرفون أنها كانت قد وصلت قبل نحو ساعتين. وتم الأمر كله بشكل جدير بالجزائر، بفضل رجال من نوع عبد الكريم ومولود وآخرين في الأمن الرئاسي والتشريفات والإعلام، قام كل بواجبه لا يبغي جزاء ولا شكورا.